العيشُ في جهنّمَ: قصة قصيرة: زاهر العجلاني- اليونان 7 فبراير,2021 (1) في كونٍ عشوائيٍ، وفي عالمٍ تحكمه طبيعةٌ لا تعيرُ انتباهاً لوجودنا، كل هواجسنا وأحلامنا ما هي إلا ضوضاء بيضاء بلا معنى. اليأس لا يُثمرُ إلّا الشجاعة، وهل هنالك عملٌ أكثرُ شجاعة من الثورةِ على سُنّةِ الكون؟ من الثورةِ على العدمِ و اللامعنى؟ فلو اخترنا بطيشِ وإقدامِ أبطالِ الأساطير، أن نموت موتةَ رجلٍ واحدٍ، هل سيبكي القدرُ على فراقنا؟ هل ستموت مأساتنا معنا ؟ فيا من أدرك معنى الوجود، اصْرخْ بأعلى صوتك واشهدْ أننا أوهامٌ جوفاءْ، وقُلْ للأطفالِ في أرحامِ النساء أن البشر ما هم إلا صدى الصمتِ في كونٍ ليس له لا هدف ولا غاية. لا تَسْتَغرِبْ يا قارئَ كلماتي من تشاؤمي، لا تستغرب من حقدي، ولا من نكدي. فأنا أكتب بحبرٍ أصفرَ، وقلبي ينبِضُ دماً أصفرَ. كيف لا؟ فالأحداث التي ستقرأها بين سطوري تحكي لك عن رحلةٍ إلى جهنم! “وما هي جهنم؟ وكيف يذهب الأحياءُ إليها” قد تسأل؟ جهنم هي الوجود، ولا يذهبُ إليها إلّا الأحياء، فما من ميتٍ قد رآها. جهنم هي أن تُولد دون أن تُسأل، وأن تُعطى ديناً دون أن تُسأل، وأن تُسَمّى دون أن تُسأل، وأن تموت دونَ أن تُسأل، وأن تشاهد من أحببت يموتون أمامك دونَ أن تُسأل، وتُسَلِّمَ بأن هذه هي سُنَّةُ الكون. وأن تُتَمتِمَ كالأبله مع من يُعَزونك: “الدنيا فاضية، ما فيها شي.” حينما توفي أبي، وقفت أمام جثمانه في المشرَحَةِ وبكيتُ، وبكيتُ، وبكيتْ. كلُّ ذاك الحزن لم يحرك فيه شيئاً. نظرتُ إلى أعالي السماء، ورَجَوتُ ربّاً لم أؤمن يوماً به أن يعيدُهُ إلى الحياة. وددتُّ على الأقل أن أسمعَ صوتاً ليس من وحي أوهامي يهمس لي قائلاً: “لا تحزنْ، فروحه في مكانٍ أفضل.” لكن غير صوت نحيبي لم أسمع. قَبَّلْتُ يديهُ، وقَبَّلْتُ قدميه، وغيرَ جسده البارد لم ألقَ. في تلك اللحظةِ أدركتُ أنَّ الموتَ يحيلُ المرءَ إلى آلهةٍ. فحين نرى الموتى قبل دفنهم، نراهمُ في ساعاتِ موتهم الأولى، قبل أن تضربهم يَدُ الطبيعة وتحول معالمَ وجوههم التي أحببنا إلى بقايا أشلاءٍ بلا معنى. في تلك الساعات، نرى فيهم رباطة جأشٍ وتماسُكاً لا يليقُ إلّا بمن هم أعظم من الأحياء. فالدموع التي تدمي مُقَلَ الأحياء ما هي إلا ضجيجٌ أرعنٌ لا يزيدُ الموتى إلّا هدوءاً وثقةً بأن الفناء نعيمٌ والوجود لعنةٌ. ما من امرئٍ يولدُ في هذا العالم إلّا وتَطأُ قدمهُ الجحيمَ دونَ ذنبٍ. وبعدَ كُلِّ هذا، تسمعُ جاهلاً يقول أنَّه لا يمكنُ للحي أن يرى جهنم. (2) بعدَ وفاةِ والدي بشكلٍ مفاجئٍ، سافرتُ إلى أثينا طالباً شيئاً من العزلةِ والراحة، مُلَبِيّاً بذلكَ دعوةَ صديقتي جورجيا. جورجيا كانت امرأةً عزباءً، متوسطة الجمال، وفي بدايةِ عَقدها الرّابع. على الرغمِ من أنَّ صداقتنا لم تكن مُكتمِلةَ الحميمية بحكمِ أنها كانت قد نشَأت عن علاقةِ عمل سابقة، إلا أنني كنتُ دائماً أشعر بالراحة معها. بالرغم من فارق العُمرِ الكبير بيننا، كانت جورجيا معجبةً بي، ولم تخفِ يوماً هذا الإعجاب. أمّا أنا فمشاعري نحوها كانت متضارِبةً قليلاً، فلقد كنت معجباً بها، لكِنَّ فارِق العُمرِ بيننا كانَ يجعلني مُتَرَدِّداً بأن أُفكَّرَ بها كأكثرِ من صديقة. لعلّهُ أمرٌ غريبٌ أن أتركَ مدينتي ووالدتي وأخوتي في ظروفٍ كتلكَ التي كُنتُ أمرُّ بها، وأذهب إلى مدينةٍ أُخرى بحثاً عن شيءٍ من الوحدة. ولعلّهُ أمرٌ غير منطقي أن أفضِّلَ طلَبَ المواساة من صديقةٍ على أن أطلبها من إخوتي ووالدتي الذينَ عرفوا والدي جيداً كما عرفتُهُ أنا، وعاشوا عمراً معه مليئاً بالذكريات. لكن مشاعر الحُزن لا تعترف بسلطةِ العقل، والألمُ لا يقيمُ اعتباراً للمنطق. فأحياناً، حين تكسرنا الحياة، نلهثُ خلفَ شيءٍ من سرابٍ نسميه السلوان، وبيأسٍ يُدمي القلوب ننقبُ في أحاديث عابرة مع أُناسٍ قد لا يجمعنا معهم الكثير عن فكرة أو كلمة صغيرة قد تساعِدنا على أن نكملِ المشوار ونستمرَّ بالحياة. لذلك لم أتردد أبداً حينما عَرَضت عليَّ جورجيا أن تستقبلني في بيتها الواقع على أحدِ شواطئِ أثينا لكي أرتاحَ قليلاً. فورِ انتهاء مراسيم الجنازةِ والعزاء، حَزَمتُ أمتعتي وسافرتُ. عند خروجي من بوابةِ الوصول، استقبلتني جورجيا بابتسامةٍ طيبةٍ. حين مددتُ يدي لأصافحها، جذبتني نحوها وعانقتني، وربتت على كتفي. “العمر لك،” قالتْ لي. “لقد مررتُ بنفس التجربة. إنّهُ لجرحٌ صعبٌ ولا يزول. لكن السنين كفيلةٌ به.” ابتسمت لها، ملتزماً الصمت. “على كلِّ حالٍ، دعنا نذهب إلى السيّارة، البيت ليسَ بعيداً، وأنا على ثقةٍ أنك ستحبّهُ.” بدأت تحدثني حالما بدأنا نمشي. “المهم صحبتك، أمّا البيت فهو أمرٌ ثانوي.” “شكراً، أرى أنَّ الحُزنَ لم يؤثر على كلامك الجميل.” “ماذا أقول لك يا جورجيا؟ الحياة يجب أن تستمر و—” قاطعتني قائلةً: “كنت سعيدةً جِدّاً عندما أعلمتني بأنك قادمٌ إلى أثينا، لكنني الآن سعيدةٌ أكثر ليس فقط لأنك هنا، بل لأني أشعر بأنك تتعامل مع مصيبة وفاة والدك المفاجئة بحكمةٍ وصلابةٍ. حينما توفي والدي، أُصِبْتُ باكتئاب شديد واضطررت لاستعمال مضادات الاكتئاب، على الرغم أنّه توفي بالسرطان، وكنت متوقعةً موتهُ في أيِّ لحظةٍ. أما أنت، فإنَّكَ على ما يبدو أكثرُ صلابةً مني.” “أنا لا أسميها صلابةً.” “ماذا تسميها إذاً؟” “حكمة،” أجبتها مازحاً. “شكراً يا مُهذَّب. أتنقصني الحكمة؟” ضَحِكَتْ. “لم أعنِ هذا أبداً… أتريدين الحقيقة؟” “أجل.” “إنها ليست صلابةً، إنها نوعٌ من الزهد.” “الزهد! لم أسمعك يوماً تتحدّثُ بنبرةٍ دينية! أليس الزهدُ للرهبان؟” “أنا أعني الزهد بمعنى علماني. هل سمعتي بسينيكا؟” سألتها عند وصولنا إلى السيّارة. فَتَحَتْ صندوق السيّارة. “ضعْ حقيبتك هنا،” طَلَبَتْ بلطفٍ، ثمَّ أكْمَلَتْ: “أعرف أنه فيلسوفٌ روماني.” وَضَعْتُ الحقيبة وأغلقْتُ الصندوق. صعدنا إلى السيّارة، وهمّتْ جورجيا تقودنا نحو وجهتنا. “لمْ تُكمل لي، ما به صديقك سينيكا؟” سألتني. “لا شيء، هو بخير، ويهديكِ تحياتِه.” ضحكتْ. “هل ستُكملْ أم لا؟” “حسناً يا سيدتي، سينيكا كان أحد رواد الفلسفة الرواقية. هدف فلاسِفةِ هذه المَدْرسة هو تَقَبُّل الحياة بقباحتها كما هي، فهذا القبول هو بداية الطريق لراحةِ البال والطمأنينة. في نظرهم، الاستعداد للأسوأ، وتقبُّلُهُ، والاستعداد للانتحار كمخرجٍ أخيرٍ من بؤسِ العيش هي الأمور التي يجبُ على المرء أن يضعها نصبَ عينيهِ ليحصلَ على السعادة—” “وماذا عن سينيكا؟” سألتني مقاطعةً. “سينيكا كان معلم الامبراطور الروماني نيرو الذي كانَ مُدمِناً للشرِّ والانحلالِ الأخلاقي. في ليلةٍ من الليالي طَلَب نيرو من سينيكا أن ينتحِرَ أمامَ زوجتهِ وأولادهِ ليُسَليَه، وهدّدَهُ أنّهُ في حال لم يفعل هذا فسيشاهِدُ زوجتهُ وأولادهُ يقتلُونَ، ثمَّ يُقتَلْ.” “يالَ الوحشيّة!” “حينَ همَّ سينيكا بقطعِ شرايين معصميهِ نزولاً عند رغبةِ نيرو. بدأت زوجتهُ باولينا تبكي وتنحَبْ. فنظَرَ إليها سينيكا وقال لها: ما الحاجة للبكاءِ بسبب أجزاءٍ من الحياة؟ الحياة بأكملها مَدعاةٌ للدموع.” “جميلٌ جداً. فيه الكثيرُ من العمق.” أطرقَتْ قليلاً. “ألا تعتقِدُ أنَّ هذه النظرةَ للحياةِ تحمِلُ الكثير من التشاؤم؟ الحياةُ فيها الكثيرُ لنعيشَ من أجله. علاوةً على هذا، لكي يكون الموتُ مخرجاً، فهذا يعني أنّكَ تفترضُ عدم وجود أيَّ شيٍّ بعد الموت، وهذه فكرةٌ متشائمة—” “أين التشاؤم فيها؟” قاطعتُها. “أن لا يكون لروحِ المرء أي قيمة، أي أن يتحوّلَ المرءُ إلى عَدَمٍ، كما لو أنّهُ دونَ روحٍ أو جوهر.” “ولماذا تعتبرين العدم أمراً سيئاً يجبُ أن نخشاه؟” قلتُ مبتسماً. “لأنه يأخذُ من قيمةِ الإنسان.” “وما قيمةُ الإنسان في هذه الحياة؟” “روحه بالطبع.” “روحهُ!” أجبتها ساخراً. “وما نفع الروح إن كان الإنسان محكوماً من قبل الطبيعةِ التي لا تكترثُ به ولا بوجوده؟ ما نفعُ الروح إن كان الإنسان ضحيّةُ المرضِ والفقر والتعاسةِ والجهل وشرِّ أخيهِ الإنسان؟” “هل بإمكاني أن أسألكَ سؤالاً دونَ أن تفهمني غلط؟” “طبعاً.” “هل تُفَضِّلُ أن تكونَ روح أبيك موجودةً بيننا أم أن يكونَ جسده ووعيهُ قد أصبحا عدماً بعد وفاته؟” “أفضِّلُ العَدَم لأني أحبّ والدي كثيراً، وسأفضِّلُ العَدَمَ لنفسي أيضاً.” “هل أنتَ جادٌّ؟” نظرَتْ إليَّ باستغرابٍ. “أولاً، رجاءً انظري أمامكِ وركِّزي على الطّريق.” أجبتها مازِحاً. “ثانياً، العَدَمُ الذي يأتي بهِ الموتُ هو أفضَلُ شيءٍ قد يَحدُثُ للإنسان.” “وكيفَ هذا؟” “الموتى لا يشعرونَ بالحزنِ ولا باليأسِ، ولا يخافونَ شيئاً، ولا يجوعون، ولا يعطشون، ولا يحنون إلى الأحياءِ، ولا يبكون على الأموات، ولا يناضلون كلَّ يومٍ ليحصلوا على عيشٍ كريمٍ. أما الأحياء فهم ملعونون، وعليهم أن يتحملوا مرارةَ الوجود.” “وماذا عن الأشياء الجميلةِ في هذه الحياة؟ لقد ذكَرتَ الحُزنَ ولم تَذكر الفرح. ذكرتَ اليأس ولم تذكر الأمل..” قاطعتها: “كل الأشياءِ التي ذَكَرْتِهَا هي عابرة. فالفرحُ هو مجرّدُ شعورٍ عابرٍ، أما الحزنُ فهو جوهَرُ الوجود.” “أتعْلَمُ شيئاً؟” “ماذا؟” “الأفضل لي ألا أُناقِشُكَ،” ضَحِكَتْ. “لا تزعل مني، لكنني أُريدُ أن أُؤمنَ بأنَّ هنالِكَ مكانٌ جميلٌ تذهب إليهِ روح المرءِ بعد فَنَاء جسَدهِ. لربما يَكُونُ هذا المكان في أعالي السماء، حيثُ يُمْكِنُ لهم أن يرونا ويطمئنون علينا.” أطْرَقَتْ قليلاً. “أريدُ أن تكونَ روحُ والدي معي. هل تفهمني؟” “أفهمكِ جيداً،” صَمَتُّ لبُرهةٍ لاستجمع أفكاري. “لا تفهميني بشكلٍ خاطِئٍ، أنا أُريدُ لوالدي أن يرتاح، أن يكونَ حُرّاً بشكلٍ حقيقيٍّ من هذا العالم البارد، أتفهمينني؟” “أجل،” ابتسمتْ. “انظر ها هو البَحرُ،” قالتْ لتُغَيِّرَ الموضوع. “أجل أراه، كم هو جميل!” عمَّ الصمتُ للحظاتٍ. “بماذا تُفكِّر؟” سألت جورجيا. “أُفكِّرُ بالبحر.” “ماذا عنهُ؟” “أُفَكِّرُ بجمالِ البحرِ وعظمتهِ. هذه الأمواج تأتي واحِدةً تلو الأُخرى وتتكسّرُ على الشاطِئ كما لو أنَّها تُضَحّي بنفسها من أجلِ خَلْقِ مشهدٍ جميلٍ. كيف يمكنُ لأشياءٍ لا تملِكُ قَلباً كالشمس والماء والرمال والصخور أن تَخْلُقَ منظراً بارعَ الجمالِ يُحرّكُ فينا مشاعِرَ قليلاً ما تتحرك؟” اكتَفَتْ جورجيا بابتسامةٍ جميلةٍ دون أن تُجيبني. “جورجيا،” ناديتها. “عيونها،” ابتسمتْ. “هل يا ترى سيكون البَحرُ جميلاً إن لم يَكُنْ هناكَ بَشَرٌ ينظرونَ إليه؟” “أظُنُّ أنهُ سيكونُ جميلاً دائماً.” خيّمَ الصّمتُ مرةً أُخرى. حَدَّقتُ بالبحرِ، وشعرتُ أنّ البحرَ يُحَدّقُ بي باستغرابٍ. للمرةِ الأولى منذ وفاة والدي، شَعَرتُ بالطمأنينة. كم هو مثيرٌ للشفقةِ حالُ الإنسان، حتى الطمأنينةُ تصبِحُ شيئاً غريباً بالنسبةِ له حالما يفهمُ معنى الوجود. كم هو عجيب؟ كم هو مُحزن؟ كم هو قاسٍ؟ كم هو مُبهمٌ؟ كم هو عَصيٌّ على الفهم حالُ الإنسان؟ (3) “كيفَ كانت ليلتُكَ؟” سألتني جورجيا في اليومِ التّالي عندما كنا نحتسي قهوةَ الصباح في شرفة الطابِقِ العلوي. “كانت ليلةً جميلةً.” “جميلةٌ كوجهِكْ،” جاملتني. “شكراً،” ابتسمتُ. “أعني أنّها كانت ليلةً هادئةً. استطعتُ أن أغطَّ بنومٍ عميقٍ لأول مرةٍ منذُ أسابيع.” “أنا سعيدةٌ بسماعِ هذا.” “أتعرفينَ شيئاً؟” “ماذا؟” “هنالك خطٌّ رفيعٌ بين العقل والجنون.” “وماذا خطرَ لك الآن لتقولَ هذا؟” “عندما توفي والدي، نالَتْ الكآبةُ مني بشكلٍ كبيرٍ، فوقعتُ فريسةً لاضطراب النومِ والقلق. لم أستطع النومَ لعدَّةِ أيامٍ متتاليةٍ، وشعرتُ بأنني على حافةِ الجنون.” “وكيف تغلبتَ على هذا؟” “هذه مشكلةٌ حلها بسيطٌ جداً—” “بسيط؟” “لربما استعملتُ الكلمةَ الخَطَأ،” ابتسمتُ. “أكمل.” هزّتْ رأسها. “أعني أنَّ الحلَّ صغيرٌ جِدّاً: حبّة زانكس، وحبةُ ميلاتونين. ولعشاقِ المغامرة، بعضُ الكحول أيضاً.”ابتسمتُ بسخريةٍ. “هل أنتَ مجنون؟ يمكِنُ أن تموتَ من خلط الزانكس مع الكحول. هل تُريدُ الانتحار؟” “لا. ولكن في حالتي النفسيّةِ تلك، وبسبب رغبتي المستميتة لأنام، كنتُ قد وصلتُ إلى درجةٍ غيرِ مسبوقةٍ من اللامبالاة التي تشبِهُ الجنون.” “ماذا عن من يحبونك من عائلتكَ وأصدقائك؟” “ماذا عَنهم؟” “ألم تُفَكِّر بهم؟” “في تلك المرحلة، كلا.” “ماذا عَنّي؟” “ماذا عنكِ؟” “لا شيء.” صَمَتَتْ قليلاً. “أعني—” “أعرِفُ ماذا تعنين. ولماذا تعتقدين أنني اخترتُ أن أكون معكِ دوناً عن أيِّ شخصٍ آخر في هذه الفترةِ الحساسة من حياتي؟ هنالكَ أيضاً مشاعرٌ تجاهكِ من قِبَلي، لكنني لستُ في حالةٍ نفسيّةٍ جيدةٍ الآن لكي أتعامَلَ مع مشاعرٍ كهذه.” خيّمَ الصّمتُ قليلاً. “ما بِكِ لا؟ لماذا صَمَتِّ؟” سألتها. “لا شيء.” “حسناً، كما تُريدين.” أطرَقَتْ قليلاً ثُمَّ قالتْ: “هل أعجَبَكَ المنزل؟” “ما هذا السؤال؟” ضَحِكْتُ. “طبعاً أعجبني، كلُّ شيءٍ فيه جميل. من لا يعجبه منزلٌ ينامُ بسلامٍ بين ذراعيِّ جبلٍ أخضرٍ، ويَضَعُ رأسهُ على مَخَدّةٍ من مياهِ البحر؟” “ما هذه الشاعرية؟ ظننت أنّكَ تَصِفُ قطعةً من الجنّة.” “كلا، انتظري قليلاً. لم أُكمِلْ بعد—” “أكمِل يا سيدي.” “كلُّ شيءٍ في المنزلِ جميل، ما عدا ذلك الصدع الصغير في حائط غرفة نومي، مقابلِ السرير.” “سامحني، تباً لي من صديقة؟ كيف أضعُكَ في غرفةٍ فيها شقٌ صغير؟” قالتْ، والضحكةُ على وجهها. ابتسمتُ، “سَامَحْتُكِ، لكن لا تعيديها!” ضحكنا سويةً. “أتعرِفُ أنَّ هذا الصَدَعَ اللعين لا يذهبُ بالطِلاء.” “لماذا؟” “كما ترى غُرَفة النوم تلك تقعُ في الطابِقِ السُفلي من المنزل، وجدرانها تقعُ تماماً بين الجرفين المحيطينِ بالمنزل. على ما يَبدو هُنالكَ شيءٌ من الرطوبة التي تجعلُ هذا الصَدَعَ عصيّاً على المعالجة.” “إنّهُ صَدَعٌ صغيرٌ على أيِّ حالٍ، لا أعتقد أنَّ انهياراً سيحدُثُ بسببه.” “طبعاً لن يحدُثَ أي شيءٍ بسببه.” تَبَسَّمَتْ. “لكنني شعرتُ أنّكَ معجبٌ به كثيراً، فقررتُ أن أروي لكَ تاريخهُ.” “شكراً لكِ على هذه المحاضرة الممتعة،” قُلتُ مازِحاً. “على كُلِّ حال سأتركك الآن واذهب لقضاء بعض الحاجات. هل تُريدُ شيئاً؟” نهَضَتْ مستعدة للذهاب. “كلّا. شُكراً جزيلاً لكِ.” “ماذا ستفعلُ الآن؟” “أريدُ أن أقرأَ قليلاً. سأذهب لغرفتي—” “لتطمَئِنَّ على الشَقْ؟” ضَحِكَتْ. “تماماً، سأحدق به لساعات لأُمتِّعَ نفسي.” نَهَضّتُ أيضاً، عانَقتُ جورجيا وقَبَّلتُها على خَدِّها، ومن ثمَّ ذهبَ كُلٌّ منا إلى وجهته. ارتميتُ على السرير فورَ وصولي إلى الغُرفة في الطابِقِ السفلي، ومَدَدّتُ يدي إلى المنضدة الصغيرةِ بجانِبِ السرير، وأخذتُ الكتاب الذي كُنتُ قد بدأتُ قراءته في الليلة السّابقة. لم تَكُن تِلكَ المرةَ الأولى التي كنتُ اقرأ فيها الأعمال القصصية الكاملة لتشخوف، فكمحبٍ للأدبِ الروسي كانت قصصه القصيرة أوّلُ ما قرأتهُ كيافعٍ. بيدَ أنَّ محبتي لقصص الرُعبِ والإثارةِ النفسية دفعتي لأبتعد عن كُتّابِ الواقع لعِدّةِ سنوات، وأُصبح قارئاً نَهِماً لقصصِ لافكرافت وإدغار آلان بو. لكن مع مرورِ السنين وكثرةِ القراءةِ، ازددتُ حِكمةً، وكلما ازدادت حِكمةُ المرءِ، زادَت قناعتهُ أنَّ الرُعبَ الحقيقي لا يَكمُنُ في الأحداث التي هي ما وراء الطبيعة، ولا يأتي من حدوث ما هو مستحيل، بل هو وليد الأمور الطبيعية التي تَحدثُ يومياً. الرُعبُ، كلُّ الرعبِ، مُطلقُ الرعبِ هو أننا نستيقظُ في كلَّ صباحٍ لنلهثَ وراءَ لقمةٍ عيشٍ، ونخسر شبابنا ونحن نقوم بأعمالٍ مملةٍ من أجلِ أن نحصَلَ على شيءٍ من المالِ لنشتري أشياءً تعطينا سعادةً مؤقتةً. الرُّعبُ، كلُّ الرعبِ، هو أننا جميعاً نولدُ أيتاماً في عالمٍ شديد العِداءِ لنا، وأننا المخلوقاتُ الوحيدةُ التي تستطيعُ أن تُدرِكَ أنَّ حياتها بِكُلِّ أحزانها وخيبات أملها لا تعني شيئاً في هذا الكونِ المترامي الأطراف. الرُعبُ الأكبر، يا سادة، هو أننا، منذ نعومةِ أظافِرنا وحتى نوارى الثرى، نسألُ “لماذا؟” دون أن يكونَ لسؤالنا جوابٌ شافي. هذا الرُعبُ الذي نراه كلَّ يومٍ حولنا، وتحديداً في ما نعتبرهُ “طبيعياً،” هو ما دفعني لأعودَ لأحضان تشخوف مجدداً، وأقرأُ أعمالهُ مرةً تِلو الأُخرى وأدركَ أكثرَ فأكثر أن حياتنا مجردُ رحلةٍ عبثيةٍ. نظرتُ إلى ذاك الصَدَعِ الصغيرِ على الحائِط؛ كلما حدَّقتُ به، شَعَرتُ بشيءٍ من الغيظِ. نهضّتُ واتّجهتُ نحوه، واضعاً سبابتي عليه، تحسستُهُ قليلاً، ثمَّ شعرتُ بغضبٍ عارمٍ يغلي كالنارِ في داخلي. شيءٌ من الإحباطِ تملكني، وبَدَأتُ أفكِّرُ: أليسَ هذا الصَدَعُ شبيهاً بوجودنا؟ فالكونُ كالحائطُ الأبيضُ، بالنِسبةِ للصَدَعِ، كبيرٌ ومترامي الأطراف، والصَدَعُ صغيرٌ وتافِهٌ، لكنّه عيبٌ يدفعُ النّاظِرَ إلى التركيزِ عليهِ فورَ إدراكِ وجودهِ. هكذا هو حالنا، فورَ إدراكنا لوجودنا كأطفالٍ، نبدأُ باعتبار آلامنا وأفراحنا وأمانينا وحياتنا محورِ الدنيا، لكنَّ وجودنا بحدِّ ذاته ليسَ سوى عيبٌ تافهٌ لا قيمةٌ له ولا معنى بالنسبةِ لهذا العالم. فما نحنُ إلّا ذرةُ غبارٍ في هذا الكونِ الشاسعِ الذي لا قلبَ له. عُدّتُ مرة أخرى إلى السرير، ورميتُ بجسدي على الفراش. لدقائقٍ، كانت في عقلي فكرةٌ واحدةٌ: “لماذا؟ لماذا هذا الصَدَعُ موجودٌ على الحائط؟ ما سببهُ؟ أيُعقَلُ أنَّهُ ليسَ هناكَ وسيلةٌ لطمسه؟ لماذا هو عصيٌّ هكذا؟ لماذا؟” أليسَ من المضحكِ أنَّنا كأطفالٍ نسألُ “لماذا؟” والابتسامةُ المليئةُ بالحَماسِ تعلو وجوهنا، وحينَ نَكبرُ ونزدادُ حكمةً نسأل نفسَ السؤالِ بعيونٍ تدميها العبرات؟ سألتُ نفسي قبلَ أن أغُطَّ بنومٍ عميق، واستقبلَ كابوساً كان نَذيرَ شؤم: حَلِمتُ بأنني في نفس الغرفة أغطُّ في نومٍ عميقٍ لا يشبهُ شيئاً إلّا الموتْ، لكنني بُعثتُ إلى الحياةِ من جديدٍ عندما حدثني صوتٌ قادمٌ من ذاكَ الصدعِ في الحائط. “أرجوكَ، أرجوك، اقترب قليلاً،” قالَ لي الصوت. تملكني الذعرُ. “ما بك؟ لماذا أنتَ خائفٌ؟ أرجوك، ساعدني. إنّي بحاجةٍ لك، أرجوك.” تسمّرتُ في مكاني، محملقاً في الشقِّ، دونَ أن أنبُسَ ببنتِ شفة. “أرجوكَ ساعدني،” ألحَّ الصوتُ بنبرةٍ طفوليّة. استجمعت كُلَّ شجاعتي، وتقدّمتُ نحوهُ بخطواتٍ مترددة. “من أنت؟ كيف لك أن تتكلم؟” سألتُ بصوتٍ يملؤهُ الخوف. “عليكَ أن تُساعدني. عليكَ أن تُخلصني من مأساتي. لا أحدَ يستطيعُ أن يُخلصني إلّا أنت، أنت مَسِيحِيَ المُخلِّص.” “لا بُدَّ أنني فقدّتُ عقلي، لا بُدَّ أنني جُننتُ. كيفَ لصدعٍ في الحائِطِ أن يتكلَّم؟ ما هذا الصوتُ إلا حيلةٌ قذرةٌ من صُنعِ مخيلتي،” قلتُ، آخِذاً عدّةَ خطواتٍ إلى الوراء. “لا، أرجوك، لا تَقُل هذا. عليكَ أن تُحررني من هذا الحائط، عليك أن تُعيدَ لي حُريتي.” “لا بُدَّ أنني جُننتْ،” صرختُ. دقاتُ قلبي تسارَعَتْ، وبدأتُ أسمعُ نبضي يملأ أنحاءَ الغُرفة. أخذَ صوتُ نبضي يعلو أكثر فأكثر، الشقوقُ بدأت تملأُ أنحاء المكان. أصبَحَ المشهدُ حولي عامراً بالدمار. استيقظتُ حينها من ذاك الكابوس اللعين غارقاً في عَرَقي. “هل أنتَ بخير؟” طَرَقَتْ جورجيا على الباب. “هل أستطيعُ الدخول؟” “تفضّلي،” أجبتُها، ماسحاً جبهتي بظهرِ يدي. وقفت بجانبِ سريري. “ما بك؟ هل أنت بخير؟ سمعتكَ تهلوسِ في نومِك؟” نَظَرتُ حولي، دون أن أجيبها، فوقعت عيني على كتاب تشخوف الذي كان مُلقىً بجانبي على السرير. “ما بك؟ هل أكلَ القِطُّ لسانك؟” “تشخوف—” “هه؟ ماذا؟ ما به تشخوف؟” قاطعتني. “لا شيء، كنت أودُّ أن أبدأَ بقراءةِ أعماله الكاملة مرةً أُخرى، لكنَّ النُعاسَ تمكني مني قبل أن أبدأ.” “أنتَ هُنا لترتاح؟ لا تجهِد نفسك بالقراءة.” لم أجبها. “بدأتُ أقلقُ عليك. ما بكَ تبدو مشوشاً جَدَّاً؟” نظرتُ حولي مرةً أُخرى، ووقعت عيني على الصَدَعِ هذه المرّة. “ما بِكَ؟ تكَلّم، أرجوك؟” “جورجيا،” أَطْرَقْتُ قليلاً. “عيونها، قُلْ أيَّ شيءٍ تريده.” جَلَسَتْ بجانبي على السرير، ومَسَكَتْ يدي، بابتسامة طيبة تعلو وجهها. “أشعرُ بالخوفِ، والوحدة.” “أنا آسفةٌ لأنني تَرَكتُكَ وحيداً. كان يجبُ عليَّ أن أبقى بجانِبِكْ.” “لا، لم أعنِ هذا.” “ماذا إذاً؟” استفسرتْ جورجيا. “أشعرُ بوحدةٍ لا يُمكن لمخلوقٍ أن يَكسرها. أشعُرُ بأنَّ العالمَ حولي—” صَمَتُّ فجأةً. “ما بك؟ أكْمِلْ.” “لا أعرف، لا أعرف ماذا أقول. للأسف هُنالِكَ شعورٌ باليأسِ يصعُبُ على المرءِ أن يُعَبِّرَ عنه.” أطرقتُ قليلاً، ثمَّ أكملتُ: “حينما كُنتُ صغيراً، كان والدي يُمسكُ بيدي عندما كنا نخرجُ من المنزل. وبقيتُ متعلقاً بهذه العادة حتى بلغتُ عاميَ الثاني عشر. في أحدِ المرّات أخذني والدي إلى عمله، وعندما حانَ موعِدُ عودتنا إلى المنزل، أمسكتُ بيدهِ فورَ خروجنا من المكتب، لكِنَّ والدي نظرَ إليَّ بمحبةٍ شديدةٍ، وقال لي: (حبيبي، أنت صرت شب، ما بيصير ضل أمسكلك أيدك ونحنا ماشيين بالطريق، أنت مشي قدامي، وأنا وراك بالضبط بوجهك متل جهاز التحكم، ما تخاف). أومأتُ برأسي موافقاً على الرغمِ من أنني لم أطق الفكرةَ أبداً.” أطرقتُ قليلاً لاستجمع أفكاري. “أكمِلْ،” طَلَبَتْ جورجيا باهتمامٍ. “المُهِم، فَعَلْتُ ما طَلَبهُ مني، ومشيتُ أمامهُ متجهاً إلى المَنزل. كانت المسافَةُ قصيرةً جداً؛ خمسُ دقائقٍ فقط. لكنني شَعرتُ بأنّها كانت دَهْرَاً. أحسستُ بشعورٍ فظيعٍ من الضياعِ وعَدَمِ الأمانٍ.” صَمَتُّ لبرهةٍ. “أتعرفين ماذا؟” “قُلْ لي.” “منذ توفي والدي وأنا أشعرُ بنفسِ الشعور.” نظرتْ جورجيا إليَّ ، ودونَ أن تقولَ شيئاً، عانقتني. في بادئِ الأمر، ترددتُ في عناقها، ثمَّ عانقتُها بِغِلٍّ شديدٍ. بعد ثوانٍ، توقفنا عن العناق، لكِنَّ جورجيا ضلت ممسكةً بيدي. اقتربتُ منها أكثر، فاقتربت مني وبدأت تُقبلني. على الرَغمِ من جميع المشاعر المتضاربة التي كانت تتصارعُ في صَدري، كنتُ أكثَرَ من مُستعدٍ للاستسلامِ لجورجيا. جميع الأحاسيس المتراوِحة بين أقصى اليأس وأقصى الأمل أصبَحَت فجأةً شعوراً واحداً في داخلي، ألا وهو الحُبْ. في سكراتِ العشق تِلكِ الليلة، شَعَرتُ بأنَّ كل قُبلةٍ طبعتها جورجيا على شفتيَّ كانت غاليةً كنجمةٍ أخْطِفُها من السماء. ذاك الشعورُ العارمُ بالشهوةِ والحُب جعلني أشعُرُ أنني أمارس الحُبَّ مع جورجيا على ظهر الغيومِ في سماءٍ شمسُها لا تَعْرِفُ الغُرُوب. فورَ انتهائنا، وعلى غيرِ العادة، لم يَتملكني الإحساسُ بالذنب الذي لطالما كان يعتريني كلما شاركْتُ امرأةً الفِراش. استلقينا على السرير لبُرهةٍ، والابتسامةُ تعلو وجهينا. لم تَكُن تلكَ الابتسامَةُ وليدةَ المُتعة، بل كانت وليدةَ الفرحِ والأمل، الفرح بأننا وأخيراً وجدنا بعضَنا، والأمل بأنَّ الغَدَ سيكونُ أفضل. “لم أتوقع أنَّني سأنامُ في جهنم، وأصحو في الجَنّة.” ضَحِكَتْ بخجلٍ. “جورجيا،” ناديتها. “عيونها،” أجابَتْ. “أُحِبُّكِ.” “وأنا أُحِبُّكَ.” “يالي من محظوظٍ بأن تُحبني امرأةٌ مِثلُكِ.” ضحِكتْ. “وأنا محظوظةٌ أيضاً. فلَمْ أتوقع يوماً أنّكَ تُفَكِّرُ بي بطريقةٍ عاطفية.” “هنالِكَ أشياءٌ كثيرةٌ، تَحدُثُ بسرعةٍ وتُغَيِّرُ حياتنا، وشعوري تجاهَكِ هكذا.” “ماذا تعني؟” “حينما فَضَّلتُ أن آتي إليكِ وأقضي هذه المرحلةَ العصيبةَ من حياتي معك، لم أكن أعرف لماذا. لكنني الآنَ أعرف.” “لماذا؟” “لأنني كُنتُ أُحِبُّكِ دونَ أن أدري.” “والآن؟” “يا لكِ من مُحتالةٍ.” ضَحِكتْ “أُحِبُّكِ، وأعرِفُ أنني أُحِبُكِ.” “وأنا أُحِبُّكَ كثيراً، ومتأكدةٌ من مشاعري. لكنني أخافُ شيئاً واحداً.” “ما هو؟” “إنَّكَ في حالةٍ نفسيّةٍ قد تجعلُكَ تَخلِطُ بين الحُبِّ الحقيقي والحاجَةِ لأن تشعُرَ بالحُبْ.” “لا تخافي، أنا متأكدٌ من مشاعري، كما أنتِ مُتأكِدةٌ منها.” “وكيفَ هذا؟” “سأجيبكِ. هل تحتاجُ الطيورُ لأسبابٍ لتتأكَدَ أنَّ السماءَ موطنها؟ وهل تحتاجُ الشمسُ لأسبابٍ لتَشْرُقَ كلَّ يوم؟ هكذا هو الحبُّ يا جورجيا، لا يحتاجُ لمبرراتٍ ولا لأسبابٍ.” قالتْ وعيناها تَشُعّانِ سعادةً: “هذه المرةُ الأولى التي تتفَلسفُ فيها دونَ أن تُحَاوِلَ أن تُقنعني أنَّ الحياةَ بائسةٌ وعبثية.” “من الآنَ فصاعِداً لن أقومَ بهذا بعدَ الآن. سأحاول جاهداً أن أُبقيَ على الأملِحيّاً في داخلي.” نَظَرَتْ إليَّ وفي عينيها مزيجٌ من الأملِ والشّك. عانقتُها، وفي تلك اللحظة، دون أن نبوحَ بأيِّ شيءٍ، أدركنا أنَّ القَدَرَ كان قد ابتسمَ لنا— أو هكذا حَسِبنا. (4) عدّةُ شهورٍ كانت قد مَضَتْ على تِلكَ الليلة. خلالَ تلك الفترة، كنتُ قد طَلَبتُ يدَ جورجيا، وهي بدورها وافقت على الفور. هكذا نَقَلتُ مقرَّ إقامتي إلى أثينا، وسكنت معها في المنزلِ المُطِلِّ على البحر. كانت أيامي جميلةً، فكنت استيقظُ في الصباح الباكِرْ، وأذهب لممارسة رياضة الجري، ثمّ أعود إلى المنزل لاستحمَّ وأبدأ ملاحقة أعمال مكتبي عن طريق الانترنت. لكِنَّ شيئاً واحداً كان يُعَكرُ صفو حياتي حينها: ذاك الكابوسُ الذي كانَ يزورني كلما أغمَضّتُ عينيَ. كان الصوتُ القادمُ من الصَدَعِ في ذاك الكابوس يُحرِّكُ في داخلي شعوراً باليأسِ لا يقدِرُ مخلوقٌ أن يحتملهُ. “عليكَ أن تُساعدني. عليكَ أن تُخلصني من مأساتي. لا أحدَ يستطيعُ أن يُخلصني إلّا أنت، أنت مَسِيحِيَ المُخلِّص،” كانَ الصوتُ يَصرَخُ في رأسي كُلَّما نِمتُ، جاعلاً النُعاسَ مطلباً بعيدَ المَنَالْ. لكنني، في محاولةٍ يائسةٍ لأبقي حياتي هادئةً وطبيعية، كنتُ أتجاهلُ هذا الكابوس وأكبتُ مشاعري، مُقنعاً نفسي بأنَّ الضغطَ النفسي الذي كنتُ قَدْ تَعَرَضّتُ له نتيجةَ إدارة أعمالي عن بعدٍ ومن دولةٍ أُخرى هو الذي كانَ قَدْ نالَ مِنّي. حتى أنني، وبموافقةِ جورجيا التي لم تَكُن لترفُضَ أيًّ من طَلَباتي، حوَّلتُ الغرفة التي يوجَدُ الصَدَعُ فيها إلى مستودع، ووضعتُ خِزانةً كبيرةً مقابِلَ الحائِط لكي أُغَطيَّ الصَدَعْ. ورُغمَ أنَّني عانيتُ من الأَرَقِ والنومِ المُتَقَطِّع، لم أَقُلْ شيئاً لجورجيا. وماذا كان عليَّ أن أقولَ لها؟ “حبيبتي، أنا أخاف من صوتٍ يأتي من الحائِطِ طالباً النجدةَ مني.” بالطَبعِ ما كُنتُ لأقولَ شيئاً يجعلني أبدو مجنوناً وخائِفاً من الخُرافات. بيدَ أنَّ تلك الهدنة بيني وبين الجنون الذي تسلح بذاك الكابوس لم يُكتب لها أن تَدوم. في أحَدِ الأيامِ جاءت إليَّ جورجيا، لتُعلمني بأنَّ صديقةً لها تعيشُ وحدَهَا في سالونيك بحاجةٍ لعمليةٍ جراحيَّةٍ مستعجلة، وأنها يجب أن تذهب إليها لتقف بجانبها حتى تخرجَ من المشفى. “هل ستكون على ما يرام؟ أقسمُ أنني لا أُريدُ أن أتركك لكنني مضطرة. فصديقتي ليس لديها أحد، ولا أستطيعُ العيش مع نفسي إن تَخَلّيتُ عنها في لحظةٍ كهذه،” قالتْ جورجيا، ثمَّ عانقتني وقبلتني. “لا تخافي، سأكونُ على أكثر مما يُرام. بالعكسِ تماماً، أنا فخورٌ بك لأنكِ صديقةٌ جيدة. اذهبي إلى سالونيك، واعتني بصديقتكِ. أنا سأشتاق إليكِ كثيراً، وهذا كلُّ ما في الأمر،” أجبتها. “حبيبي، وأنا ساشتاقُ لك جداً جداً جداً،” عَبَسَتْ بشكلٍ لعوبٍ. عانقتها وقبلتها، “اذهبي الآن، قبل أن أُغَيِّرَ رأيي.” قُلتُ لها. “أُحِبُّكَ،” قالتْ قَبلَ أن تَهُمَّ بالرحيل. كانت تِلكَ الليلة الأولى التي قضيتُها دونَ جورجيا. كالعادَةِ لجأتُ للقراءَةِ لأكسُرَ وحدتي. استللتُ كتاباً من المكتبةِ وبَدأتُ أقرأ. لكن النُعاسَ تَمَكَّنَ مني بعد ساعةٍ أو أقل، فخررتُ صريعَ ذاكَ الكابوس مرةً أخرى. “عليكَ أن تُساعدني. عليكَ أن تُخلصني من مأساتي. لا أحدَ يستطيعُ أن يُخلصني إلّا أنت، أنت مَسِيحِيَ المُخلِّص،” بَدَأَ الصوتُ القادِمُ من الصَّدَعِ يترجاني كعادته، باثّاً الذعر في قلبي وطارداً إياي من عالمِ النعاس. “ما هذا، ألن أنعمَ بنومٍ طبيعيٍّ أبداً؟ ربما عليَّ أن أرى طبيباً نفسيّاً،” تمتمتُ لنفسي فورَ استيقاظي. “عليكَ أن تُساعدني. عليكَ أن تُخلصني من مأساتي. لا أحدَ يستطيعُ أن يُخلصني إلّا أنت، أنت مَسِيحِيَ المُخلِّص،” سمعتُ نفسَ الصَّوت ينادني الآنَ في صحوي. اجتاح الخوفُ كياني، وسَكَنَ قلبي شعورٌ بالشكِّ أنني في طريقي إلى الجنون. “تبّاً، لن أفقد عقلي،” صرختُ. ذهبتُ إلى خزانَةِ الكحولِ، وسكبتُ كأساً من الويسكي، واحتسيتهُ دفعةً واحِدة. أَطْرَقْتُ لبُرهةٍ، لم أسمَعْ ذاك الصوتَ اللعين. لا بُدَّ أنَّ نوميَ المُتَقَطِّع أثّرَ عليِّ وجعلني أفقدُ صوابي قليلاً، وأتخيَّلُ أنني أسمعُ ذاك الصوت، قُلتُ لنفسي. سَكَبتُ كأساً آخراً من الويسكي، واتجهتُ إلى الشُرفةِ كي أُدَخِّن. ما إن أشعلتُ سيجارتي حتى سَمِعتُ الصوت مرةً أخرى: “أرجوكَ ساعدني.” “تبّاً، ما هذا؟ هل فَقَدّتُ عقلي،” استغثتُ. “لا لم تفقِد عقلَك. أرجوك أنا لَستُ بوهمٍ. هيا إلى الغرفة، حررني.” رميتُ السيجارة من الشرفة، وضعت كأس الويسكي على حافّةِ السياج، وأسرعتُ إلى غُرفةِ الجلوس. أمسكتُ بهاتفي، واتصلتُ بجورجيا. لكن حالما انتهيت من طَلَبِ رقمها، سمعت الصوتَ قادماً من هاتفي هذه المرة. “ساعدني، أرجوك، أنا بحاجتِكَ.” “لن أرضخَ لكَ أيُّها الوهمُ اللعين،” أجبتهُ بصوتٍ ملؤهُ الغَضَب. أسرعتُ نحو التلفاز، وأشعلتهُ بجهاز التحكم عن بعد، إلا أنني تفاجأتُ بأنني لم أرَ إلّا صورةَ ذاك الصَّدَعْ. غَيَّرْتُ المحطّات واحدةً تلوَ الأُخرى، بيدَ أنَّ صورة الصَدَعْ لم تتغيَّر. رَمَيتُ جهاز التحَكُّم في حالةٍ من الذُعر. “ألم أقُلْ لك أن تساعدني. أرجوك، لا أَحَدَ غيركُ يستطيعُ أن يحررني، لَقَد انتظرتُ لشهورٍ كي أتحدَّث إليكَ على انفراد،” قالَ لي الصّوت. “تبّاً، اللعنة، إنني أفقدُ عقلي.” بدأتُ أضرب رأسي وأبكي. “على رُسلك، لا تؤذي نفسك. ما أنا بوهمٍ، صدقني. أنا حقيقةٌ مثلك. إن نعتني بالوهمِ، فإنك تَشِكُّ بنفسك.” لم أجبهُ. “أرجوك، ساعدني.” توجّهتُ نحوَ باب المنزل الخارجي، حاولتُ فتحهُ لأهرب، لكِنَّ قوةً ما أوصَدَته، ومنعت عني أي مخرجٍ من محنتي. أسرعتُ باتجاهِ الشُرفة، كان بابها موصداً أيضاً، وعبثاً حاولتُ فتحهُ. نظرتُ حولي، كلُّ النوافذِ كانت قد اختفت. لا مَخرج! لا أَمَل! حينها أدركتُ أنَّ قوةَ ما كانت قد أخذتني أسيراً. على حينِ غرّة، بَدَأَ الصوتُ يَصدَحُ في جميعِ أنحاءِ المنزل: “ساعدني، ساعدني، ساعدني.” في غمرةٍ من اليأسِ، صَرَختُ: “ماذا تُريدْ؟ أيها اللعين ماذا تُريدْ؟” ومن ثُمَّ ركضّتُ إلى الطابق السفلي، إلى الغُرفةِ التي فيها الصَدَع. “هيّا، حررني، أرجوك،” صرخَ الصوت بنبرةٍ فيها مزيجٌ من الخوفِ واليَأسِ. “سأُحرِرُكَ أيها الوهم اللعين، سأُحَرِّرُكَ، وأُحرِّرُ نفسي منك. كلانا سَيَخرجُ من سجنه.” تفحّصتُ محيطي، فوَقعَ ناظري على قَضيبٍ حديديٍّ مرمي في زاويةِ الغرفة. استللته، ثمَّ أبعدّتُ الخِزانة عن الحائط، ورأيتُ الصَّدَعَ للمرةِ الأولى منذُ شهورٍ. نظرتُ إلى الصَدَعِ، وشعرتُ كما لو أنّه ينظرُ إليَّ بتحَدٍّ. “أرجوك، ساعدني،” صاح الصّوت. “سأُساعِدُكَ أيُّها اللعين،” قُلتُ بغَضَبٍ، ثمَّ شَرَعتُ أضربُ مكان الصَّدَعِ بالقضيبِ بِكُلِّ ما أوتيتُ من قوة. ضربتُ، وضربتُ، وضربتُ حتّى انهارَ الحائِطُ أمامي. يال الذُعر! يالَ المصيبة! الويلُ لي! رأيتُ شخصاً يُشبهني كثيراً مقَيَّدَ اليدينِ خلفَ ذاكَ الجِدار. “من أنتَ؟ من أنت؟ من كَبَّلَ يديك؟” تمتمتُ، وأخذتُ عدة خطوات إلى الخَلف. التزَمَ الرجُلُ الصمتَ. “يا للمصيبة؟ عيناك كعيني؟ وجهُكَ كوجهي؟ من أنت؟ أريدُ أن أعرف الآن من أنت؟ أجبني.” نَظَرَ الرَجُلُ إليَّ، وفي عينيهِ شيءٌ من الجنون. “أتُريدُ أن تعرف من أنا،” أطرقَ الصوتُ قليلاً. “أنا الجنون، أنا اليأس، أنا الشيءُ الذي تَدفِنه في أعماقِ نفسكِ كُلِّ ليلةٍ. أنا أكثرُ أفكاركِ سوداوية. أنا الصمتُ الذي يُخيِّمُ حينما تُفَكِّرُ بالموت، أنا شبحُ الإنسانِ الذي يَتَحيَّنُ الفرصَةَ ليكون حُرّاً.” أردتُ أن أجِيبهُ، لكِنَّ شيئاً ما قَيَّدَ لساني. “أُتُريدُ أن تَعرَف من أنا؟” سألني، ودونَ أن ينتَظِرَ جواباً، اتَّجَهَ نحوي، واضعاً كفيه المقيدين على كتفي. خررتُ صريعاً على الأرضِ، بَدَأتُ أرى حياتي تُومِضُ أمامَ عيني، سَيطَرَ عليَّ شعورٌ بالضياع، رويداً رويداً بدأ العالم حولي يتلاشى إلى لا شيء، ومن ثمَّ فقَدّتُ وعيي. (5) عامٌ مضى على تلك الحادثة. البارحة سَمِعتُ صوتَ خطواتِ قادماً نحوَ غرفتي. “كيفَ هو اليوم؟” سمعتُ جورجيا تسألُ الممرِضَةَ بجانِبِ باب الغُرفة. “صحياً هو بحالةٍ جيدة، لكِنَّهُ مازال لا يَتَحَدّثُ أبداً،” أجابتها الممرضة. “ماذا عن الطبيب الجديد؟ ما هو رأيُهُ؟” “لا أعرف ما أقولُ لك يا سيدة جورجيا. رأيُ الطبيبِ الجديد كرأي كُلِّ الأطباءِ الذين عاينوه من قبل. لا يوجَدُ سببٌ جسدي يمنعهُ من الكَلام. على ما يبدو أنَّه يعاني من حالةٍ غيرِ عاديَّةٍ من اضطراب الكرب التّالي للصدمة. لكِنَّ رفضه للكلام يمنعنا من استخدام الطرق العلاجية ذات الحظوظ الواسعة. الآن لا يمكننا إلا الاعتماد على المُهَدئات ومضادات الاكتئاب، فالإلحاح عليه بأن يتكلم قَد يأتي بنتائجَ عكسيّة.” “منذُ ذاكَ الحريقِ اللعين في المَنزِل، وحياتي جحيم.” بَكَت جورجيا. “قد تكونُ صدمَتَهُ ناتجةً عن الرعبِ الذي تَعَرّضَ له حينما حاصرتهُ النار تلكَ الليلة، وأحرقَتْ وجهه.” “لا أعرف، لكِنَّ تقارير قسم الإطفاء وشركةِ التأمين كُلها تُشيرُ أنَّ الحريق نَتَجَ عن رمي عقب سجارةٍ في الحديقة. هذا يعني أنَّ النارَ كانت قد انتشرتْ تدريجياً. لماذا لم يَهرب؟ لماذا اختارَ أن يختبئ في الطَّابقِ السفلي حيثُ وَجَدوه.” صمتت جورجيا لثوانٍ، ثمَّ أكملت بنبرةٍ فيها شيءٌ من الأمل: “هل أستطيعُ أن أراه اليوم؟” “أنا آسفة يا سيدة جورجيا، كالعادةَ، الطبيب مَنَعَ عنه الزيارات، فإنّهُ مازالَ يَدخُلُ في نوبةِ عنفٍ كلما قُلنا له أنَّ أَحَداً جاء ليزوره، ويبدأ بضرب رأسهِ بالحائِطْ.” “حسناً، فقط قولي له أنني جئتُ لأطمئِنَّ عليه،” قالت جورجيا والحُزنُ يَسكنُ صوتها. “قولي له أن ينامَ جيداً، ويرتاح، وأنني أُحِبُّهُ.” سمعتُ صوتَ خطواتها يتلاشى. نَظَرتُ خلفي، كان جدار غرفتي في مصحَّةِ الأمراض العقلية مليئاَ بالصُدُوعِ. كانت الآلاف من الشقوق تسكنُهُ، وكانت الآلاف من الأصوات تناديني، وتسألني أن أُحررها. لكنني لم أكن قادراً على الكلامِ لأقولَ لهم أنني لستُ بمُخلِّصٍ. فجأةً سمعتُ ذاكَ الصوت المشؤوم يقولُ لي: “الزم الصّمتَ أيها اللعين. هكذا هي الحياة، لا يمكنك أن تتكلم بعدَ الآن، فلا يُمكِن أن نكونَ كلانا أحراراً؛ لا يمكن للوهم والحقيقةِ أن يتعايشا.” 2021-02-07 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet