عالم محمّد بوحوش الشّعريّ: مكوّناتُه ودلالاتُها : محمّد صالح بن عمر 21 أبريل,2016 الشّاعر التّونسيّ محمّد بوحوش يعدّ الشّاعر التونسي محمّد بوحوش تاريخيّا من شعراء التّسعينات .وما المقصود بهم الشّعراء الذين ظهروا بتونس في تسعينات القرن الماضي وإنّما الذين كتبوا كلّيا أو أساسًا بأسئلتها .فتميّزوا عن شعراء الفترات السّابقة الذين غلبت عليهم غرضيّا إمّا النّزعة الإيديولوجيّة وإمّا اللّون الوجداني الاعتيادي الذي يقوم على التّصوير الخارجي لأقطار الذّات وأسلوبيّا البناء الشّجريّ للقصيدة الماثل في تفريع موضوعها إلى موضوعات صغرى وكل موضوع فرعيّ إلى عناصر وكلّ عنصر إلى عناصر أصغر منه. فلقد أدّى انهيار جدار برلين في النّصف الثّاني من الثّمانينات ثمّ انقسام الصّف العربيّ نهائيّا عند اندلاع حرب الخليج الثّانية إلى فقدان الخطاب الإيديولوجيّ بجميع ألوانه مصداقيته في أعين الشّعراء الجدد ، كما تسبّب تدمير العراق، زيادة على نكبة فلسطين المستمرّة وقتذاك منذ أكثر من أربعين عاما إلى إصابتهم بحالة بالغة من التفّجع والارتباك واليأس.فارتدّوا إلى أعماق ذواتهم يستنطقونها بأسئلة حارقة موجعة عن الهويّة والمصير ، منغمسين في الحلم ، مُبحرين في اللاّوعي، ممتطين صهوة الخيال المجنّح .وهو ما وسم خطابهم عامّة بالتشظّي والفوضى، على الأقل في مستوى الظّاهر. لكنْ لمّا كانت الذّوات البشريّة مختلفة الأبنية والأمزجة فقد وجد كلّ شاعر في ذاته عالَما مخصوصا.فامتنع بذلك ما وسم كتابات شعراء المراحل السّابقة من تشابه وصل أحيانا إلى حدّ التّماثل.وهذا ما ينطبق كلّ الانطباق على شعر محمّد بوحوش الذي، على غزارته وتنوّع لغته، إذ منه ما هو باللّسان العربيّ ومنه ما هو بلغة موليار، يكشف إجمالا عن تجربة خاصّة وإن تقاطعت في جوانب منها مع تجارب بعض المنتمين إلى موجته .وهو ما سنسعى في هذه القراءة المتواضعة إلى بيانه بمحاولة إماطة اللّثام عن ملامحه الكبرى. يلفتك أوّل ما يلفتك في عالم محمّد بوحوش الشّعري أنّه في غاية التّجرّد.ولهذا التجرّد ثلاثة مظاهر مختلفة لكن شديدة التّداخل إلى حدّ تعذُّرِ الفصل بينها إلاّ منهجيّا بوساطة التّفكيك.وذلك لضرورة التّصنيف والتّحليل المنظّم: المظهر الأوّل روحانيّ والثّاني ذهنيّ والثّالث نفسيّ، إلاّ أنّ هذا العالم غير المحسوس ينفتح أحيانا دون سابق إنذار، ربما لدوافع قويّة قاهرة، على الواقع المعيش فيحمل عرضيّا بعض بصماته، ليعود في التّوّ إلى انغلاقه وعزلته، تماما كالجُرْم السّماويّ الذي ينقاد إلى جاذبيّة أحد الكواكب فيقترب منه ويتأثر قليلا بإشعاعاته لكنّه سرعان ما يرجع إلى مساره الأوّل . وهذه المراوحة الخاطفة بين الانغماس في عالم الذّات والاقتراب من الواقع هي من المميّزات القارّة في شعر محمّد بوحوش . فلنحاول التمعّن قدر المستطاع تباعا في هذه المظاهر الثّلاثة المختلفة من التّجريد للوقوف على خصائص كلّ منها: I – عالم الذّات الشّاعرة الرّوحانيّ : 1- طبيعته وقسماته العامّة : غالبا ما تلوح الذّات الشّاعرة في شعر محمّد بوحوش غارقة كلّيّا في عالمها الدّاخليّ.وتدرك هذه النزعة الانطوائيّة لديها ذروتها عندما تتصوّر نفسها روحا مفصولة تماما عن الجسد. وقد يفسَّر هذا الميل شبه القارّ إلى التّجرد من وجهة علم تحليل النّفس برغبة لا شعوريّة في الانطلاق إلى ما وراء المعطيَيْن البيولوجيّ والاجتماعيّ( 1).وذلك بالتخلّص من القيود التي تشدّ الإنسان إلى الحياة الأرضيّة الماديّة قصد احتلال منزلة أعلى من المنزلة التي يحتلّها حين يكون مكبّلا بأصفاد الجسد والمجتمع. لكنْ لمّا كانت طبيعة الرّوح ولا تزال محلّ جادل منذ أقدم العصور فمن الضّروريّ أن نتقصّى في شعر شاعرنا بعض الإشارات التي قد تنير لنا مفهومها عنده . إنّ الرّوح، كما يتصوّرها، كيان يمتاز بالخفّة الشّديدة وقوّة الحركة .لذلك يشبّهها بالطّائر: روحي نورسة زرقاء في حضن الأبدية (2) ورمز الطّائر رمز نمطيّ متداول ينطوي على دلالات الحرّيّة و الانطلاق والتّحليق التي يقوّيها هنا اقترانه باللّون الأزرق، لكون هذا اللّون هو لون السّماء ومن معانيه عندئذ الارتفاع والاتّساع إلى ما لا نهاية له من كلّ جهة وجانب ، فضلا عن كون السّماء مستقَرّا للكائنات العُلويّة .)3) وتتكرّر هذه الصّورة نفسها للرّوح تقريبا في قوله: لي أنْ أسمِّيَ الرّوحَ طائرًا أزرقَ (4) لكنّ الرّوح تتّخذ عند الشّاعر أحيانا دلالات مغايرة تماما لهذه المعاني السّامية المشرقة .فإذا هي وعاء للأحزان والأتراح .وهو ما نلمسه في هذه المقطوعة التي يتماهى فيها مع حَنَفِيَّة يخيّل إليه أن قطرات الماء النازلة منها مزيج من الدّموع والدّماء .وممّا جاء فيها قوله : أمّا أنا فأسمّي الحَنَفيَّةَ المترهِّلةَ تلك روحي المندلعةَ ماءً قانيًا كالطّوفانِ(5) وهذا التّصوّر ليس مطابقا تماما لمعنى الرّوح في الدّين الإسلاميّ الذي وإن جعل معرفة حقيقتها من مشمولات الغيب في قوله تعالى : ” ويسألونَكَ عن الرّوحِ قُلْ الرّوحُ من أمرِ ربّي وما أُوتْيتم من العلِمِ إلاّ قليلاً ” (6) وخصّها دون الجسد باستمرار البقاء بعد فنائه وبالصّعود إلى السّماء فقد ميّز بينها وبين “النّفس” التي هي مصدر للشّرّ والإثم كما في قوله تعالى : ” إنّ النّفسَ لأمّارةٌ بالسّوءِ إلاّ ما رحِمَ ربّي“. (7) لذلك فإنّ معنى الرّوح عند الّشاعر قريب إلى حدّ مّا من معناها عند علماء تحليل النّفس الذين تصوّروها على هيئة كيان ذهنيّ نفسيّ سمّوه ” Psyché” واتّخذوه مرادفا للفظ ” Ame ” (8)، إلاّ أنه لا يطابق أيضا هذا التّصوّر مطابقة كلّيّة ، لما يطرأ على الرّوح في شعر محمد بوحوش من حالات التّناسخ الذي تقول به بعض الدّيانات غير السّماويّة .وهو ما يظهر في تماهيه مع كائنات أخرى جامدة أو حيّة ،كما سنرى ذلك في القسم الموالي من هذه المقاربة . 2- لبُّه وفحواه: قلنا إنّ محمّد بوحش في الأغلب الأعمّ يختزل ذاته في روح وإنّ هذه الرّوح كيان ذهنيّ نفسيّ.فماذا يحوي هذا الكيان ؟وما هي وظائف مكوّناته؟ لئن كان هذا الكيان مزدوجا فليس مكوّناه المباشران بمتعادلين وإنّما أحدهما رئيس – وهو المكوّن الذّهنيّ – والآخر متولّد عنه .وهو المكوّن النّفسيّ. 2 -1 : المكوّن الذّهنيّ : يظهر من خطاب الذّات الشّاعرة في معظم قصائد محمّد بوحوش أنّها تعاني أزمة حادّة متأتّية من عجزها التّامّ عن إدراك سرّ وجودها وسرّ وجود الكون .ويتجلّى ذلك في كثرة السّياقات التي يرد فيها المعنى باعتباره هدفها الأوّل المنشود. من ذلك قول الشّاعر: كمْ ليلٍ سأقطعُهُ كمْ رصاصٍ سيثقُبُني ليكونَ لي معنًى(9) وقوله: لي أنْ ألهُوَ باللّغةِ وأندَهشَ بالأسماءِ: طفْلاً يسْحَلُ الكلمَاتِ ويقضِمُ تفّاحَ المَعنى(10) وقوله: أمحو… ويسلسلُني الاحتمالُ.. لكنّي موقنٌ أنّ بلادي تخبِّئُ عشبةَ “جِلجامشَ”(11) وقوله: الورودُ المغتالةُ فوقَ الطّاولةِ سلّةُ القبلاتِ على طرفِ السّريرِ، والسّيقانُ البلّوريّةُ فوقَ شَرَاشِفِ المعنى..(12) هذه الأزمة قد انعكست على تمثّل الذّات الشاعرة لنفسها و للآخر وللكون. 2 -1 – 1: أزمة في تمثّل الذّات الشّاعرة لنفسها : تشكو الذّات الشّاعرة صعوبة بارزة للعيان في تمثّل نفسها.وهذه الصّعوبة تتحدّد في مستويين : إدراك هويّتها ومعرفة دورها. ففي ما يتعلّق بهويّتها نجدها تتماهى طورا مع جماد كما في قول الشّاعر : أمّا أنا فأسَمّي الحنفيّةَ المترهّلةَ تلك، رُوحِي المُندلعةَ ماءً قانيا كالطّوفانِ(13) وتارة مع نبات : أنظُرُ فيَّ فأراني كجدّتي الشّجرةِ أوراقُها كسنواتِ عمري وهي تسّاقطُ ذابلةً(14) أو مع حيوان في مثل قوله: أقرَعُ الأغنيَاتِ، وأبدِّدُ خَطوي… أسيرُ.. وأنبَحُ.. أنبَحُ.. وأسيرُ… ……………… مَا أسْعدَ هذا الوُجُودَ بِكلْبٍ جَديدٍ!(15) أو مع إنسان كما في هذا المثال: هادئٌ وعتيقٌ ، يعشَقُ النّومَ ويُوغِلُ في الشّخيرِ . خَرِفٌ وحزينٌ. خَرِبٌ ومستسلمٌ في ضريحِهِ … هذا العجوزُ الهرِمُ ، الذي يسكنُ روحي(16) على أنّ هذه الأمثلة الأربعة لا تطابق مفهوم التّماهي كما تصوّره سيقمون فرويد ( Sigmund Freud 1856 – 1939) .وهو التمشّي النّفسيّ الذي بمقتضاه ينمكّن المُصاب من”استيعاب هيئة من هيئات الآخر أو خصيصة من خصائصه والتّحوّل كلّيّا أو جزئيّا على منواله” (17).وهذا المنوال هو في الأصل صورة الأب المثاليّة (18).وإنّما نجد عند الشّاعر عكس هده الصّورة تماما ، إذ يكون التّحول لديه دائما وفق مناويل سلبيّة .وهو ما يجعل التّماهي عنده ضربا من اكتشاف الذّات على حالات معيّنة حاصلة.لذا يمكن القول إنّ الشّاعر – وهو يتّبع هذا التّمشّي – بصدد استكشاف أعماق ذاته، انطلاقا من معاينة كائنات وظواهر في العالم الخارجيّ المحيط به.وإذا صحّ هذا فالحالات التي يصفها من المحتمل جدّا أن تكون حالات ولاديّة متأصّلة رغم إشاراته إلى الواقع المحيط به. أمّا من جهة الوظيفة فيتراءى لها الكيان الرّوحي الذي اختزلت نفسها فيه أحيانا ملاذا أي محلاّ تحلّ فيه للاحتماء من الضّغوط المسلّطة عليها من ذلك الواقع.ومن أدّق الأمثلة التي تصوّر هروب الشّاعر على جنح الخيال من واقعه المتدهور إلى عالمه الدّاخليّ المجرّد هذه المقطوعة : الشّرُفاتُ المُطِلّةُ على الغيْبِ ، خفَقَانُ الحَمامِ فوقَ الأشجارِ، رذاذُ الأمطارِ الصّفراءِ ، وبكاؤُكَ أيلولُ، ضحكاتُ “زيوسَ” على “بروموثيوسَ”، همساتُ “روميو” ل”جولييتَ”، يداها المُمْطرتانِ، ورائحتُها الزّرقاءُ التي على بعدِ فرحٍ منّي… كلُّ تلك العناصرِ كوني، سأبني بيتاً وأُقيمُ هناكَ (19) لكنْ في سياقات أخرى تصبح هي محلاّ يحُلّ به عنصر سلبيّ فينغّص عليها صفوها كالشّيخ الذي سكن روحها في المثال السّابق.وهو ما يبرز مدى تعقّد هذه الإشكالية :هل ذات الشّاعر من قبيل الحالِّ بالمفهوم البلاغي العربي القديم ؟ أم هل هي محلّ يحلّ فيها غيرُها ، أم هل هي حالٌّ ومحلٌّ في آن واحد؟ 2-1-2: أزمة في تمثّل الذّات للآخر: 2 -1 -2 -1: الآخر الموضوعيّ : إنّ للآخر في شعر محمّد بوحوش حضورا ثانويّا يكاد يكون خاطفا .لكنّه كاف ليقدّم للقارئ فكرة عن طبيعته وموقف الشّاعر منه.وهو على ضربين: آخرُ موضوعيّ وآخر ذاتيّ. فالموضوعيّ – وهو الذي له وجود في الواقع – لا يتجسّد إلا في صورة المعتدي، كما في قول الشّاعر: أخي، أيّهذا الذي مِن خيْرِ أمّةٍ قد أخْرِجتْ للنّاسِ، أيّهذا الصّديقُ الذي يُقاسِمُني الوَطنْ تَصَوّرْ! أنّكَ تذبَحُني ثمّ تأكلُ قلْبي منتَشيًا بالانتِصَارْ(20) أخِيرا.. جَاء البَرابرةُ الفاتحُون (بَعْدَ انتظارٍ طَوِيل!) حَامِلينَ لنَا نَعشَ “أنكيدو”: على سَفينَةِ نُوحٍ!(21) 2 -1 -2 -2: الآخر الذاتيّ:المرأة: أمّا الآخر الذاتي- ولعلّه من صنع خيال الشّاعر – فهو دائما أنثى.وهذه الأنثى تشكّل جزءا لا يتجزّأ من عالم الشّاعر الرّوحانيّ الذي يأوي إليه .لذلك فملامحها في الأغلب ضبابيّة لا يستفاد منها سوى كونها من الجنس المقابل، كما أنْ ليس ثمّة ما يثبت أنّها دائما امرأة إذ توحي بعض الإشارات أحيانا باحتمال كونها القصيدة .و مهما تكن حقيقة طبيعتها فهي تنهض أداة للتّعويض. وهذا ما نلمسه في الأمثلة التّالية : أشعلُ أعوادَ ثقابي وأحتمِلُ: أنّ المرأةَ السّابحةَ في رغوةِ البحرِ أمامي سمكةٌ راقصةٌ في “أوكواريوم”(22) عطرٌ غامضٌ كغمامٍ قُزحيٍّ يُسلسِلـُني إليكِ، فيما … ثغرُكِ الورْديُّ قصيدةٌ كزهرةِ “تُوليبَ” لا تَتفتّـحُ(23) فيما المرأةُ المنذورةُ للعشقِ، تنتظرُ القطارَ مكسوّةً بالغيمِ الأبيض وأجراسِ فاكهةٍ حرامٍ !(24) وقد يقتصر وجودها على الحضور إلى جانبه في وضع متأزّم ، كما في قوله: بينمَا يدكِ في يَدي ونَسيرُ… يتفجّرُ في الشّارعِ مقهًى: أطرافٌ حِذوَنا تنْحِبُ، أحشاءٌ مبثوثةٌ، ورؤوس مصلوقةٌ تثغو..(25) 2 -1 – 3 : أزمة في تمثّل الذّات الشّاعرة للعالم: لقد تولّدت عن الطّبيعة الرّوحانيّة المجردة لعالم محمّد بوحوش الشّعريّ قلّة الإشارات إلى العالم الخارجيّ وتفرّقها الشّديد.لكنّ حضوره الضّمنيّ فيه قويّ، لأنّه يؤلّف لديه المنطلق والخلفيّة. وحضوره يلوح على هيئتين متلازمتين أصبحتا خبز الإنسان اليوميّ في هذه المرحلة من تارخ البشريّة: الحرب والإرهاب. فممّا قاله في الحرب: بينما يدكِ في يدي ونسيرُ…. ينفجرُ في الشّارع مقهًى : أطرافٌ حِذونَا تنحبُ، أحشاءٌ مبثوثةٌ،ورؤوسٌ مسلوقةٌ تثغو… جوانحُنا تخفُقُ.. إنّها الحربُ! (26) وممّا جاء في شعره عن الإرهاب قوله : أخي، أيّهذا الذي مِن خيْرِ أمّةٍ قد أُخْرِجَتْ للنّاسِ، أيّهذا الصّديقُ الذي يُقاسِمُني الوَطنْ تَصَوّرْ! أنّكَ تذبَحُني ثمّ تأكلُ قلْبي منتَشيًا بالانتِصَارْ، أو تَصوّرْ! أنّني أقتّلُكَ باسمِ اللهِ وباسمِ الدّينِ.. اثنان نَحنُ، مُختلفَانِ لكن يَجمَعُنا المَصِيرُ(27) ومن أبرز سمات هذا العالم الخارجيّ شموليّته واتّساعه .فهو تارة محليّ وتارة عربيّ وطورا عالميّ وطورا آخر كونيّ أو إن شئنا هو وضع الكائن البشريّ في الكون وقد نزّل فيه الشّاعرُ الواقعَ العالميّ الرّاهن وضمّنه الواقع العربيّ و الواقع المحلّيّ.وهذا ما يظهر في الأمكنة والأزمنة وهوّيات الشّخوص والوقائع التي يكون عليها مدار النّصوص أو يرد ذكرها عَرَضا.وهذا يدلّ على شساعة رؤية الشّاعر واتّساع دائرة همومه.ولعلّه لهذا السّبب آثر أن يكتب باللّسانين العربيّ والفرنسيّ و أن يحرص على ترجمة شعره إلى اللّغة الإنجليزيّة حتّى يصل صوته إلى أكثر عدد ممكن من القرّاء في أوسع رقعة ممكنة من المعمورة . ومرّد تلك الشّساعة، في ما يلوح، إلى وعي الشّاعر بوحدة مصير البشريّة في ظلّ أوضاع متشابكة متردّية فرضها ظهور النّظام العالميّ الجديد الذي جعل الكرة الأرضيّة مسرحا لإرهاب الدّول العظمى ولسليله إرهاب الجماعات الدّينيّة المتشدّدة. وكلاهما يوفّر الأرضيّة اللاّزمة للشّركات المتعدّدة الجنسيّات التي تكدّس الثّروات الطائلة، بصناعة الأسلحة وسائر وسائل الدّمار وتتاجر بها على نطاق واسع و تتطلّع إلى الاستيلاء على ثروات كلّ الشّعوب ، إن عن طيب خاطر بوساطة عقود تضمن لها النّصيب الأوفر من تلك الثّروات وتترك لأصحابها الفتات و إن بالقوّة الماثلة في التّدخّل العسكريّ المباشر أو بتأجيج الخلافات العرقيّة أو الدّينيّة بين أبناء الأرض المراد نهب ثرواتها. ولا تحسبنّ الإنسان في العالم الذي ينعت بالمتقّدم يرفل في حلل النّعيم .فالجموع الكادحة فيه – وهي تؤلّف الأغلبيّة السّاحقة – تعاني من الاستغلال الفاحش والتّدهور المستمرّ لأوضاعها المادّية ، فضلا عن الإرهاب الذي صار يحيق بها في عقر ديارها . وهكذا فإنّ الشّاعر – وقد نزّل نفسه في هذه المنزلة الاستشرافيّة التي تُتيح له الوعي بمدى تردّي الأوضاع السّائدة في العالم بأسره و معاينة آلام الإنسان في كلّ مكان – قد اتّخذ من هذا الواقع مصدرا شبه ثابت يستقي منه موضوعات نصوصه .وهو ما يجعل شعره أغراضيّا يتّسم بالكونيّة ويرتبط وثيق الارتباط بالرّاهن والصّيرورة الجارية. لكنّ الأمر لا يقتصر على الاستشراف والمعاينة وإنّما يتجاوزهما إلى الإحساس بتلك الآلام .فعلى شاكلة كلّ شعراء التّسعينات قد تلقّى هذا الوضع تلقّيه لكارثةٍ .وهو ما كانت له آثار عميقة في كيانه الذّهنيّ والنّفسيّ تجسّدت أوّلا : في ضرب من الهروب في اتّجاهين : أحدهما نحو إلى الانغماس في الرّوحانيّات – وفي هذا يقول : إنّها الحربُ (أو إنّها نزوةٌ) أقول : اتّئدي يا حبيبةُ… تلك عاداتُنا في القتلِ ، لا تنزعجي … لا تُسرِفي في الخطوِ، (أغِلقي هذا الأفقَ العجيبَ) إنّها الحربُ ! ……. اتّئدي يا حبيبةُ، فالعالُمُ حولنَا زهرةٌ (28) والآخر نحو الخوض في الأسئلة الوجوديّة الممضّة.والأمثلة في هذا الباب كثيرة .ومدار جلّها على معنى الوجود المطلسم الذي جعل الشّاعر يصاب بحيرة عميقة: يملأ عقلَه الفراغُ ويدور لبُّه في فلك في اللاّمعقول ومنها قوله: الأشياءُ عاريةٌ تمامًا: لي أنْ أسَمّي الوقتَ ذبَابَةً، والظلَّ زَهرَةً، لي أنْ أسَمّيَ الرّوحَ طائرًا أزرَقَ والسّماءَ حَبيبةً… لي أنْ ألهُوَ باللّغةِ، وأندَهشَ بالأسماءْ: طفْلاً يسْحَلُ الكلمَاتِ ويقضِمُ تفّاحَ المَعنى(29) العالمُ جثّةٌ ، وفي الرّأسِ مِشنقةٌ وبلوى… ما الذي يرتجيه هذا الرّجلُ الفارغُ، الفارعُ ، الحالمُ باللاّشيءِ؟ ماذا سيفعلُ بنفسِهِ الأمّارةِ باللّعنةِ؟ ………………………. عيناه تغرَوْرِقان بالعشقِ، يمسَحُ عن جبهتِهِ الكآبةَ ، يلوّثُ يدَهُ بالحيرةِ ، وأخيرًا يقرفِصُ في العتَمةِ (30) وقوله: من أينَ يأتي كلُّ هذا الهديرِ، والعالَمُ أخرسُ…؟ لا أدري.. ما الذي حلَّ بي، وبأيِّ مطرقةٍ سأطرُقُ…؟ عَشِيَتْ عيناي، وتعنكب* قلبي… لا هديرَ ، سوى دودةِ قَزٍّ برأسي(31) كلّ هذه الإشارات توحي بأنّ الحالة التي عليها الشّاعر من جرّاء غياب المعنى تارة و غموضه تارة أخرى حالة ذهانيّة متأتّية من تلك الحيرة الوجوديّة.ولكلّ الحالات من هذا القبيل انعكاس على نفسيّة الفرد المصاب.فما هي آثار هذا الانعكاس في شعر محمّد بوحوش؟ 2-2 : المكوّن النّفسيّ: إزاء عجز الذّات الشّاعرة في شعر محمّد بوحوش عن تمثّل ذاتها على النّحو السّليم ونظرتها إلى الآخر على أنّه ” الجحيم” واستحالة انسجامها مع العالم الخارجيّ ورؤيتها للكون على أنّه كتلة فاقدة للمعنى يشيع في هذا الشّعر إحساس بالإحباط وتطغى عليه مسحة كثيفة من الحزن والألم النّفسيّ. ولهذين الإحساسين تواتر عال في قصائد الشّاعر. من ذلك ما جاء في الأمثلة التّالية : ” لكنّي موجوعٌ ومصلوبٌ“(32)– “حتّى إنّي في جسدٍ بأغصانٍ خريفيّةٍ/ هيكلاً عاريًا وحزينًا”(33)– عيناه تغرورقان بالعشقِ/ يمسحُ عن جبهتِه الكآبةَ” (34) (“يدي المتمرّسةُ بالآلامِ” (35) – “ويُوجعُني المَرجانْ/بين غمٍّ ٍ وأمرٍ أحاولُ أن أستعيدَ المكانْ” (36)– “فيمَا أعدُّ القطراتِ بأنّاتِها، لأؤلّفَ أمطارًا/ فجأة يَندلعُ دَمٌ فاسدٌ،/ برائحةِ الحزنِ،“(37). وهذا المكوّن النّفسيّ للذّات الشّاعرة منسجم تمام الانسجام ، كما نرى ،مع مكوّنها الذّهنيّ. II – خصائص شعر محمّد بوحوش الإنشائيّة : يميل محمّد بوحوش شكليّا إلى كتابة المقطوعات الشّعريّة القصار التي تتراوح بين الثّلاثة والعشرة أبيات وفي حالات قليلة جدّا أكثر من ذلك بقليل .وهذا الحجم المقتضب مُوَاتٍ لإحداث الأثر الشّعريّ الذي هو المطلب الأوّل في قصيدة النّثر لدي رموزها ومنظريها(38). وهو ما ينجح في تحقيقه الشّاعر بنزوعه في كلّ ما يكتب تقريبا إلى الاقتصاد في العبارة . والخصيصة الثّانية اللاّفتة في نصوص هذا الشّاعر – وهي الأهمّ – هي حرصه على تحقيق الإبهار .وهو ما يتوسّل إليه بأساليب شديدة التّنوّع منها حشد العبارات المختلفة المعاني بطريقة الفصل للإيحاء بجوّ شاعريّ عامّ نحو : نبوءةُ الفجرِ/زقزقةُ الشّمسِ الخضراءِ،/زغاريدُ العصافيرِ،/تيقُّظُ الأزهارِ، عرْيُ السّماءِ،/حفيفُ المُشاةِ على الأرصفةِ،/أنينُ الطُّرُقاتِ،/اكتظاظُ الشّوارعِ بالوهمِ ،/قبلاتُ الوداعِ(39) ومنها توظيفه العجيب كما في قوله : أقرَع الأغنيَات،/ وأبدّدُ خَطوي…/ أسيرُ.. وأنبَحُ.. أنبَحُ.. وأسيرُ…/ مَا أسْعدَ هذا الوُجُود بِكلْبٍ جَديد!(40) أو في قوله: عينانِ في كأسي، تُقَهقِهانْ (41) ومنها بالصور المبتكرة كما في قوله : روحي نورسة ٌزرقاء في حضن الأبديّة(42) أو قوله: تعنكب* قلبي…/لا هديرَ ،/سوى/ دودةِ قَزٍّ برأسي (43) وبوجه عامّ يمكن القول إن محمّد بوحوش من الشّعراء التّونسيّين القلائل الذين أدركوا أنّ الشّعر ليس خطبة لبث الأفكار أو تعبيرا عن الشّعور وإنّما هو القول المُبْهر المُربك بما ينطوي عليه من إيحاء عارم وصور مبتكرة .وهو يلتقي في هذه القناعة مع جلّ شعراء التّسعينات . خاتمة : لم نقصد بهذه القراءة المقتضبة في شعر محمّد بوحوش القيام بدراسة شاملة للنصوص التي تتضمنها مجاميعه الإحدى عشرة وإنّما قصرنا همنا على محاولة رسم المعالم البارزة لعالمه الشّعريّ وبيان طرائق اشتغاله.وقد أعانتنا على ذلك متابعتنا المنتظمة لما ينشره من نصوصه الشّعريّة على الفايسسوك منذ سنة 2009.وقد علّقنا على الكثير منها في إبّانه ، كما ترجمنا بعضها إلى اللّغة الفرنسيّة . وفي تقديرنا أنّ الأنموذج التّحليليّ الذي نقترحه في هذه المحاولة يمكن أن يكون منطلقا لدراسة أوسع وأعمق . ولعلّ أهمّ ما نخرج به من هذه القراءة العجلى فائدتان :الأولى هي معاينة الإضافات البالغة الأهميّة التي قدّمها شعراء التّسعينات إلى الشّعر التّونسيّ بتنكّبهم للخطابة والبوح الوجدانيّ المباشر الموقعيْن وجوبا في الغثاثة والفجاجة والأخرى هي تفرّد تجربة كلّ شاعر تسعينيّ رغم اشتراكه مع شعراء موجته في مجموعة من القسمات العامّة .ويفسّر ذلك بأنّ كلّ واحد منهم يغرف مباشرة من أعمق ذاته لا من تيّار فكريّ ولا من ثقافة معيّنة . الهوامش: 1- Montpellier ( Gérad de), »Psychanalyse et conception spiritualiste de l’homme » ;Revue philosophique de Louvain,Année 51 Numéro 21 pp 130-135 2- بوحوش (محمّد )، قصائد ومضة، دار القلم للنّشر والتّوزيع، سيدي بوزيد ، تونس ، 2015 ص 11 3 -Moir(Tristan Frédéric),Dictionnaire psychanalytique des images et symboles des rêves, livre électronique sur le web, voir les mots « Oiseau » et »Ciel ». 4- بوحوش (محمّد) ، العالم زهرة، دار البدوي للنّشر والتّوزيع، المنستير، تونس 2014 ص 101 5- المصدر نفسه ص 154 6- الإسراء 85 7- يوسف 35 8- من أكثر علماء تحليل النّفس الذين استعملوا لفظ الرّوح بهذا المعنى كارل قوستاف يونق .انظر مثلا كتابه : Jung ( Carl Gustave ) , Essai d’exploration de l’inconscient, Editions Gontier , Paris 1964 9- بوحوش (محمّد) ، بستان الهاوية، دار المجال للنّشر ، تونس 2013 ص 94 10- بوحوش (محمّد) ، العالم زهرة ص 101 11- بوحوش (محمّد) ، قصائد ومضة ص 116 12- بوحوش (محمّد) ، بستان الهاوية ص 80 13- بوحوش (محمّد) ، العالم زهرة ص 154 14- بوحوش (محمّد) ، شوارد، شركة يسرى للطّباعة ، توزر ، تونس 2009 ص 63 15- بوحوش (محمّد) ، العالم زهرة ص ص 58/59 16- بوحوش (محمّد) ، بستان الهاوية ص 38 17- Laplanche (Jean) et Pontalis ( Jean Bertrand), Lexique de psychanalyse basé sur vocabulaire de la psychanalyse, puf, Paris 2007 p 9. 18- Psychologie des foules et analyse du moi”, dans Essais de psychanalyse. Paris, Payot, nouvelles traductions, 1968 ( 1921 )p 38 19- بوحوش (محمّد)، قصيدة الشّرفات المطلّة على الغيب( غير منشورة) 20- بوحوش (محمّد)، العالم زهرة ص ص 98/99 21- المصدر نفسه ص 60 22- المصدر نفسه ص 60 23- بوحوش (محمّد) ، قصائد ومضة ص 116 24- المصدر نفسه ص 154 25- بوحوش (محمّد) ، بستان الهاوية ص 80 26- بوحوش (محمّد) ، العالم زهرة ، ص ص 114/115 27- المصدر نفسه ص ص 114/115 28- المصدر نفسه ص ص 98/99 29- المصدر نفسه ص 115 30- المصدر نفسه ص ص 101/102 31- بوحوش (محمّد) ، بستان الهاوية ص 90/91 32- المصدر نفسه ص 48 33- بوحوش (محمّد) ، قصائد ومضة ص ص 12/13 34- بوحوش (محمّد) ، شوارد ص 63 35- بوحوش (محمّد) ، بستان الهاوية ص 90/91 36- تقول ستيفاني لوبون في هذا الموضوع: “الاقتضاب ( على أقصى تقدير بضع صفحات)واختصار الكتابة خصيصتان من خصائص قصيدة النثر “.انظر في ذلك : « Vers une poétique du poème en prose dans la littérature française moderne »,voir »Revsta lenguas modenas no 13 2013 p 101 أمّا سوزان برنار فتعرّف قصيدة النّثر كالآتي: : ” هي عبارة عن نصّ نثريّ قصير يشكّل وحدة وسمته الأولى هي الاعتباطيّة أي أنّه لا يهدف إلى سرد حكاية أو إلى تبليغ معلومة وإنّما إلى محاولة إحداث أثر شعريّ” .انظر: Bernard(Suzanne), Le Poème en prose de Baudelaire jusqu’à nos jours , Nizet, Paris 1959 p.6 37- بوحوش (محمّد) ، قصائد ومضة ، ص 07 38- بوحوش (محمّد) ، العالم زهرة ص 154 39- بوحوش (محمّد) ،قصيدة سأقيم هناك ( غير منشورة) 40- بوحوش (محمّد) ، ديوان العالم زهرة ص ص 58/59 41- المصدر نفسه ص ص 62/63 42- بوحوش (محمّد) ، قصائد ومضة ص 11 43- بوحوش (محمّد) ، بستان الهاوية ص 48 2016-04-21 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet