صدى أبي القاسم الشّابيّ في الثّورات العربيّة* : محمّد بوحوش : كاتب وشاعر – توزر- تونس 24 أكتوبر,2020 أبم القاسم الشّابيّ – تمهيد: يوجد إجماع على أنّ الشّاعر أبا القاسم الشّابيّ كان مجدّدا سواء أكان ذلك في شعره أم في موقفه من الشّعر القديم والخيال الشّعريّ العربيّ، أم من الحياة والمسألة الوطنيّة إبّان الاستعمار الفرنسيّ المباشر لتونس. فهو من بين كوكبة الأدباء والفقهاء والسّياسيّين والفنّانين والمفكّرين لعصر اتّسم بالنّهضة والإصلاح والثّورة على القديم ومقاومة الاستعمار. بقي الشّابيّ حيّا في ضمير النّاس، وبقي صداه مشعّا في معظم الدّول العربيّة الّتي عرفت مرحلتي التّحرّر الوطنيّ والاجتماعيّ في النّصف الأوّل والثّاني من القرن العشرين. تحاول هذه المقالة الجواب عن الأسئلة التّالية: لماذا بقي الشّابيّ حيّا في ضمير النّاس؟ وما أسباب إشعاعه وخلوده؟ وكيف ولماذا ظلّ صداه يتردّد في الانتفاضات والثّورات الشّعبيّة العربيّة؟ وكيف يمكن أن يُستثمر ثقافيّا وسياحيّا؟ رحل الصّوت وبقي الصّدى، وخلف الصّدى كانت الكلمة أي كان الشّعر متجسّدا بالأساس في بيت الشّابيّ الشّهير: إذا الشّعب يوما أراد الحياة /فلا بدّ أن يستجيب القدر ولا بدّ للّيل أن ينجلي / ولا بدّ للقيد أن ينكسر. لعلّه من الأهميّة بمكان التّذكير بأنّ الكلمة في حدّ ذاتها بلا مدلول وبلا حياة، وبلا خلود ما لم تعتنقها الجماهير، فتتحوّل إلى قناعة وقوّة ماديّة وفعل ثوريّ أو تغييريّ. هكذا كانت الرّسالات في جميع الأديان. فلو لم يتبنّاها النّاس لأضحت في طيّ النّسيان، ولما ارتقت إلى مرتبة المقدّس إذ لا معنى للمقدّس في حدّ ذاته من دون البشر، ومن دون أن يتجسّد في فعل أو سلوك أو عقيدة أو أسلوب حياة. حينئذ تلجأ الشّعوب في حالات معيّنة كالحالة الثّوريّة أو حالة الهزيمة، أو في شتّى الأزمات أيّا كانت إلى الاستجارة بالكلمة أي بالمقدّس الّذي تبنّته. فصناعة الرّموز والمقدّس هما ابتكار جماهيريّ بامتياز إلى حدّ قد ينحرف فيه المقدّس أو الرّمزيّ فيكون على سبيل الاستعارة والتّرميز من ذلك أيقونة محمّد البوعزيزي الّذي أصبح في العرف الثّوريّ رمزا للثّورة حتّى وإن كان البوعزيزي قد حرق نفسه، وهو ما يخالف العقيدة والمقدّس. كذلك هو الشّأن في مجال السّياسة: فالإرهابيّ عندما يفجّر نفسه له مرجعتيه في الكلمة أي في فهم الكتاب وفي المقدّس حين يصرخ مردّدا: اللّه أكبر. ولا يخفى على أحد من أنّ النّظام السّياسيّ في تونس في العهدين البورقيبيّ والنّوفمبريّ قد استثمر صورة الرّمز الشّعريّ متمثّلا في أبي القاسم الشّابيّ حين أضيفت بعض أبيات قصيدته إرادة الحياة إلى النّشيد الوطنيّ التّونسيّ. كما لا يخفى أيضا على أحد لجوء عديد السّياسيّين إلى توظيف كلمات الشّابيّ في خطاباتهم من قبيل: الشّعب يريد، ولا ننسى كذلك الانتفاضات الّتي شهدتها تونس على مرّ التّاريخ الحديث وصولا إلى ثورة 2011، تلك الّتي تردّد فيها صدى الشّابيّ بكثرة: إذا الشّعب يوما أراد الحياة، أو في صيغة من هذا وفي شعار: الشّعب يريد إسقاط النّظام، تحديدا. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحدّ فجلّ ثورات الرّبيع العربيّ، وجلّ الانتفاضات من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان والسّودان قد تبنّت بشكل أو بآخر كلمات الشّابيّ المتمثّلة في إرادة الحياة. 2- سرّ خلود الشّابيّ: بقيت من الشّابيّ بعض القصائد المتوهّجة الّتي تعدّ على أصابع اليد الواحدة. وبقي وهجه بالخصوص في قصيدته إرادة الحياة. من رحم الواقع أي من واقع التخلّف والاستعمار جاءت هذه القصيدة وكأنّها مبنيّة على مقولة: كيفما تكونوا يولّ عليكم. فإذا كنتم كذا حدث كذا دون تحديد معنى لما سنكون، ولمن سيولّى علينا. كان الشّابيّ فطنا ويقظا في خطابه، كما كان مجدّدا إذ كان بإمكانه القول: إذا المرءُ يوما أراد الحياة. لكنّه كان في عصر جديد استخدم فيه اللّغة الحديثة والبسيطة في توليفة جميلة ومغايرة فاستعمل المفردة المعاصرة، ومنها مفردة الشّعب. ولقد كان جواب الشّرط محصورا بالإرادة أي إرادة الحياة لذلك لا بدّ للقدر من الاستجابة. وبمعنى آخر، وفي شكل مختلف فإنّ القدر يقترن بفعل مّا. والقدر في اللّغة هو أيضا مقدار الشّيء، وهو أيضا إحالة على الاستطاعة والقدرة. وليس القدر من القدريّة الّتي لا دخل فيها للإنسان. ولعلّ البيت الثّاني: فلا بدّ للّيل أن ينجلي/ ولا بدّ للقيد أن ينكسر، يوضّح أنّ القدر متمثّل في معنى اللّيل ومدلولاته من استعمار وفقر وتخلّف، وهي القيود الّتي يجب أن تنكسر. لا شكّ في وجود أسباب أخرى لخلود الشّابيّ منها ما ذكرت في فقرة جدليّة الكلمة والفعل، ومنها نصوص شعريّة أخرى له من قبيل صلوات في هيكل الحبّ ونشيد الجبّار، وتونس الجميلة وغيرها. لكن لسائل أن يتساءل لماذا بقي الشّابيّ حيّا فيما نُسي شعراء آخرون لا يقلّون قيمة منه؟ والجواب هو: تبنّي الجماهير لأبياته الشّعريّة ودمجها في الفعل الثّوريّ إلى حدّ صارت الكلمة معه بمثابة عقيدة. هنا تكمن رمزيّة الشّابيّ وخلوده. هكذا دمجت الذّاكرة الجماعيّة والفرديّة الكلمة وارتقت بها إلى مرتبة النّشيد الرّسميّ والرّمز حتّى إنّ شخصيّة الشّاعر أضحت من المقدّس في العرف الشّعبيّ والنّخبويّ ولدى بعض السّياسيّين. 3- ماذا بقي من الشّابيّ؟: لهذا السّؤال المخاتل معان عدّة. منها بقاء الرّمز حيّا في الذّاكرة الشّعبيّة، ومنها اقترانه بالفعل الاجتماعيّ، ومنها أيضا الرّؤية الفنيّة في شعر الشّابيّ وتجاوزه للسّائد، وكسره لقيود البلاغة القديمة واللّغة ذات المفردات الغامضة. فلغة قصيدة إرادة الحياة بسيطة في مفرداتها غير أنّ الشّعر لا يهتمّ فقط بالألفاظ بل في التّآلف فيما بينها وصهرها في معنى يرتقي بها إلى أعمق الدّلالات، ويدمجها في صلب الحياة، فتعبّر عن هموم النّاس وقضاياهم. ثمّة هنا مجال آخر للتّوضيح ولنقارن، إن جازت المقارنة، بين أبي الطيّب المتنبّي وبين أبي القاسم الشّابيّ. فلقد كان المتنبّي شاعرا بليغا وشاعر حكمة بالأساس غير أنّ صداه ظلّ فرديّا بينما أصبح صدى الشّابيّ جماعيّا يرنو في شكل مّا إلى العالميّة. وخلاصة المقارنة تلك هي أنّ المتنبّي كان شاعر البلاط والنّخبة الحاكمة فيما كان الشّابيّ شاعر الشّعب والحياة. لقد دأبت الحكومات المتعاقبة في تونس منذ عهد إعلان وثيقة الاستقلال على توظيف الشّابيّ سياسيّا والنّظر إليه من زاوية مشاهير تونس الّذين يغنون صورتها أو سمعتها في الخارج والدّاخل، ومن ثمّ تلميع صورة الحكومات والأنظمة، وهي تدرك جوّانيّا أنّ استثمار الشّابيّ سياسيّا هو سيف ذو حدّين: حدّ لمدح النّظام وتثبيت شرعيّته وإشهار سمعته، وحدّ للثّورة عليه وتبنّي شعار التّغيير. أمّا شعبيّا وفي عرف النّخبة المثقّفة فإنّ الشّابيّ يظلّ رمزا مهمّشا لأسباب كثيرة منها أن لا شيء تقريبا يخلّده ماديّا كوجود معلم له يليق بشهرته ورمزيته كأن يكون مركزا ثقافيّا دوليّا، ولا حتّى وجود متحف له أو بيت شعر باسمه أو غير ذلك. بينما كان بالإمكان أن يتحوّل مقام مّا لأبي القاسم الشّابيّ إلى مزار سياحيّ وثقافيّ يخلّد شخصه وشعره وعبقريّته ويفيد بلده في مجال التّنمية. لكنّ الجانب السّياسيّ ظلّ مهيمنا لذلك نجد مزارا للرّئيس السّابق الحبيب بورقيبة، ولا نجد مثيلا له للشّابيّ. مثلما كان الأمر في الاتّحاد السّوفياتيّ سابقا فلقد غطّى معلم لينين أو مزاره لسنوات عديدة على معلم بوشكين على سبيل المثال. غير أنّ الزّمن سيتغيّر حتما فسيبقى الرّمز الثّقافيّ وينسى الرّمز السّياسيّ في يوم مّا. وها قد حدث في بلد آخر وفي زمن مضى حين نزع تمثال لينين، وبقي تمثال بوشكين في روسيا شامخا. – الخاتمة: إنّ الشّعوب توّاقة إلى صناعة الرّموز والمقدّسات فهي جزء من هويّتها ومرجعيّاتها. والمقدّس والرّمزيّ قد لا ينتميان إلى الحقل الدّينيّ بل يمكن أن ينتميا إلى المجال الفنيّ، وكذا حال أبي القاسم الشّابيّ في إرادة الحياة. يخلد الشّاعر حين تردّد الجماهير شعره بملء حناجرها إبّان الفعل الاجتماعيّ الثّوريّ بالخصوص. ولذلك صار الشّابيّ مرجعا في الهويّة والذّاكرة الجمعيّة وسيظلّ صداه حيّا. رحل الصّوت، وبقي الصّدى خالدا. * مقالة حرّرت بمناسبة الذّكرى 86 لوفاة أبي القاسم الشّابيّ. 2020-10-24 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet