حوارات مجلّة “مشارف” : 5 – مع الشّاعرة الموريسيّة باتريسيا لارنكو 18 سبتمبر,2018 باتريسيا لارنكو من هي باتريسيا لارنكو ؟ ولدت باتريسيا لارنكو بباماكو( مالي) من أب فرنسيّ إسبانيّ الأصل وأمّ موريسيّة. قضت طفولتها بإفريقيا ثمّ بشارنت ( جنوب فرنسا).زاولت دراستها الجامعيّة في قسم التّاريخ بجامعة بو .وهي تقيم بباريس منذ سنة 1989.مارست مهنا متنوّعة منها منشّطة وموظّفة بمكتبة عموميّة .تكتب الشّعر وقصص الأحلام العجائبيّة وتمارس فنون التّصوير الفوتوغرافيّ والتّلصيق والرّسم.يكشف شعرها عن عالم ملغز، مجهول الخفايا ، محفوف يالأسرار، يلفّه جوّ موحش تزدحم فيه بصريّا الرّؤى والأطياف والأشباح والأضواء الخادعة و حركيّا الأفعال غير المألوفة والسّرياليّة مثل بناء مدن غير محسوسة والضّحك المرضيّ الجنونيّ وقيام شخصيّة نباتيّة بإنجازات خارقة .والأسلوب المفضّل لهذه الشّاعرة ذات النّظر الثّاقب، النّافذ، الانتقائيّ، التي تتمتّع بقدرات انتباهيّة وتخيّليّة خارقة هو الانطلاق من عنصر حقيقيّ، مفيد، موحٍ ثمّ الانتقال للتوّ إلى عنصر آخر متخيَّل بتصميم صورة عجائبيّة .وعندما تتأمّل هذا العالم وتمشّي الشّاعرة بين جنباته تنكشف لك ذات مفرطة الحساسية تُسْقِط كيانَها الدّاخليَّ المثخَن جراحا الذي أضناه الشكّ والدّوار والغثيان والإحساس بالعزلة واستبدّ به الشّعور بالفراغ والعدم واللاّمعقول على عالم خارجيّ لا هيئة له ، يقبع في عزلة تامّة عن البشر.وهنا يتجلّى البعد الوجوديّ والنّفسيّ العميق لتجربة هذه الشّاعرة المتفرّدة حقيقة لا مجازا .وهي مزيج متماسك ، متجانس من عوالم جان بول ساتر وسيقمون فرويد وأدغار آلان بو، مزيج يؤلّف فيه الذّهنيّ والنّفسيّ والخياليّ وحدة لا انفصام فيها.فنّيّا تزخر قصائدها بالصّور المبتدعة تماما ولدّلالات الحافّة والمعاني الثّواني. السّؤال 1 : ولدت بإفريقيا (في مدينة باماكو بمالي) من أبٍ إسبانيّ وأمّ موريسيّة وتعيشين منذ فترة مراهقتك بفرنسا.فكيف تحسّين هذا المزيج من أربع ثقافات في شخصك؟ أهو بصراحة عنصر ثراء أم مصدرٌللتّذبذب وعدم الاستقرار الفكريّ والنّفسي؟ باتريسيا لارنكو: أجيبُ :الاثنين معا ،دون أن أخفي أنّهما ليسا دائما من أسهلِ ما يمكن تصريفُهُ .ومع ذلك أنا مدينة لهذا التّمازج بما أحسّ به من كوني” إنسانا” قبل كلّ شيء و من كوني “مواطنة من مواطني العالم” قبل كلّ شيء و باهتمامي على نحو أوسع وقدر مستطاعي بكلّ الثّقافات الإنسانيّة وبما تقوم عليه الطّبيعة البشريّة في جوهرها.ولنتساءلْ :لماذا هذا التّنوّع المذهل للثّقافات الكثيرة التي يزخر بها كوكبنا؟ ولماذا في الوقت نفسه كل هذه العناصر القّارّة وراء كلّ ذلك التّنوّع؟ السّؤال 2 :تجربتك الشّعريّة قابلة للتّفكيك إلى ثلاثة مكوّنات رئيسة :أحدها ذهنيّ وآخر نفسيّ وثالث جماليّ .ولكنّها تؤلّف عمليّا كلاّ يلوح لا انفصام فيه .ولنبدأ بالمكوّن الأوّل – وهو المكوّن الذّهنيّ – : تلوح في قصائدك نزعة قويّة إلى تجاوز ملامح الأشياء الظّاهرة للعيان ، بحثا عن جواهرَ ما ربّما تكون كامنة في الأعماق بمناطق خفيّة عن الأبصار . فهل تستضيئين في هذا التّمشّي ببعض النّظريّات الظّاهراتية كنظريّتي هوسرل ومرلو-بونتي أو غيرهما أو لا يتعلّق الأمر إلاّ باستعداد فطريّ تلقائيّ عندك نابع من شخصيّتك؟ باتريسيا لارنكو: لنقلْ إنّي منذ أن بلغتُ سنَّ الرّشد اقتنعتُ بأنّ المظاهر خادعة و بأنّنا إذا رُمنا فهم العالم فهما أفضل (في حدود الممكن) فلا بدّ لنا من “الحَفْر”.وقد علّمني الفيلسوف الفرنسيّ المعاصر أدغار موران أنّ الكون معقّد بامتياز ، كما كشفت قراءتي المتكرّرة لقصيدة “باغادجافيتا ” – وهي ملحمة شعرية قديمة مكتوبة باللّغة السّنسكريتيّة، لغة الهنود القدامى، تتضمّن أساس ديانة الهندوس – وما كتبه بعض الكبار من أعلام الدّيانة الهندوسيّة أنّ الكون ليس سوى وهمٍ.وبالإضافة إلى ذلك ساعدتني عدّة مؤلّفات ومجلاّت تعريفيّة بالعلوم ( وخاصّة منها العلوم الفيزيائيّة) على تعميق هذه الحالة العقليّة التي غالبا ما أحاول التّعبير عنها في شعري. إنّي أعتقد أنّ أشياء كثيرة جدّا موجودة لكنّ حواسّنا قاصرة عن إدراكها .وهو ما أثبته علم البيولوجيا أيضا.فالمسألة في جوهرها مسألة إدراك وزاوية مقاربة. السّؤال 3: أمّا المكوّن الثّاني الذي هو مكوّن نفسيّ فهو يلوح على هيئة ضرب من الفوبيا اللاّواعية تجاه العالم الخارجيّ ربّما ورثتِها من فترة ما قبل الولادة .وهذه الفوبيا تدفع ذاتك الشّعريّة إلى الانحباس وسط عزلة حادّة صعبة التّحمّل .فما هو مدى وعيك بذلك؟ باتريسيا لارنكو: أوافق على هذه القراءة وأجدها صحيحة كلّ الصّحّة .فموضوع “الشَّرنقة ” هي حقّا من أكثر الموضوعات استحواذا على فكري ووجداني.ذلك أنّ رحِمَ الأمّ يمكن أن يكون مصدرا للإحساس قويّ بالأمن والهناء إلى حد يقرّبه أحيانا من السّعادة الصّوفيّة، كما يمكنه أن يكون بمنزلة سجن خانق يمنع عنّي ولوج العالم الخارجيّ .ورّبما يعود هذا من ناحية إلى انطوائي المفرط على نفسي ومن ناحية أخرى إلى طفولتي التي أفرط والداي في صيانتها. السّؤال 4 : وأمّا المكوّن الجماليّ في شعرك فهو ناتج د ون شكّ عن المكوّنين السّالفي الذّكر وهو يقدّم للقرّاء انطباعا بأنّهم إزاء عالم يسبح في اللاّواقع والعجيب والخارج عن المألوف.ألا ترين أنّ هذا الأسلوب إذا كان يستجيب كلّ الاستجابة لأحدث شرط للشّعريّة فإنّ قد يقيم حاجزا مانعا للفهم .أمام القرّاء العاديّين وهم الأكثر عددا بين أحباء الشّعر. باتريسيا لارنكو: لا أدري .صحيح أنّي أحبّ العجيب والخارج عن المألوف.أمّا الخارق للعادة فيبدو لي بمنزلة باب للهروب من عالم أجده بكلّ صراحة مثيرا أكثر فأكثر للضّجر أو أكثر فأكثر قسوةً .ففي ما أكتبُ يتهيّأ لي أنّي أستعمل ،بوجه عامّ، لغة أقرب ما يكون إلى السّهولة والمباشَرة حتّى إن كنت في شبابي أميل (وذلك لأنّي كنت دون أدنى شكّ ضحيّة لميولي السّرياليّة) إلى استخدام معجم إلى حدّ ما مصطنعا.وفي فترة طويلة حاولت أن أقلّد بعض الشّيء الشّاعر رامبو باستعمال لغة تفتح أبواب المجهول ، إذ أنّ ذلك البعد بالذّات هو أكثر ما كان يأخذ بلبّي في الشّعر.فكنت أسعى إلى إثارة الدّهشة في القارئ. السّؤال 5 :أنا الذي أتابع نصوصك عن كثب منذ قرابة الثّماني سنوات مقتنع بأنّ عالمك الشّعري في مجمله متفرّد .لكنّ هذا لا يمنعنا من أن نلتمح في هذا العالم بعض الشّبه بعالمي الرّوائيّ التّشيكيّ فرانز كفكا باتريسيا لارنكو: شكرا على هذا الإطراء السّخيّ.فهذان العَلَمان عملاقان من عمالقة الأدب أنا شديدة الإعجاب بهما وقد أثّرا فيَّ بطبيعة الحال بالغ التّأثير،إذ انسقت تقريبا على نحو لاواعٍ إلى التّأثر بهما.فاللاّوعي وأضغاث الأحلام والعجيب وشيء من القسوة أيضا إلى جانب حضور شيء من الحيرة هي المناطق التي أتمركز داخلها . السّؤال 6 : مثلما هو شأن الشّاعر الفرنسيّ فيليب كوريك نراك حريصة على جمع قصائدك في دواوين وعلى المشاركة في معارض الكتب.فهل حقّق لك هذا الاختيار ما تطمحين إليه؟ باتريسيا لارنكو: لم أبدأ في نشر كتبي إلاّ في فترة متأخّرة بعض الشّيء من حياتي.فكتابي الأوّل صدر سنة 1995 وكتابي الأخير سنة 2015.في الوقت الحاضر أعترف بأنّي لم تعد لي رغبةٌ في النّشر حتّى بالمجلاّت المتخصّصة في الشّعر حيث نُشِرَتْ لي سابقا قصائدُ كثيرة جدّا.أمّا صالونات الكتب وأسواقه ومعارضه فقد مللتُ منها بعض الشّيء.وفي الواقع أعتقد أنّ مزاجي الشّديد الانطواء لا يتواءم معها كثيرا.وكنت قد شاركت فيها عملا بنصيحة بعض الأشخاص وكذلك لأنّ المشاركة فيها تتيح لي فرصة الخروج أحيانا من “عريني” ، إذ تمكّنني من ربط بعض العلاقات الإنسانيّة والتّعريف إلى حدّ ما بكتبي.لكنْ ما يعرفه كلّ النّاس أنّ الشّعر ضعيف الرّواج وأنّه لا يستقطب اهتمام وسائل الإعلام والجمهور العريض ،على الأقل في البلاد الذي أعيش فيه وهي فرنسا.في الوقت الحاضر ميلي إلى لزوم البيت و”الانكفاء على نفسي ” عادت إليه الغلبة مجدّدا .فصرت أتّجه على نحو شبه كلّيّ إلى “الأنترنات” لنشر ما أكتبه وللحفاظ على صلتي بالشّعراء و الفنّانين .فأنا أنشّطُ موقعا أدبيّا ولي حساب على الفايسبوك موزّع على صفحتين: إحداهما أدبيّة والأخرى فنّيّة.ولا أخفي أنّي لم تعد لي رغبة في إصدار مجموعة شعرية جديدة مستقبلا . وذلك أنّ مجموعتي الأخيرة ضمّت مختارات من أفضل ما كتبت من شعر. السّؤال 7 :لاحظت أنّك على الرّغم من إقامتك في فرنسا فقد ظللت شديدة الارتباط بالوسط الثّقافيّ الموريسيّ. فهل الموريسيّون يعرفون شعرك جيّدا؟ وما هو نوع العلاقة التي يقيمونها معك؟ باتريسيا لارنكو :كان من الأهميّة بمكان في نظري الحفاظُ على مثل هذا الاتّصال.وهكذا كنت محظوظة بأن تمكّنت من الالتقاء بعدد مهمّ من الكتّاب الموريسيّين منهم روائيتا الجزيرة الكبيرتان ألندا دافي وناتاشا أباناهو و كذلك الشّعراء الذّائعو الصّيت : جان جورج بروسبيرو تسنق مانق كينغ وخال تورابولي وعمر تيمول .لكن للأسف الشديد لا يعرف الموريسيّون أو يكادون شعري ، على الرّغم من أنّي في فترة معيّنة نُشِرتْ لي بعضُ القصائد في إحدى مجلاّتهم الشّعريّة – وقد توقّفت اليوم عن الصّدور – وهي مجلّة “نقطة-قضيب”. في ما يخصّ علاقتي بالكتّاب الموريسيّين أقول إنّ لقائي بهم صار أندر فأندر في مختلف الصّالونات وحفلات التّوقيع في المكتبات التي تنتظم بباريس (صالون الكِتَاب بباريس مثلا)، كمّا أنّي صرت أنشر لبعضهم في فترات متباعدة بموقعي الألكترونيّ الذي مَنَحْتُ أوليّة النّشر فيه لا محالة لأدباء جزيرة موريس لكن أيضا لأدباء جزر الرّيينيون ومدغشقر والسّيشيل وومايوت والقمور) وكذلك الشّعراء الذين يكتبون باللّهجات المحلّيّة من جزر هايتي والأنتيي وقيّان ) .ومن جهة أخرى هناك عدد من الموريسيّين والموريسيّات يمكنهم الاطّلاع على شعري في فضائي على الفايسبوك. السّؤال 8 : لقيتِ القصائد التي ترجمتُها لك إلى اللّغة العربيّة صدى طيّبا لدى القراء العرب. ومن جهتك أنت ما هو رأيك في مئات القصائد التي ترجمتُها في هذا الفضاء من اللّغة العربيّة إلى اللّغة الفرنسيّة؟ باتريسيا لارنكو :هذا عمل مذهل يستوجب التّنويه.فقد قرأت عددا من القصائد مكّنتني ترجمتك من ولوج عوالم منشئيها.وبفضل هؤلاء اكتشفت خاصّة حساسية الشعراء والشاعرات مشارقة الذين لم أكن أعرفهم أو أكاد ، باستثناء محمود درويش وبعض الشّعراء اللّبنانيّين النّاطقين باللّغة الفرنسيّة. أمّا ما أعلمتني به من ردود فعل القرّاء العرب الإيجابيّة على نصوصي المتواضعة فقد أدخل على نفسي كثيرا من السّرور. السّؤال 9 : هل الفايسبوك وسيلة ناجعة للنّهوض بالشّعر؟ باتريسيا لارنكو : أعتقد أنّه سواء على الفايسبوك أو في أيّ موضع آخر غيره لا يتأثّر بالشّعر إلاّ النّاس الذين لهم حساسية تجاه هذا الفنّ.ومع ذلك ،ربمّا للفايسبوك الفضل في مساعدة الشّاعر أو الشّاعرة على الانفلات ممّا يحسن تسميته ب”الحلقات الضّيّقة” أو”الدوائر المغلقة”.فمن ناحيتي أعيش كما لو أنّي في سجن لذلك أوسّع من نطاق دائرة قرّائي .فعلى الفايسبوك يمكن للشّاعر الوصول إلى قرّاء ينتمون إلى العالم بأسره، كما أنّه أداة تعين على ربط العلاقات بل إتاحة فرص التبادل على نطاق عالميّ (بين القرّاء وممارسي الكتابة القادرين على التّفاهم والتّواصل بحكم استعمالهم لغة واحدة. السّؤال 10 ّ: ما هي مشروعاتك في العاجل والآجل؟ باتريسيا لارنكو :في الحقيقة، لست من الذين يصمّمون الكثير من المشروعات.بل من عادتي أنّي أعيش حياتي يوما فيوما. على أنّ ما يشغلني هو أن تطأ قدماي في يوم من الأيّام أرض بلد أمّي جزيرة موريس.في ما يخصّ إسبانيا (بلاد أبي) فقد زرتها بعد.وهي بلاد أعرفها جيّدا وأعشقها.أمّا في ما عدا ذلك فإنّي أتمتّع بوجودي رفقة أحفادي وأواصل الكتابة إلى أبعد فترة ممكنة. 2018-09-18 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet