الأنا الشّعريّ الذّهنيّ وعلاقاته بالآخر والعالم في شعر باتريك برتا فورقاس : محمّد صالح بن عمر 27 يونيو,2015 لئن كانت المعطيات الموضوعيّة التي تتوفّر لدينا لا تمكّننا من تحديد خطوات باتريك برتا فورقاس الأولى في قرض الشّعر على وجه الدقّة، رغم ممّا جاء على شفة قلمه من أنّه كتب أوّل قصيدة له سنة 1971 (1)،فإنّ مجاميعه الإحدى عشْرةَ التي توالى صدورها من سنة 1991 إلى اليوم (2) ،على نحو شبه منتظم، تقدّم لنا صورة لشاعر مثابر، نشيط ،غزير الإنتاج .أمّا محتواها فلا يمكن أن يَصْدُرَ في شأنه، بطبيعة الحال، أي حُكْم يكون له حظّ من المصداقيّة ما لم تُفحَص مليّا وتُشَرَّحْ تشريحها كلّيّا. ولكنْ ما هذا برائدنا في هذه الدّراسة المقتضبة التي لا نرمي بها إلاّ إلى الوقوف على أبرز السّمات المميّزة للكتابة الشّعريّة عند هذا الشّاعر من جهتي المعنى والمبنى قصد التّعريف بها لدى أوسع جمهور ممكن. على أنّه قبل السّعي إلى الكشف عن هذه السّمات قد يكون من المفيد أن نحاول تنزيل تجربة باتريك برتا فورقاس برمتّها في موضعها من تطوّر الشّعر الفرنسيّ المعاصر. إذا صدّقنا الشّاعر فيما صرّح به عن بداياته في كتابة الشّعر فإنّه يكون إذن من جيل السّبعينات الأدبيّ، ذلك الذي كان يتجاذبه بوجه عامّ اتّجاهان متنافسان من حركة الطّليعة الفرنسيّة احتدم الصّراع بينهما منذ نهاية العشريّة السابقة: أحدهما جسّدته مجموعة” كما هو”(Tel quel ) التي يرجع ظهورها إلى بداية الستّينات(3) والتي كانت تجريبيّة خالصة ، تدعو إلى نقل الأدب من الاجتماعيّات وعلم النّفس وبوجه خاصّ من الفلسفة إلى اللّسانيّات والسّيميائيّات ، منادية على لسان زعيمها فيليب سولار ( Philippe Sollers ) باعتماد مبدإ من مبادئ البنيويّة الرّئيسة. وهو “اكتفاء النّصّ بذاته”… وب”التّخلّي عن جميع ألوان التّبرير التي تُمارس على الأدب من خارجه”(4)، ملتقية في ذلك بفرضيّة رولان بارت (Roland Barthes 1915 -1980) الشّهيرة القائلة ب”موت المؤلّف”(5) التي أعلن عنها في السّنة نفسها. أمّا الاتّجاه الآخر فقد تشكّل حول جان بيار فاي ( Jean Pierre Faye ) منشّط مجموعة “غَيِّرْ”(Change ) التي كانت تبذل قصارى جهدها من أجل تحقيق الاستمرار للكتابة الملتزمة.وهي التي كان جان بول ساتر يدافع عنها ويروّجها منذ الأربعينات(6). ففي سياق أدبيّ كهذا يهيمن عليه ،من جهةٍ، مفهوم الكتابة الموغل في الشّكلانيّة ،الذي يختزل الذّات المبدعة في ضمير المتكلّم المفرد ومن جهة أخرى التّسييس التّام للأدب، لنتفّق على أنّه لم يكن من السّهل البتّة على شاعر شابّ ألاّ ينساق وراء جاذبيّة واحد من ذينك المسلكيْن وأن يعثر على طريق خاصّة به دون سواه. ولكنّ استصعاب مثل هذا الإنجاز وإن كان معقولا في المطلق فإنّه لا ينطبق على شاعرنا، لما يتمتّع به من مواهب خلاّقة استطاع بفضلها أن يشقّ لنفسه منذ خطواته الأولى مسلكا جديدا.ولئن اتّسم هذا المسلك بالعودة إلى الفلسفة وتحديدا إلى الوجوديّة التي استماتت مجموعة ” ما هو” في مقاومتها فقد تمّيز عن التّيّارات الفلسفيّة السّابقة وخاصّة وجوديّة سارتر( Sartre) التي قرّرت أنّ ” الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرّا”(7) ووجوديّة كامو ( Camus ) التي رفعت ذلك الشّعار الشّهير” أتمرّد إذن نحن موجودون” (8) بضرب من الوجوديّة موغل في التّشاؤم لا يؤمن بقدرة الإنسان على الاختيار و حرّيّة التّصرّف ولا على الوقوف في وجه العبث الذي يحكم العالَم.أمّا أسلوبيّا فكان منحى باتريك برتا فورقاس متناغما مع مفهوم الكتابة الشّعريّة الذي ساد في ذلك الوقت والذي قام على مبدإ تكثيف العدول والشّذوذ اللّغويّ، بغية تنقية اللّغة من الدّلالات اللّفظيّة والمرجعيّة.(9) هذه النّزعة التّلقائيّة عند الشّاعر الشّاب باتريك برتا فورقاس إلى التّميّز عن شعراء جيله قد أذهلتنا حقّا عند اطّلاعنا على بعض قصائده المؤرّخة في سنة 1976 ( 10) لا لأنّها ترشدنا إلى وعيه منذ ذلك الوقت المبكّر بفرادة شخصيّته على الرّغم من صغر سنّه فحسب بل خاصّة للطّابع الحاسم لذلك الاختيار ، إذ سيتّضح، في ما بعد، أنّه الخطّ الذي لن يحيد عنه حتّى اليوم. فكيف تتجلّى هذه النّزعة التي كانت منذ البداية تلقائيّة في شعر باتريك برتا فورقاس ؟ وما هي أبرز الأدوات الأسلوبيّة التي يوظّفها في تصويرها؟ I – مقوّمات شعر باتريك برتا فورقاس الأغراضيّة : يمكن القول إنّ عالم باتريك برتا فورقاس الشعريّ يقوم على ثلاث دعائم رئيسة ثابتة هي : الأنا والآخر والعالم. وترتبط بكلّ دعامة منها شبكات دلاليّة عملاقة تتفاوت أحجامها من قصيدة إلى أخرى.وهذه البنية الثّلاثيّة يتحكّم فيها” الأنا” على نحو قارّ، بحكم كونه هو الذي يبثّ الخطاب ويحدّد لكلّ مكوّن من تلك المكوّنات، بما فيها نفسه، نصيبه من الحضور ودرجة تأثيره في المكوّنين الآخريْن. فما هي المظاهر التي تتجلّى فيها ؟ وما هي طبائعها ووظائفها؟ 1- أنا شعريّ ذهنيّ، عليم ،متفرِّج،ميّت العواطف : ينبغي مقاربة هذا المكّون الأساس من مكوّنات عالم باتريك برتا فورقاس الشّعريّ بحذر شديد.وذلك لأسباب مختلفة، أوّلها أنّ أسلوب هذا الشّاعر يتّسم ، مثلما سنرى ذلك في القسم الأخير من هذه الدّراسة، بالاستخدام المكثّف للمعاني الحافّة و المعاني الثّواني وقلب المعنى والسّخرية، ثانيا أنّ المؤلّف رأى من المفيد أن يعلن عن وجهة نظره في شعره شكلا ومعنى – وهو ما يثير إشكاليّة القول والمقصود بالقول – ، ثالثا أنّ الأنا الشّعريّ عند هذا الشّاعر لئن كانت ملامحه تلوح إلى حدّ مّا واضحة في جلّ القصائد فإنّها في بعض المقاطع من القصائد المتبقّية تبدو مغايرة لذلك تماما. ولييسّر المؤلّف للقارئ، في ما يبدو، عمليّة ولوج عالمه الشّعريّ أورد في ترجمته الذّاتيّة التي نشرها على الشّابكة الإضاءة التّالية:” ما أقسى التّعريف بالنّفس.ولكم تُمنى مثل هذه المحاولة بالفشل إذ هو لا يتحقّق إلاّ في مرآة الآخر ونظره. أنا رجل يعيش على سطح هذه الأرض ويحبّ البشر، رجل يؤرّقه اتّجاه عقارب الزّمن والبصمات التي يحفرها ،رجل غضبان يكتب الألم والولع ليتّخفّف من حملهما.(11) وعلى الرّغم من التّنسيب الظاهر الذي وسم هذا الرأي وممّا تتفّق فيه مدارس النّقد الحديث من إنكار أيّ تطابق آليّ بين المقول والمنويّ بالقول في النّصوص الأدبيّة فإنّه لا يمكن لنا تجاهله أو التّقليل من شأنه.وذلك لكي تكون مقاربتنا لشعر هذا الشّاعر موضوعيّة .وهي لا تكون كذلك إلاّ إذا أخذنا فيها بعين الاعتبار كلّ القراءات الممكنة. ومع ذلك لنقل منذ البدء إنّنا إذا احتكمنا إلى ما عبّر عنه الشّاعر فعلا في معظم قصائده التي أتيحت لنا فرصة الاطّلاع عليها في بحر السّنوات الخمس الأخيرة فإنّ الإستراتيجيّات التي اتّبعها الأنا الشّعريّ فيها تلوح مضادّة للتي أعلن عنها صاحب هذه القصائد في ترجمته الذاتية . ولهذا السّبب فرّقنا آنفا بين ما سمّيناه ” سمات غالبة” في هذا الأنا و” سمات استثنائيّة “. لنبدأ بتفحّص السّمات الغالبة قبل أن نلقي نظرة على السّمات الاستثنائيّة، القليلة التّواتر. يعترضنا في القصائد الكثيرة التي قرأناها لهذا الشّاعر منذ أن تعرّفناه سنة 2010 أنا شعريّ، ذهنيّ في المقام الأوّل، تلوح مقصورة* العاطفة فيه مُحْكَمةَ الإغلاقِ إلى حدّ أنّها لا تنكشف عن أيّ أثر للمشاعر .وهو، إن شئنا، “أنا” مختزَل في عقل يفكّر و”يضع نفسه” ، على حدّ قول هيقل (Hegel 1770 – 1831) “في عنصر التّفكير المطلق بمعزل عن أيّ إحالة على الجانب العاطفيّ الواعي أو غير الواعي بذاته” ( 12) أي، بلغة أدقّ، “أنا” ميّت العواطف، لا غنائيّ، لا يعتريه حبّ ولا كراهية ، لا فرح ولا حزن، يمتلك كفاية تحليليّة تدفعه تلقائيّا إلى تشريح الواقع والنّفاذ إلى أعماق الأشياء بمراس لعبة الاستعادة*والاستبطان*والاستباق*لكن في حدود مضبوطة لا تتعدّى هذه الدّنيا مكانا وماضي النّوع البشريّ وحاضره ومستقبله زمانا. على أنّه إذا كان هذا الارتباط الوثيق بالواقع يلغي احتمال توفّر تمشّيه على أيّ بُعد ماورائيّ أو روحيّ ويقرّبه عمليّا من صفة الباحث العلميّ فإنّ القدرتين الخارقتين :العِلم بكلّ شيء والوجود في كلّ مكان اللّتين، حسب ما يظهر من خطابه ، يتمتّع بهما تنفيان عن تمشّيه أيّ صفة من صفات البحث، كما يستتبع وجودهماعلمه التام والمسبّق بالحقيقة التي يتردّد صداها في أقواله.وهو ما يجعل منه شبه نبيّ يتلقّى الوحي من السّماء لكن من دون أن يكلّف نفسه عناء نشر رسالته أو محاولة التّدخّل أو تغيير مجرى الأحداث.وهكذا نجد أنفسنا، على عكس ما بدا لنا في البداية، في قلب الميتافيزيقا. أمّا الصّورة الاستثنائيّة – وهي تنتمي، في ما يبدو، إلى الماضي – فسمتها الأولى هي انشغال الشّاعر الشّديد بهموم الآخرين مع تعلّقه بالحياة، فضلا عن نبرة التزام خفيفة تطفو على سطح الخطاب. وإليك هذه الأمثلة : رسمتُ منذُ عهدٍ بعيدٍ نبضاتِ أرواحِكم كنت أتصوّرُ وقتذاكَ أنّ لي قدرةً غيرَ ثابتةٍ على حراستِكُم من أنفسِكُم على مباغتةِ الزّمن لتقاسمِهِ في النّهايِة معكُمْ أتّهمُ نفسي بالأمل والحُلمِ والحُبِّ ( الكَتَبَةُ في حالةِ إيقافِ ) كنسيانٍ يستمدُّ قوّتَهُ من صُراخِهِ أريدُ أن أؤلّفَ الكتابَ الذي يُمضي التّخلّي عن الأصواتِ ثمّ مواصلةَ الطّريقِ التي تُسلَكُ في الحجِّ إلى الشّكِ للصّعودِ بانهيارِ الأملِ أنا حيٌّ (وصيّة بندور) ستوجدُ دائمًا ساحةُ الوغى لترجِعْ إلينا كلَّ يومٍ فكرةُ السّلامِ في الحرب الذي يخوضُها (حَلْقةُ الازدحام ) طبعا قد يكونُ من المجازفةِ أن نرى في هذه المقاطعِ بصيصا من التّفاؤل.وذلك لأنّ أسلوبَ الشّاعرِ يطفح، في الغالب كما ذكرنا، بقلب المعنى والتّعريض. 2– الآخر هو الجحيم : على عكس الأنا المؤلَّهِ لكن عديم الفعل لكونه، كما رأينا، يتمتّع بقدرات خارقة إلاّ أنّه لا يوظّفها في تغيير الواقع فإن الآخر يلوح في حقله البصريّ على هيئتين متقابلتين كلّ التّقابل : هيئة المعتدي/هيئة المعتَدى عليه .ومثلما هو الحال في عالم الحيوان يصدر الاعتداء دائما عن الأقوى على حين يكون المعتدى عليه محكوما عليه باحتلال موقع الضّحيّة لضعفه الفادح.وهو ما يعني أنّه لو كان قويّا لكان وجوبا معتديا.وفي ذلك رؤية للطّبيعة البشريّة تتعارض مع فرضيّة روسوجان جاك ( Jean Jacques Rousseau 1712 – 1778) القائلة بأنّ ” الطّبيعة جعلت الإنسان سعيدا وطيّبا لكنّ المجتمع يفسده ويُشقِيه ” ( 13) وربّما لهذا السّبب لا يبدي الأنا الشّعريّ أي تعاطف مع الضّحايا ما داموا يسكنهم الشّرّ أيضا تماما مثل المعتدين عليهم. هذا الموقف حيال الإنسان الذي وصفناه في مناسبات عدّة بالموقف الموغل في التّشاؤم هو العماد الذي يقوم عليه فكر باتريك برتا فورقاس.وهو لم ينشأ عن حالة ذهنيّة عابرة وإنّما عن رؤية مخصوصة للذّات الإنسانيّة التي من المحتمل أنّها تشكو تشوّها ولاديّا أو بلغة أدقّ قصورا نفسانيّا* عميقا عُضالا يتسبّب في تغذية نزوات عدوانيّة تجاه الآخرين وفي الوقت نفسه حبٍّ للذّات من أخبث طراز. من ذلك ما جاء في قول الشّاعر : سيكونُ الأطفالُ عُراةً ولا أحدَ معهم وستخسِرُ الأرضُ محيطاتِها وسيكونُ الضّوءُ نِسيانَ الأشباحِ المُختلطةِ للشّموسِ القلوبُ والأرواحُ تخوضُ حربا من حروب اليانصيبِ ولكنْ ألا يكون وصف الأنا الشّعريّ بالمتشائم متضاربا مع الطّبيعة الذّهنيّة وغير العاطفية التي أسندناها إليه؟ كلاّ ! ذلك أن التّشاؤم أبعد من أن يكون مجرّد شعور.فالقاموس الفرنسيّ لي ليتري ( Le Littré) يعرّف ” المتشائم” بأنّه “الذي يعتقد أنّ كلّ شيء على أسوإ ما يرام “. ومعناه أنّ الأمر يتعلّق هنا بأسلوب معيّن في النّظر إلى الأشياء أي بحالة ذهنيّة خالصة. على أنّ التّشاؤم يؤلّف تيّارا فلسفيّا قائم الذّات تمتد جذوره إلى العصور القديمة.فمن أقوال هيجاجياس دي سيران ( de Cyrène Hégésias – 300 قبل الميلاد) وقتذاك : ” السّعادة شيء مستحيل مطلقا لأنّ الجسم تنهشه آلام لا تُحصى ولا تُعدّ والرّوح التي تنال قسطها من هذه الآلام يشوبها من جرّائها اضطراب شديد”. ( 14) وفي عهد قريب كان أرتور شوبنهاور (Arthur Schopenhauer 1799 -1860) يرى أنّ الحياة تتأرجح مثل رقّاص السّاعة من اليمين إلى اليسار، من الألم إلى القلق”(15) وأنّ ” الألم هو جوهر حياة بأكملها”. (16)ومع هذا فخلافًا لما ذهب إليه هذان المفكّران لا تتلخّص مأساة الإنسان عند باتريك برتا ّفورقاس في مجرّد ألم مستمرّ وإنّما تصوَّرَها على هيئة ضرب من السّيرورة المدمِّرة متأتّية من تناقض لا سبيل إلى الحسم فيه بين قصور خِلْقيّ عميق تعاني منه الذّات الإنسانيّة وذكاء وقّاد هي مزوّدة به.وهو ما سيؤدّي حتما إلى تدمير الحضارة البشريّة وامّحاء كلّ أثر من آثار الحياة على وجه البسيطة. هذه الفرضيّة قد تجد لها سندا في علم تحليل النّفس وبوجه أدقّ في هذا القول لسيقموند فرويد (Sigmund Freud 1856 – 1939 ) :” الإنسان مزوّد غريزيّا بشحنة قويّة من العدوانيّة”.(17) 3- العالم : مسرح يحتضن المأساة الإنسانيّة : نستعمل هنا كلمة” عالَم” لتدقيق معنى المكان الذي تجري فيه المأساة الإنسانيّة، من ظهور النّوع البشريّ على سطح الأرض إلى اليوم، مميّزين بينه وبين ” الكون”الذي يتأّلّف من مجموع المجرّات.ولهذا التّدقيق أهمّية بالغة لأنّ رؤية الأنا الشّعريّ، كما تلوح من شعر باتريك برتا فورقاس، أرضيّة واقعيّة لا ماورائيّة أو موسومة بالحُلم. على أنّه إذا كان الفضاء في هذا العالم يُدرَك في شموليّته فإنّ نظر الشّاعر غالبا ما ينجذب نحو مواطن الضّغط القُصويّ حيث يمارس العدوان البشريّ القاتل والمدمّر وتحاك المؤامرات في الخفاء، تمهيدا لتنفيد الاعتداء.وهذه العدوانيّة تتجلّى دائما أو تكاد على هيئة حروب أو غزوات أو هجومات أو جرائم أي أعمالِ هدمٍ وإبادةٍ يرتكبها الإنسان ضدّ الإنسان ، كما لو أنّ الشّاعر يريد أن يبرز بذلك عدم صلاحية هذا العالم لحياة بشريّة عاديّة.وإنّ مثل هذا الأمر الواقع لا يمكن أن يتولّد طبعا إلاّ عن قطيعة تامّة بين الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه. وهذه القطيعة هي، في حدّ ذاتها، عنصر أساس من عناصر المأساة. يقول الشّاعر في هذا المعنى : الحروبُ تتقدّمُ في اطمئنانٍ تامٍّ لينمِ الأطفالُ كما لو أنّ التّاريخَ كان يريدُ أن يختنقَ (العمرُ الجديدُ للكذبِ) وهناك عنصر آخر مهمّ من عناصر جنس المأساة هو التّدمير الذّاتيّ الذي يمارسه النّوع البشريّ.وهذا العنصر يحدّد بمفرده ما ينزع إليه، مع تقدّم الزّمن، من مصير حالك .وهو يحدث على نحو متزامن مع التقدّم العلميّ الباهر الذي يحقّقه الإنسان.ولا تفسير لهذا التناقض غير وجود تشوّه خلقيّ مّا في الذّات الإنسانيّة . وختاما إذا كان الآخر، مثلما رأينا، هو الجحيم فإنّ العالَم جحيم أيضا.وهو ما تسبّب في استحالة إقامة الإنسان أيّ علاقات سليمة سواء على صعيد الكرة الأرضيّة أو في بلد من البلدان أو في صلب المجتمع.وذلك لأنّ كلّ فضاء من هذه الفضاءات الثّلاثة حلبة تامّة الشّروط يحتدم بين جنباتها صراع ضارٍ لا هوادة فيه. II- خصائص شعر باتريك برتا فورقاس الأسلوبيّة: أسلوبيّا لا يتوجّه باتريك برتا فورقاس ، في الأغلب الأعمّ، بشعره إلى المتلقّين المستهلكين السّلبيّين أو المتعجّلين بل إلى القرّاء المتأنّين من ذوي الأذهان المرهفة القادرين على الإسهام النشيط في إنشاء النّصّ الشّعريّ. فبفضل تجربته الطّويلة التي تمتدّ على أكثر من ثلاثة عقود واندماجه العميق في عالم الوجوديّة المتشائمة وحساسيّته الجمالية المرهفة وخياله الخصب، قد نحت لنفسه لغة فريدة قوامها طاقة الألفاظ الإيحائيّة وسلاسل العدول المتعاقبة والتّكثيف الشّديد للمعاني الثّواني.وذلك مثلما يلوح في هذه الأمثلة : يصنعان التّلميحَ الأحمرَ لاستخدامِهِ في الاستقالةِ بل في إراقة دمِ البراءاتِ والآنَ شكُّ الزّمنِ سواء أردْنا أن يتوقّفَ أو لا *** لأزهارِ دمي اللّونُ الذي تمحوهُ اللّوحةُ حينَ يكون الحدُّ بديعًا… كالأمطارِ كما يُذرفُ الدّمعُ لأنّ الشّكَّ من سحرةِ الفوضى وهكذا فإنّ الشّاعر باستخدامه المكثّف، على شاكلة الرسّام التّجريديّ، للّمسات الخفيفة، الخاطفة، المتفرّقة المتراوحة بين الفاتح والدّاكن مع غلبة الألوان الحالكة، على هيئة دلالات حافّة ومعانٍ ثوانٍ شديدة الترابط يسم لغته بطابع خصوصيّ فريد حقّا .وهو ما يعدّ، في تقديرنا، نقطة القوّة الكبرى في كتابات هذا الشاعر. خاتمة : ينبغي الإقرار هنا بأنّ أعسر مرحلة في هذه الدّراسة هي خاتمتها.وذلك لأنّ ما قمنا به فيها إلى حدّ الآن إنّما هو استقراء لما ورد في المقول، انطلاقا من مدوّنة تتألّف من قرابة الخمسين قصيدة. وهي القصائد التي أشركنا الشّاعر في الاطّلاع عليها بشبكة الفايسبوك في السنوات الخمس الأخيرة .وهو ما أفضى بنا إلى استخلاص ما استخلصناه من نتائج.وأبرزها بلا شكّ فرادة تجربته الشّعريّة أغراضيّا وأسلوبيّا.وهو ما تجسّد منذ خطواته الأولى في خطّ فكريّ لم يحد عنه طيلة مسيرته ألّف ولا يزال محورا فلسفيّا دقيقا، محدّدا،قارّا: التّدهور المستمرّ الحتميّ للأوضاع السّائدة في العالم نتيجة لتشوّه خِلْقي محتمل في الذّات البشريّة يدفعها إلى الإضرار بفصيلتها نفسها وبالمحيط. أمّا أسلوبيّا فعناية الشّاعر مركّزة في كلّ قصيدة على صعيد كلّ جملة وكلمة على المعاني الحافّة والمعاني الثّواني التي يوحيان بها .وهو ما رفع نصوصه إلى درجة عالية من درجات الفنّ الشّعريّ. لكنّ هذا الأسلوب مع ذلك يتيح له أيضا إمكان التّخفّي والمراوغة، باتّخاذ المقول قناعا يعتّم به على شخصيّته الحقيقيّة. وهي تلك التي أعلن عنها في ترجمته الذّاتيّة .فهل في إلحاحه الشّديد المتكرّر على تدهور الأوضاع في عالمنا السّفلي منذ ظهور الجنس البشريّ على سطح الأرض من جرّاء عدوانيّته وأنانيّته احتجاجٌ ضمنيّ على هذا الواقع المتردي ودعوةٌ غير مباشرة إلى تغييره ؟ كل شيء في الشّعر ممكن حتّى إن غابت الحجج. الهوامش : 1-Voir : site de L’Harmattan, auto-présentation de Patrick Berta Forgas. 2-Ibid, la liste des recueils de Patrick Berta Forgas comporte les onze titres suivants : 3-Tel Quel est une revue de littérature d’avant-garde, fondée en 1960 à Paris aux Editions du Seuil. Elle a paru régulièrement jusqu’à 1983. 4- « Tel Quel », Théorie d’ensemble, Seuil, Paris 1968 p 392. 5- Barthes(Roland), La mort de l’auteur, publié dans la revue Manteia no. 5, 4e trimestre, Marseilles 1968, pp 12-17. 6-« Change » est une revue littéraire d’avant-garde, fondée à Paris en 1968 aux Editions du Seuil où elle a continué à paraître jusqu’à 1972 puis chez Seghers / Laffont jusqu’à 1983. 7-Sartre(Jean-Paul), L’existentialisme est un humanisme, Nagel, Paris, 1946 p. 37. 8-Camus ( Albert),L’Homme révolte, Les Éditions Gallimard, Paris 1951 p.38. 9-« Langages » no 1, Elaboré par Tzvetan Todorov, « Recherches sémantiques »,Larousse, Paris 1966 128 pages.Il entend par »Anomalie » les phrases grammaticales susceptibles de dérouter le lecteur en suscitant chez le lecteur un sentiment d’étrangeté. 10- Ces poèmes ont pour titres « Parallèles en quête d’horizon »et « suites infinies ». 11- Voir : site de L’Harmattan, auto-présentation de Patrick Berta Forgas. 12- Hegel (G.w.F), Phénoménologie de l’esprit, XI p.7. 13- Rousseau(J.J), Émile ; Éducation, Morale, Botanique, Bibliothèque de la Pléiade, Volume 4, Paris 1990 p. 151. 14- Laërce (Diogène), Traduction de Robert Genaille, Vie, doctrines et sentences des philosophes illustres, trad. Robert Genaille, Garnier-Flammarion, 1965 T.2 p.94. 15- Schopenhauer( Arthur ),Le monde comme volonté et comme Représentation, traduction d’Auguste Burdeau en1885, révisée par Richard Roos et publiée aux PUF,Paris 1966 livre 4 p.56. 16- Idem., p.57. 17- Freud (Sigmund), Malaise dans la civilisation, Paris, PUF, 1971 مصطلحات : *مقصورة ( Compartiment) *استعادة(Rétrospection ) *استبطان ( Introspection ) *استباق( Prospection ) 2015-06-27 admin شاركها ! tweet