كون الشّاعرة التّونسيّة إيمان عمارة في مجموعتيها حريق في الذّاكرة وبلا مطر :الثّوابت والمتغيّرات : محمّد صالح بن عمر 12 أغسطس,2019 إيمان عمارة ليست ايمان عمارة من الشّعراء المكثرين. فلم تصدر منذ سنة 1979 تاريخ ظهور مجموعتها الشّعريّة الأولى، أي في اثنين وعشرين عاما ،سوى أربع مجموعات جاءت بالعناوين التّالية حريق في الذّاكرة ( 1997 ) (1) وبلا مطر ( 2009 ) (2) و رصاصة عاشقة ( 2014) و فُصام (2015) فضلا عن مجموعة في النّثر الشّعري عنوانها معتقل عاطفيّ (2012). ومردّ ذلك إلى ما تطبّعت به من ميل إلى الأناة والحرفيّة و من توق إلى بلوغ درجة الإتقان في ما تنشئ من قصائد . وهو ما وسم كلّ قصيدة من قصائدها بطابع مخصوص وصبغها بلون مُميّز لا من باب التّشاخص والتّنافر وإنّما في إطار الوحدة والتّكامل. وهذا لا يتأتّى إلا بوجود ما يسمّى كونا شعريّا أو مخيالا* شعريّا . والمقصود بهما العالم المتخيَّل الذي ينشئه الشّاعر ذو الرّؤية المتّسقة ، المتماسكة ، المتفرّدة ، ليراوح بين الإيواء إليه في لحظات الانخطاف والاستقرار في العالم الماديّ الموضوعيّ . و للشّاعرة إيمان عمارة خصيصة ثانية هي نزوعها الشّديد إلى تنقية العبارة من الدّلالات المرجعيّة إلى أقصى حدّ ممكن . وذلك بتكثيف الرّموز والمعاني الإيحائيّة . وهذا ما أسبغ على كونها الشعريّ مسحة غَبشيّة تتيح للمتلقّي ألوانا شتّى من التأويل فتجعل القصيدة بمنزلة الينبوع الثرّ الذي لا تستنفده القراءات المتعاقبة . وثمّة خصيصة ثالثة لا تقلّ عن السّابقتين أهمّية هي انشغال الشّاعرة المتزايد بالقضايا الوجوديّة والظاهرتيّة * لاسيّما في المرحلة اللاّحقة لصدور مجموعتها الأولى حريق في الذّاكرة . وهذا المعطى أسهم على نحو لافت في إضفاء مسحة إضافيّة من التّجريد على لغتها الشعريّة . ولقد بات مقرّرا اليوم أنّه إذا كان العالم الخارجيّ المحسوس الذي عاش أو يعيش فيه الشّاعر يمكن معاينته في الواقع فإنّ الكون الشعريّ لا يتهيّأ النّفاذ إليه إلا من باب الخطاب. وذلك لاستقراره في بنية اللّغة العميقة التي هي بإجماع العرفانيّين * اليوم البنية الدلاليّة . وهذه البنية في النصّ الشعريّ تتألّف من مستويين متفاعلين : أحدهما دلاليّ حقيقيّ أو واقعيّ – وما هو إلا انعكاس للعالم الخارجيّ الماديّ الموضوعيّ لكن دون أن يكون بالضّرورة مستنسخا عنه – والآخر دلاليّ مجازيّ وهو يضمّ مجموع المكوّنات والعناصر التي هي من فعل التخيّل . وهكذا فإنّ للعالم الموضوعيّ حضورا لازما في وعي الشّاعر . لكنّ هذا الحضور يكون إمّا مطابقا للواقع . فيكون عندئذ على هيئة ما يسمّى محتمل الوقوع * وإما حضورا ضمنيّا إذا جنح الشّاعر إلى تنقية خطابه من الدّلالات المرجعيّة . وإذا نظرنا إلى عالم إيمان عمارة الشعريّ، كما يتبدّى في مجموعتيها الموسومتين بحريق في الذاكرة وبلا مطر ، وجدناه من النّوع الثاّني . وقد أسهم في ذلك أيضا عامل أجناسيّ هو اختيارها الكتابة في قصيدة النّثر التي من أوّل شروطها الفنّية التوهّج . وهو الذي يتحقّق بإنشاء الصّور الجديدة المدهشة المثيرة لارتباك المتلقّي واللاّزمنيّة الماثلة في اجتناب السّرد إلى أقصى حدّ ممكن والتّكثيف الذي يتجسّد في تجميع الدّلالات الإيحائيّة على صعيد كلّ سطر شعريّ . لكنّ غلبة ما هو من نتاج التخيّل في هذا الكون الشعريّ على ما هو من قبيل الدّلالة المرجعيّة الواقعيّة لا يمنع من استكشاف مكوّناته الكبرى ووظائفها وتفاعلها داخله . فهو ، فيما يلوح لنا بعد القراءة المتأنّية المتكرّرة لقصائد المجموعتين ، يتألّف من مكوّنين كبيرين هما : الذّات الشّاعرة والعقليّة الذكوريّة المتوارثة ، المتجسّدة في الرّجل والمحيط الاجتماعيّ الذي ينتمي إليه . على أن هذين المكوّنين وإن كانا ثابتين في المجموعتين فإنّ تغييرا شبه جذريّ قد طرأ في المجموعة الثّانية على أحدهما وهو الذّات الشّاعرة . فتحوّلت من النّقيض إلى النّقيض وأثّر تحوّلها هذا تأثيرا عميقا في العلاقات القائمة بينها وبين المكوّن الثاني . وذلك على الرّغم من أن ستّا وعشرين قصيدة من مجموع خمس وثلاثين اشتملت عليها هده المجموعة مؤرّخة فيما بين سنتي 1998 و2003 أي في السّنوات الخمس التي تلت صدور المجموعة الأولى . وهذا يدلّ إما على نضج سريع لكيان الشّاعرة النفسيّ والذهنيّ وإمّا على نجوم حالة من الوعي المفاجئ لكن الحاسم لديها وإمّا على تزامن هذين الحدثين معا . وهو ما قد يفسّره قولها في قصيدة لها بعنوان ” مصالحة ” : أنوثتي أستلّها جمرةً… جمرةً… دفقُ الماءِ على رُخامِ الوجهِ اضطرام ُالكُحلِ في الهُدبِ احتفالُ العنّابِ في حَضْرةِ البلَحِ… على ألقٍ… أمضي إليَّ أتحسّسُ هذا المَحارَ الخجلَ المخبوءَ… في فساتينِ العتمةِ أفكُّ أزرارَ الدّمعةِ الأولى وأعيدُني إليَّ ( بلا مطر ص ص 20-21 ) ولعلّ المقصود بهذه المصالحة أنّ الشاعرة تخلّصت من الشّعور بالذّنب الذي غرسه في نفسها المجتمع الذّكوريّ لمجرّد كونها أنثى . لذلك ما إن تحرّرت نفسيّا حتّى أعلنت الثّورة والعصيان لكي تصبح حريّتها واقعا اجتماعيّا محسوسا . تقول في هذا المعنى مخاطبة بنات جنسها : يتُها المصلوبةُ في كهوفِ النّسيانِ يتُها التّاءُ انتفضي… انتفضي… (تاء التأنيث ص ص 26 – 27 ) لكن قبل أن نتوسّع في الحديث عن هذا الانقلاب لنعد إلى الوضع الأوليّ لكون إيمان عمارة الشعريّ . 1- كون إيمان عمارة الشعريّ في حريق في الّذاكرة ( 3 ) : تكشف مجموعة حريق في الّذاكرة ( 1997 ) ، مثلما بيّنا في دراسة سابقة ، عن استئثار الذّات الشّاعرة بالحضور الأقوى فيها . وذلك بحكم مجيء الخطاب في كلّ القصائد على لسانها . فهي التي تصف وتفسّر وتحتجّ وتعلّق . وهي التي من زاوية وجهة نظرها الخاصّة تتشكّل في ذهن القارئ ملامح كلّ مكوّن : هي نفسها حين تتّخذ ذاتها محورا للحديث والعقليّة الذّكوريّة التي يجسّمها الرّجل و المحيط الاجتماعيّ . لكنّ هذا الحضور كميّ فقط . أمّا دلاليّا فهي لا تبرح موقف البطل السّلبيّ أو المضادّ والمأسويّ وإن شئنا بلغة أدقّ دور المُتَحَمِّل * . وذلك بحكم قبوعها في موقع المعتدَى عليه الذي لا يردّ الفعل وإنّما يكتفي بتلقّي الضّربات من الطرف المقابل ، مع الاسترسال في الشّكوى وتصويرالأذى الذي يلحقها على نحو مستمرّ من خصمها الأوّل : الرّجل ومن المحيط الاجتماعيّ المهيكل وفق رؤاه والموظّف في فرض الهيمنة المطلقة لعقليّته المعادية لها ولكلّ بنات جنسها . فالسّمة الأولى لهذا الكون الشّعريّ في مرحلته الأولى هي إذن التّناقض بين توق الذّات الشّاعرة إلى الحرّية باعتبارها الشّرط الضّروريّ لتحقّق توازنها النّفسيّ والجسميّ واكتسابها صفة الإنسان الكامل والعقليّة الذّكوريّة التي يحملها الرّجل بل المجتمع بأسره وترى في تلك الحرّية خرقا للنّواميس يؤذن بنسف القيم المتوارثة السّائدة وتدمير المجتمع بأسره . ولكنّ هذا التّناقض لم يتوّلد عنه ، مع ذلك ، صراع ومواجهة، بحكم الّتفاوت الشّديد بين موازين القوى وإنّما حالة اختناق قارّة تعيشها الذّات الشّاعرة انجرّت عنها ضروب من العلل على هيئة عُصابات * وذُهانات * متنوّعة . 2- ملامح الكون الشعريّ في بلا مطر : في هذه المجموعة الثّانية التي صدرت اثنتي عشرة سنة بعد الأولى يواصل الرّجل والمحيط الاجتماعيّ في المستوى الواقعيّ من وجهة نظر الذّات الشّاعرة محاصرتها وتضييق الخناق عليها ، مسهمين بذلك في استمرار التّناقض القائم بينها وبينهما . وهو ما تفصح عنه الشّاعرة في هذا المقطع : يا مُهْرةَ الرّيحِ قولي لماذا…كلّما أينعتْ عناقيدُ الوجدِ في حقولي ألغى قيسٌ موسمَ القِطافِ..؟ وهل قدري… كلّما أينعتْ في قِبابي فصولَ الجفافِ أن أحلُمَ بربيعٍ… تخلّفَ عن رَكْبِ الفصولِ..؟ (ربيع الجفاف ص 34) لكنّ الجديد في هذه المجموعة الثّانية هو انقلاب شخصيّة الذّات الشّاعرة على صعيد الوعي من السّلب إلى الإيجاب ، من صفتها القَمَريّة المأسويّة إلى طَبْع شمسيّ ملحميّ وتحوّل مزاجها من الشّعور بالانكسار والإحباط وانسداد الآفاق إلى الاعتداد بالّنّفس والإحساس بالتفوّق . وهو ما جعلها تقف من خصميها اللّدودين موقف استعلاء على اعتبارهما يشكّلان في نظرها ظاهرة سلبيّة وتنساق في الآن نفسه إلى الحلم ببديل إيجابيّ مشرق . إن هذا التّغيير الجذريّ الذي أصاب الذاّت الشّاعرة قد حوّل العلاقة بينها وبين خصمها الثنائيّ : الرّجل والمجتمع المجسّدين للعقليّة الذّكوريّة من علاقة تسلّط هي المفعول بها فيها وهما الفاعلان إلى علاقة رِفعة ووضاعة تحتلّ هي فيها المنزلة العليا على حين يقبعان هما في الأسافل . وبذلك تحوّل الكون الشعريّ من مكوّن كابوسيّ وهو العقليّة الذكوريّة وآخر يرزح تحته إلى مكوّنين جديدين : عالم علويّ وبؤرة أرضيّة . ومن ثمّة يمكن القول إن الكون الشّعريّ في هذه المرحلة صار مزدوجا : ففي المستوى الواقعيّ حافظ على هيئته الأولى التي جاء عليها في مجموعة حريق في الذّاكرة لكن في مستويي الوعي والتخيّل نقلته الذّات الشّاعرة إلى وضع مغاير تماما ينسجم مع البديل الذي تتوق إليه . وبالإضافة إلى ذلك يكتسب هذا الكون الشعريّ الذي هو في الأصل نفسيّ/ ثقافيّ – اجتماعيّ بعدين فلسفيّين هما البعد الوجوديّ والبعد الظاهراتيّ لتصبح قضيّة الأنوثة التي عليها مدار المجموعة الأولى محورا – وإن كان الأكبر حجما – إلى جانب محاور أخرى في هذه المجموعة . وبذلك يمكن القول إنّ كون إيمان عمارة الشعريّ في بلا مطر يجسّد مرحلة جديدة أضحى يتّسم فيها بالتّداخل والتّشابك والتّجريد . وهو ما يوجب الاستنجاد بكثير من المواليج لمحاولة فتح مغالقه . فكيف تلوح الذّات الشّاعرة من وجهة نظرها في هذه المرحلة الثّانية ؟ وكيف تظهر خصيمتها العقليّة الذّكورية من وجهة النّظر نفسها ؟ 2 – 1: ملامح الذّات الشّاعرة في مرآة ذاتها : إنّ التحوّل الذي طرأ على الذّات الشّاعرة في بلا مطر هو تحوّل في مستوى الوعي أي تحوّل ذهنيّ نحسَب أنّ للرّؤية الوجوديّة بالمفهوم الساتري دخلا أساسًا فيه . وللتّذكير فإنّ جان بول سارتر( Jean Paul Sartre ) قد ذهب إلى أنّ الإنسان هو الذي يصنع نفسه فيمنحها الصّيغة التي يشاء ، مفنّدا بشدّة فكرة القَدَرِيّة .ولعلّ أخذ الشّاعرة بهذه الفكرة هو الذي دفع بها إلى رفض الصّورة التي اصطنعها لها المجتمع الذّكوريّ وجعل الأنوثة في نطاقها عورة للإخفاء ، مشوّها بذلك جوهرها وأخصّ خصائصها . وبفضل هذا الوعي انتقلت الذّات الشّاعرة على نحو يشبه المعجزة من ذات ضعيفة، منكسرة، مسلّمة بالأمر الواقع في حريق في الذّاكرة إلى كائن أنثويّ قويّ مكتمل في بلا مطر لم تجد الشّاعرة لتمثيله غير صورة الإلهة . وفي هذا تقول: حين فاضَ الثّالوثُ على طيني ونفضَ المكانُ ريشَهُ منتشيًا وجدتُني استويتُ إلهةً على عرشِ الماءِ ( إلهة المحيطات ص 75 ) ولمّا كان الماء أصل كلّ شيء حيّ فإنّها ببسط نفوذها على عرشه تتحكّم عمليّا في دواليب الحياة كلّها . هذا الشّعور بالقوّة قد جعل مطامحها تكبر إلى حدّ الإحساس بأنهّا أوسع من الكون كلّه و إرادة التصرّف في شؤونه . تقول : ضيّقةٌ سُتْرةُ الكونِ أنا الممتدّةُ من أوّلِ الماءِ… إلى آخرِ الماءِ… (مرايا ص 18 ) بي رغبةٌ آخذُ وجهَ الكونِ في يدي أَهِيلُ عليه ترابُ دهشتي وأمضي مُفرَدَةً متفرّدةً بمعجزتي…. ( عناقيد الشّوق ص ص 13- 14 ) أمّا في المستوى النّفسيّ فلم يبق أثر للانكسار والهمود والإذعان . و ذلك لأنّ هذه الإلهة أنثى ، منبسطة الشخصيّة ، سالمة من العقد النّفسيّة لاسيّما فيما يتعلّق بموقفها من الرّجل إذ لا ترى حرجا في الاعتراف بأنّها ناقصة من دونه لأنّها لا تكتمل إلاّ به . وهو ما لا تتردّد في المجاهرة به على الرّغم من أنّ العقليّة السّائدة تعدّ حديث المرأة عن حاجتها البيولوجيّة إلى الرّجل خادشا للحياء و متعارضا مع سلوك الأنثى القويم . ومما قالته الشّاعرة في هذا المعنى : رجلٌ يباغتني اللّيلةَ كيف لا تسقطُ إذن كلُّ مدائني وأناملُه تعبثُ بوترِ الرّوحِ… على م… ه…لٍ… يحلُّ أزرارَ لغتي يغتسلُ بماءِ خجلي فيخضرُّ لحنُ الصَّبا و…يجفُّ عودُ الصِّبا (بوْح ص ص 16 – 17 ) وقولها : يا مهرةَ الرّيحِ خُبِّي تجاهَ المدى مزّقي ثوبَ اللّيلِ حُلِّي أحاجيَ السّماءِ وابحثي عن رجلٍ هو الصّوتُ والباقون صدًى… (ربيع الجفاف ص 32 ) وقولها : لستُ أدري… لماذا كلّما فتحتُ وجهًا جديدًا وقلتُ أنسى… سكرةَ الفجرِ في عينيه ذهولَ الشّهدِ على شفتيه خانتني الرّؤى ووجدتُ كلَّ الوجوهِ! تؤدّي إليه..؟ (كلُّ الوجوهِ تؤدّي إليه ص 37 ) و مثل ذلك هذا المقطع الذي تستعير فيه ظاهرًا الرّجل العاشق / المعشوق ” للقصيد ” . لكن لا مانع أيضا من أن يكون ذلك تمويها ويكون ” القصيد ” هو الذي استعير للرّجل : أحتدمُ… أحتدمُ… وهو… يأخذُ كفّي ويشرعُ في قضمِ أصابعِ دميةٍ من الحلوى… أنتهي منه… ينتهي منّي… وأمضي كعادتي إليَّ أنثى…. غيرَ مكتملةٍ ( دمية الحلوى 28 – 29 ) فهي إذن إلهة من جنس آلهة المثيولوجيا اليونانيّة تمتلك قدرات خارقة تفوق قدرات البشر لكنّ لها حياة عاطفيّة مثل التي للإنسان : ترضى وتغضب ، تهدأ وتضطرب ، تحبّ وتكره … وفي المجموعة صور كثيرة لهذه الحالات النّفسيّة المتقلّبة التي تطرأ على الإنسان العاديّ . من ذلك قولها في الحبّ بعد أن رأيناها تعبّر دون تحفّظ عن عشقها للرّجل : أنا… في الحبِّ زاهدةُ يكفيني ما تبقّى من ذكرياتٍ أقتاتها تكفيني أسمالُ هذا الهوى القديمِ (زاهدة 42– 43 ) 2-2 : منزلة الرّجل في كون إيمان عمارة الشّعريّ : إن انتقال الذّات الشّاعرة في بلا مطر من شخصيّة مأسويّة بالمفهوم الذي حدّده جورج لوكوتش (Georg Lukács) للمأساة إلى شخصيّة غنائيّة بالمفهوم الذي وضعه هذا الفيلسوف نفسه للغنائيّة – وهو انسجام الذّات التامّ مع الكون – قد قادها إلى تبويئ الرجل المنزلة التي تتواءم مع رؤيتها . هذه المنزلة ، كما أسلفنا ، منزلة الطرف لا المركز والمكمّل لا الأساس أي إنّها لا تكون إلا أدنى من منزلة الأنثى . ولإثبات هذه الحقيقة تغوص الشّاعرة في البيولوجيّ عائدة إلى زمن بدايات الخلق . فلمّا كانت الأنثى مخلوقة من ماء والرّجل من طين فإنّ الطين إذا التقى بالماء غرق فيه : حين تغلغل في دمي صهلت خيول الرّدّة في تلافيف صوته وادّعى أنّ سفر تكويني من وحي ضلعه… لكنّه حين تهجّى صورة أبيه المصلوب على لوحي وهمّ بي وشوش الطّين بسرّ خالقه وعاد قطرة في بحر مائي الممتدّ منّي……………………………………إليّ. ( ردّة الطين ص 77 ) ومن ثمّة فإذا قُيِّض للرّجل أن يرتقى مثلها إلى طبقة الآلهة فإنّه لن يحتّل فيها إلا مرتبة دون مرتبتها .وهو ما يخول لها معاملته معاملة رفيع بوضيع . تقول في هذا المعنى : من شرفة الماء أرميه بالعناقيد تكبر الصحراء فيه يسكره العطش حينها أحمله في سلالي إلها يرتبك ( إله في سلالي ص ص 40- 41 ) لكن إذا كانت هذه الصّورة تنطبق على الرّجل من حيث هو مقابل جنسيّ فإنّها لا توافقه البتّة في حال كونه أبا . فحينئذ يكون مصدرا للحياة وفي غيابه تفقد الحياة كلّ معنى . تقول في ذلك : من بعدك يبعث الحياة فيّ؟ من بعدك يعبث بالصّمت يحمله إلى متاهات الصّوت؟ (….) بيني وبينك مسافة للشّقاء أقطعها… وحيدة… بيني وبينك كلام لم يقل فلم تعجّلت الرّحيل يا من رتّبت أنفاسي على وقع خطاه؟ أحتاجك… آه لو تدري أحتاجك… هل تأتي..؟ ( صمت ص ص 63- 64 ) وتقول : هذه الدّنيا خواء بعدك وجع مضن ودمع يقطر وهذا القلب سقيم، نائح حزنه يا أبت لا يفتر ( إلى أبي ص 9 ) ولعلّ اللّغز الذي سيبقى قائما هنا : من أين نبع في ذهن الذّات الشّاعرة هاجس التسلّط الذكوري – وقد تربّت في رعاية أب يحتلّ عندها مثل هذه المنزلة – ، ذلك الهاجس الذي جعل رؤيتها إلى الكون في مجموعتها الأولى رؤية كارثيّة ؟ لا ندري لماذا يلحّ علينا في هذا الصّدد السّؤال عن غياب الأمّ غيابا تامّا في شعر إيمان عمارة . فهل تكون هي الحاملة لعقليّة المجتمع الذّكورية بدلا من الأب وهي التي اصطدمت بها في طفولتها الأولى وبعدها ؟ لكنْ أيّا كان الأمر فإنّنا لا نستبعد أن يكون انبهار الذّات الشّاعرة بأبيها طبقا للتصوّر الفرويديّ هو الذي كان له الإسهام الأساس في نقلتها النوعيّة من مرحلتها الأولى في حريق في الذّاكرة إلى مرحلتها الثّانية في بلا مطر . 2- 3: بين الذّات الشّاعرة والكون : لقد تحوّلت تجربة إيمان عمارة الشّعريّة، كما ذكرنا،من تجربة نفسيّة اجتماعيّة ثقافيّة في مجموعتها الأولى إلى تجربة فكريّة تتأسّس على رؤية متكاملة للكون . فبعد أن شغلتها في مجموعتها الأولى على نحو عاطفيّ تلقائيّ قضيّة تسلّط المجتمع الذكوريّ على الأنثى فأفردت لها جلّ قصائدها قد أدّى اتّساع تجربتها في مضماري الحياة والقراءة إلى نتيجتين : الأولى هي محاصرة تلك القضيّة و البتّ فيها من زاوية نظر وجوديّة والأخرى هي استشراف آفاق أرحب . وممّا يلفت الانتباه هنا أنّ شعر إيمان عمارة في المجموعة الثّانية حافل بالرّموز والألغاز ، كثيف الأسئلة والإشارات ذات الأبعاد الوجوديّة . وأكثرها يدور حول الهويّة الذّاتيّة وعلاقة الإنسان بالقدر والحقيقة بين الشكّ واليقين . تقول : يا واهبَ الرّوحِ سؤالَ الموتِ أجبْ…من أنا؟ إن أكنْ في كفِّ الرّياحِ ذرّةً من هباءٍ إن أكنْ وهمًا ظلّا… أحمقَ الخطوِ مبتورَ الرّجاءِ فلِمَ كلّما حدّقتُ في عيونِ الدّجى أخالُ أنّني توأمُ روحِهِ وأنّه…أنا..؟ ( وهمٌ ص ص 60- 61 ) وتقول : نركبُ السّؤالَ وحين يُعيِينا نَفِيءُ تحتَ ظلِّ الحيرةِ نمشّطُ أهدابَها نَعدُها بوفاءٍ سرمديٍّ لعذابِها ثمَّ…نمضي ثانيةً يعربدُ الحزنُ في عيونِنا ( حيرة ص 49 ) ومن أشدّ القضايا إلحاحا عليها طبيعة العلاقة القائمة بين الذّات والزّمن مشبّهة إيّاه بالأرجوحة التي ترتدّ بها تارة إلى الماضي و تدفعها طورا إلى المستقبل . الوقتُ أرجوحةٌ وهذا القلبُ تناوبتْهُ النّواسخُ تُرى من أين يأتي هذا التّشظّي… هذا الشّتاتُ…؟ اوقتُ أرجوحةٌ تزّعني مرّةً أفتحُ أحضاني لطفلةٍ ترضعُ سبّابةَ الماضي وأخرى أستقبلُ الآتي بالقفا… (أرجوحة ص 30 ) و إلى جانب هذه الهموم الوجوديّة شبه القارّة تستبدّ بالذّات الشّاعرة شواغل ظاهرتيّة شديدة الوطء منها إشكاليّة إدراك الإنسان للأشياء . تقول في هذا المعنى : الأشياءُ…هي الأشياءُ مذ خُلقتْ ساذجةٌ…كلحظةِ الخلقِ باليةٌ…كخرقةٍ فلمِ لا نختصرُ؟ ولم لا نعترف أنّنا لا نرى الأشياءَ بل نرى ما نتذكّرُ ( إنّنا لا نرى الأشياء ص 54 ) 3- أثر كون إيمان عمارة الشّعريّ في لغتها : منذ أواسط الستّينات واللّسانيّون والتداوليّون والعرفانيّون يراكمون الحجج الدّاحضة لفرضيّة نوام تشو مسكي ( Noam Chomsky ) القائلة بكون اللّغة ملكة ولاديّة طبيعيّة متوارثة في الجنس البشريّ ، مقيمين الدليل على أنّها مجرّد جهاز عَلامي كأيّ جهاز علاميّ آخر . والحاصل من ذلك أنّ تجربة الإنسان مع الكون تجربة عاطفيّة عقليّة أي دلاليّة . ومن ثمّة فإنّ التّجربة الشّعريّة في جوهرها تجربة مع المعني. وما اللّغة إلاّ وسيلة للتّعبير عنه . لذلك فإنّها هي التي تتأثّر بتجربة الشّاعر ولا تؤثّر فيها إلا تأثيرا جانبيّا ، مع التّسليم طبعا بأنّ النّظم في حدّ ذاته ليس شعرا وإنّما هو تمرين لغويّ مخصوص . إنّ سوق هذه المعطيات هنا ضروريّ لنبيّن سبب ربطنا بين طبيعة الكون الشعريّ لإيمان عمارة ولغتها في مجموعتها بلا مطر . إنّ اصطباغ هذا الكون الشعريّ بالغبشيّة والتّجريد للأسباب التي بيّنا هو المسبّب الأوّل لعدول الشّاعرة المكثّف عن الدّلالات المرجعيّة والانصراف شبه الكليّ إلى حشد الدّلالات الحافّة والعبارات المنزاحة عن لغة الكلام العاديّ . وهو ما رفع لغتها على نحو طبيعيّ إلى درجة عالية من الشّعريّة . والأمثلة لا تكاد تحصى . لذلك نكتفي بالتوقّف عند مثال منها. وهو قصيدة بعنوان ” زلّة جسد ” ( المصدر نفسه ص 81 ) في انتظار أن نفرد لهذا الجانب البالغ الأهميّة دراسة أخرى . لقد أثبت علم الجنسانيّة * أنّ المخيال الجنسيّ للفرد متعدّد . وهذا العيب الجِبلّيّ في الكائن البشريّ هو الذي يفسّر وقوع بعض الأفراد في الخيانة الجنسيّة بنوعيها : الماديّة والمعنويّة . وذلك حتّى في أقوى حالات الحبّ وأصدقها . وفي هده القصيدة ” زلّة جسد ” تصوير لهذا التمزّق الشّديد بين الوفاء الرّوحيّ للمحبوب، ذلك الذي توجبه رابطة الحبّ المقدّسة والنّزوة الجسديّة الماديّة العابرة التي يدفع إليها المخيال المتعّدد *: عُذرا يا صديقي… إنّ لحظة ارتفاع الرّوح زلّ الجسد وأدري… وهجُ أنفاسِكَ يوقظ الماءَ المعتّقَ في جِرارِ الشّمالِ ويستدرجُ الدّمعَ السّجينَ في أحداقِ الرُّخامِ غيرَ أنّي لحظةَ يُنهكني الطّوافُ وتبتسمُ عيونُكَ لنشوتي المرتقبة تلوحُ في زُرقة الذّاكرة بقايا وَجْدِ دفين ويسبّح الجسدُ باسمٍ… غيرِ اسمِكَ… هذه الفكرة – وهي النّواة الدّلاليّة التأسيسيّة للقصيدة – القائمة على تناقض شديد مدهش في ذاته لم تفصح عنها الشّاعرة تصريحا في كامل القصيدة وإنّما عبّرت عنها إيحاءً في موضعين : مفتتح النصّ : (عذرًا يا صديقي… / إنّ لحظةَ ارتفاعِ الرّوح / زلّ الجسد ) و خاتمته : ( تلوح في زرقة الذّاكرةِ / بقايا وَجْدٍ دفين / ويسبّح الجسدُ باسمٍ…/ غيرِ اسمِكَ… ) مقسّمة ما بينهما إلى وحدتين : الأولى خصّصتها لتصوير قوّة الحبّ إيحاء أيضا ( وهجُ أنفاسِكَ / يوقظُ الماءَ المعتّقَ / في جرارِ الشّمالِ / ويستدرج الدّمع السّجين / في أحداق الرّخام ) والأخرى لنقل اللّحظة التي ظهرت فيها القوّة الجاذبة إلى أسفل والذّات في أوج تجاوبها العاطفيّ (غير أنّي لحظة ينهكني الطّواف/ وتبتسم عيونك / لنشوتي المرتقبة ) . وبذلك تكون القصيدة حكاية ذات شكل دائريّ تتألّف من ثلاث وحدات قدّمت الثّالثة منها ثمّ أعادتها إلى موضعها الأصليّ الختاميّ . لكنّ طابعها السّرديّ يكاد يكون ضمنيّا لكون إطارها الزّمانيّ قد اختزل في لحظة . وكذلك تشعير* الوحدتين الثّانية والثاّلثة بتكثيف الاستعارات : ( وهج أنفاسك – يوقظ الماء – الماء المعتّق في جرار الشّمال – يستدرج الدّمع – الدّمع السّجين – أحداق الرّخام – ينهكني الطّواف – تبتسم عيونك – تبتسم عيونك لنشوتي المرتقبة – زرقة الذّاكرة – بقايا وجد دفين ) وهي في الجملة إحدى عشرة استعارة . وفي هذا استيفاء لشروط قصيدة النثر كلّها . وهي اللازمنيّة والتوهّج و التّكثيف . هذه اللّغة المنزاحة انزياحا تامّا عن لغة الكلام العاديّ منسجمة انسجاما تامّا مع كون إيمان عمارة الشعريّ المتّسم في مرحلته الثانية بالغبشيّة والتّجريد والمحفوف بالأسئلة الوجوديّة الحارقة . خاتمة لقد سعينا في هذه المقاربة لمجموعة إيمان عمارة بلا مطر إلى بيان التّطوّر الفائق الذي طرأ على كونها الشّعريّ بتحوّل تجربتها من نفسيّة اجتماعيّة في مجموعتها الأولى حريق في الذّاكرة إلى فلسفيّة وجوديّة ظاهرتيّة في الثاّنية . وقد رافق هذا التحوّل إيغال لغتها الشعريّة على نحو متزايد في التّجريد والعدول عن الكلام العاديّ وأساليب البيان العربيّ التقليديّ . ولئن كانت هذه ااخصيصة الفنّية مشتركة بين شعراء جيلها وهو جيل شعراء التّسعينات فإنّ شاغلها الأساس شبه القارّ في المجموعتين- وهو منزلة المرأة المتدنّية في المجتمع الذّكوري – يحلّها موقعا خاصّا وسط هذا الجيل الذي ظهر بعد انهيار الإيديولوجيات وانصرف إلى الإبحار في أعماق الذّات، متّخذا لذلك الغرض ثلاث مطايا : الحلم والخيال واللاّوعي ومتسلّحا بالفكر الوجوديّ في المقام الأوّل . الهوامش : 1- إيمان عمارة ، حريق في الذّاكرة ، دار نقوش عربية ، تونس 1997 2- إيمان عمارة ، بلا مطر ، دار إشراق للنّشر ، تونس 2009 3- انظر : محمّد صالح بن عمر ، من قضايا الشّعر الحديث والمعاصر في تونس ، دار إشراق للنّشر ، تونس 2009 ص ص 99 – 103 . 4Linguistique cognitive ( Collectif ) sous la direction de Fuchs (Catherine ) , Ed .Ophrys , Paris 2004 5Delberque ( Nicole ) , La linguistique cognitive : comprendre comment:fonctionne le langage ,Ed. De boeck.duculot , Paris 2006 المصطلحات : *المخيال ( L’imaginaire ) * الظاهرتيّة ( La phénoménologie ) * العرفانيّون (Les cognitiens ) *محتمل الوقوع ( Le vraisemblable) *-المتحمّل ( Patient ) * العُصاب ( La névrose ) * الذُّهان ( La psychose ) -* الجنسانيّة ( La sexologie ) * المخيال المتعدّد ( Imaginaire multiple ) 2019-08-12 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet