ندوة دار إشراق للنّشر ومجلّة”مشارف” عن الشّاعر التّونسيّ المرحوم عبد الله مالك القاسمي(6): الحساسيةُ الفنّيّةُ* : ينابيعُها وصيغُ تشكّلِها في مجموعة حالاتُ هذا الرّجلِ الغائمِ (1) لعبد الله مالك القاسميّ(1950 – 2014 ) : محمّد صالح بن عمر

عبد الله مالك القاسمي من الشّعراء التّونسيين القلائل الذين أغرت تجاربهم شعراء من  جيل التّسعينات والجيل  اللاّحق له فارتضوا أن يكونوا لهم مُريدين وأعلنوا تتلمذهم لهم وتحلّقوا حولهم . ولعلّ من أبرز هؤلاء  الشّعراء “الشّيوخ  ” فضلا عن القاسمي الشّاعرين يوسف رزوقة ومحمّد الغزّي .

ولقد أسهمت عدّة عوامل في اجتذاب تجربة عبد الله مالك القاسميّ عددا من  أولئك الشبّان  واعترافهم  له   بالرّيادة في اللّون الذي يكتبون لعلّ  أهمَّها  عاملان أوّلهما  أنّ الشّاعر  لم ينسق منذ خطواته الأولى  ، تماما مثل الغزّي ورزوقة إلى امتطاء صهوة الإيدولوجيا ،  على الرّغم من قوّة استقطابها للأقلام الشّعريّة والنّثريّة  قبل التّسعينات .  والعامل الثّاني هو أنّ عبد الله مالك القاسميّ لم يقده عزوفه ،  فيما يكتب ، عن الإيديولوجا إلى الوقوع  في الخطاب الوجدانيّ الكلاسيكيّ أو الرّومنطيقيّ القائم على البوح وتصوير الظّاهر السّطحيّ من الأحوال الطارئة على الذّات وإنّما صادف في ذاته ينبوعا ثرّا بعيد الغوْر جذورٌه ضاربة في وعيه ولاوعيه على حدّ سواء .وهو عبارة عن بنية نفسيّة ذهنيّة صلبة قوامها مزيج من كآبة متأصّلة وحيرة وجوديّة عميقة . وهو ما يقصر عن رسمه بالدقّة الكافية  الخطاب المباشر أو البيانيّ التّقليديّ . فكان أن نأى عنهما تلقائيّا إلى ضرب جديد من الكتابة الشّعرية يجنح إلى هجر قصيدة الموضوع ذات البنية الشّجريّة التي ينقسم فيها المحور الكلّيّ  منذ البدء إلى محاور فرعيّة ثمّ كلّ محور فرعيّ إلى محاور أصغر،   مفضّلا عليها قصيدة المٌناخ  التي تتداخل فيها المعاني الحافّة والرّموز على هيئة شبكات من الحقول الدّلاليّة والمعجميّة وتقلّ أو تمّحي في صلبها الدّلالات الظاهرة والمجازيّة المتداولة المبتذلة .

وهكذا يمكن القول إنّ عبد الله مالك القاسميّ من أوّل الشّعراء التّونسيّين الذين عدلوا عن شعر الموضوعات إلى شعر المُناخات . ولم يكن ذلك من باب البحث  المتعمّد عن الجديد بل لأنّ بنية الرّجل النفسيّة و الذهنيّة لا تسمح إلا بذلك .

ولكنّ عاملا خارجيّا  حال دون بروز هذا الشّاعر ولفْتِ انتباه النقّاد  واحتلاله المكانة التي يستحقّ طيلة عدّة سنوات .  وهو أنّه ارتبط بتياّر أدبيّ ضخم اختلط فيه الغثّ بالسّمين وكان غثّه طاغيا على سمينه . فضاع صوته وسط الزّحام . وكان من نتائج ذلك  إقصاؤه من المختارات الشّعريّة التي أصدرتها مؤسّسة “بيت الحكمة ” بقرطاج سنة 1990(2) والتي  أُوكِلَتْ إليّ مهمةُ إعدادها بكتابة تراجم الشّعراء  المختارين وانتقاء نصوصهم بعد أن ضبطت قائمتَهم   لجنةٌ علميّة موسّعة . وهو ما جعله يشنّ عليّ شخصياّ حملة صحفيّة واسعة النّطاق  استمرّت أكثر من ثمانية أشهر كانت حصيلتها ما يزيد على ثمانين مقالا نشر بحوالي ستّ عشرة صحيفة ومجلّة .ولم يعلم أنّ استثناءه كان بقرار جماعيّ لا فرديّ شمل جيشا عرمرما من المتشاعرين  لم يلبث أن انسحب أكثرهم من السّاحة ولم يبق لهم من أثر غير المجاميع الهزيلة التي نشرت لهم وأساؤوا فيها أيمّا إساءة  إلى فنّ  الشّعر .

ولقد كانت لتلك  الصّدمة ، فيما يبدو  ، آثار  عميقة في نفس الشّاعر  . لكنّه  استثمرها على نحو إيجابيّ  ،  بالابتعاد نهائيّا عن ذلك التجمّع الضّخم و التوجّه إلى مؤسّسة نشر أخرى أصدرت له مجموعته الثاّنية التي وسمها ب” هذه الجثّة لي ” (3) ثمّ إلى مؤسّسة ثالثة نشرت له مجموعته الموالية التي عَنْونَها ب ” حكايات الرّجل الغائم ” وهي التي اخترنا أن نتوقّف عندها في هذه الدّراسة  .

ولئن كان الجانب الأكثر إفادة وأشدّ لفتا للانتباه في هذه المجموعة هو الحساسية  الفنّيّة المرهفة لصاحبها  فإنّ هذه الحساسيّة تقترن ببنية نفسيّة وذهنيّة عميقة تؤلّف المعين الذي منه تنبع رؤية الشّاعر الفنّيّة . وهو ما يجعل من المفيد  منهجيا فحص  الخلفية التي يصدر عنها و محاولة تفكيكها قبل تتبع الصيغ التي تتجسّد فيها تلك الحساسيّة.

1 – البني النّفسيّة والذّهنيّة في قصائد المجموعة :

1 -1 :نفسيّا : كآبة متأصّلة مستقرّة  في المزاج :

تطغى على قصائد المجموعة بوجه عامّ نبرة حزينة ، عالية، قارّة تترجم عن كآبة عميقة متأصّلة مزمنة  لعلّ العامل الأصليّ  الكامن وراءها ولاديّ ثم أضيف إليه  في كهولة الشّاعر  عامل خارجيّ طارئ . وهو أنّ القدر  سلّط عليه محنة قاسية هي إصابة إحدى بناته منذ الصغر بمرض خبيث  ظلّت تعاني منه إلى أن دخلت الجامعة طالبة لكنّه لم يمهلها أكثر من ذلك إذ اختارها الله إلى جواره قبل أن تكمل  سنتها الأولى من التّعليم العاليّ .

ولئن لم يكن عبد الله مالك القاسمي أولّ شاعر تونسيّ تُغَشِّي عالمَه الشّعريّ غمائمُ  كثيفةٌ من الأحزان والأشجان ،   إذ عُرف قبله بذلك الشاعران  محيي الدّين خريف (1932 – 2011 )  وجمال الدين حمدي (1935 – 2000  )    فإنّه يختصّ دونهما – وهي حالة مخالفة للمعتاد – بضرب من التكيّف  العجيب مع  كآبته وعدم سعيه  إلى التّخفيف من حدّتها ،فضلا عن التخلّص منها  حتّى لكأنّها قد أضحت  مع تقادم الأيّام جزءا لا يتجزّأ من مزاجه وشخصيّته  فلا يجد في غيابها توازنه.

وهكذا إذا لاحت للشّاعر بوادر انفراج للتّخفيف من  أزمته لم تهفُ نفسه إليها  بل يكون فعلُها  – ويا للمفارقة – عكسيّا  بأن تزيد نارَ تلك الأزمة  ضِراما . وهذا هو الذي في حقيقة  الأمر – ويا للمفارقة أيضا –  يرغب فيه .

يقول في هذا المعنى :

ولمّا أفقتُ

وصرتُ نبيًّا

وطفلاً

أضعتُ كتابي

وذاكرتي

(المصدر نفسه ص 14 )

ولمًا أفقتُ

وصرتُ نبيًّا

وطفلاً

وكنتِ طريقي

مشيتُ إليك

مثلما شجرٌ

راحلٌ نحوَ بيتِ الحريقِ

(المصدر نفسه ص 15 )

1- 2: ذهنيّا : إحساس قويّ بالاغتراب وحيرة وجوديّة عميقة :

ليست كآبة الشّاعر  حالة نفسيّة خالصة وإنّما تمازجها  مشاعر قويّة بالاغتراب والعزلة والإهمال والحرمان .

وفي هذا يقول :

أنا ملقًىً على أرضٍ يبابٍ

بلا شجرٍ وريقٍ 

أو ظلالٍ

أكادُ من الّلواهجِ أصطلي

كما تَصْلَى الطّيورُ على الرّمال

فلا نسماتُ هذا الشّرقِ تأتي

ولا قمرٌ

يُطلُّ على الّليالي

(المصدر نفسه ص 65 )

و بَدْهِيٌّ أن يؤدّي  مثل هذا الإحساس  إلى تعميق حيرة الشّاعر  و مراكمة أسئلته الوجوديّة دون الظّفر عنها بأيّ جواب .

يقول :

حين نَعْرَى ،

نلوذُ بنا …

بجيادِ طفولتِنا المُتعبةِ

ونعُدُّ من الجرحِ أغنيةً

وردةً ،

قمرًا … أو كتابًا من الأسئلةِ

(المصدر نفسه ص 20 )

ومثلما رأيناه لا يبغي خلاصا من كآبته نجده هنا أيضا منسجما كلّ الانسجام مع حيرته الوجوديّة  فلا يبغي عنها بديلا ولا يسعى إلى التّواصل مع محيطه بل يظلّ يتحرّك في رحابه بضرب من النّخوة الممزوجة بالانتشاء .

يقول  متحدّثا عن نفسه في صيغة الغائب :

ينهضُ من غفوتِهِ

مبلّلاً بالحلمِ والغمامِ

وفي الحديقةِ الصّغيرةِ

لا ينهضُ الوردُ

ولا النعناعُ ، لا

مازال يمشي في الممرِّ المُتّرِبِ

مبعثرَ الخطى

وحيدًا

ثَمِلاً وعاريًا تلفُّهُ العظامُ

(المصدر نفسه ص 16 )

2 – جمالية الخطاب ملاذا وفضاء للتّعويض :

إنّ الآليّة الطبيعيّة التي تتّبعها النّفس البشريّة  حين تتأزّم ويبلغ تأزّمها  درجة عالية من الحدّة  لا تطاق هي إما النّقل وإمّا التّعويض . وهما متقاربان .

فالنّقل * على حدّ التّعريف الذي  وضعه صاحب هذا المصطلح – وهو جيمز  سولي ( James Sully   1942 – 1923) –  هو  ” العملية التي بمقتضاها يتحقّق التّحوّل من حالة عاطفيّة مرتبطة بشيء معيّن إلى شيء أخر”(4) . ومن أمثلة ذلك أن ينظر المتعلّم  إلى المدرّس على أنّه والده المتوفّى أو الغائب .

وأماّ التّعويض – وهو الذي يهمّنا هنا وكثيرا ما يلتبس بالأوّل –  فهو حسب  واضع هذا المفهوم ألفراد آدلر  ( Alfred Adler 1870- 1937  ) ” آلية تهدف إلى  سدّ نقص حقيقيّ أو وهميّ في مجال مّا بشيء من مجال آخر” (5) كأن يصرف المرء  على سبيل المثال كلّ طاقاته في عمله  لنسيان فشله في تجربة عاطفيّة .

ولمّا كانت الذّات الشّاعرة في شعر عبد الله مالك القاسميّ لا تلتمس ، كما رأينا ،   التّخفيف من حدّة الكآبة المتأصّلة التي تعانيها ولا تنشد الخلاص من غربتها وحيرتها الوجوديّتين  على ما تكابده جرّاءها من آلام  – وذلك لتكيّفها معها –   فقد اتّجه التّعويض إلى شكل اللّغة أو على نحو أدقّ إلى  صيغ الخطاب الفنّية  باعتبارها تؤّلف  مصدرا للانتشاء مع  عدم المساس بفحوى الأزمة الذي يجيء التّعبير عنها كاملا دون نقصان .

ولقد ذهب جاك  لا كان (  Jacques Lacan    1901 – 1981 ) في هذا الصّدد إلى أنّ لاوعي الفرد  مهيكل كاللّغة وأنّه ينطوي مثلها على رصيد معرفيّ  يمكن الكشف عنه . وفي هذا يقول : ” إذا كان من الممكن أن نشترك في لغة أمّ واحدة فإنّ اللّغة الفرديّة هي  شيء أشدّ  خصوصيّة  ينفرد به كلّ واحد منّا ولكنّه أيضا هو الذي يكون محمّلا  من حيث لا نعلم بآثار في الجسم هي  آثار استمتاعنا  بما نستمدّه من اللّغة  ” (6)  جاعلا  ،  كما نرى ،  لاستمتاع  مستعمل اللّغة الأصليّ بما ينشئه من كلام فيها بُعدا جنسيّا.

ولقد أدّى هذا الانزياح في اتّجاه اللّغة إلى بقاء  أزمة الشّاعر النّفسيّة والذّهنيّة على حالها بل على نحو معلن بارز  في مستوى المعنى . لكن مع النزوع إلى منتهى التفنّن والتّجويد في تصويرها  بفضل ما أوتي  الشّاعر من حساسية في غاية الرّهافة  .

ولا يخفى أنّ الحساسيّة الفنيّة   و إن كانت ملكة مشتركة بين أفراد الجنس البشريّ  فإنّها عند الفنّان الحقّ  أشدّ  نماء منها  عند الإنسان العاديّ . وهذا شرط من شروط  امتلاك القدرة على الإبداع . ومن هنا كان حكمنا دائما بأنْ ليس كلّ من يمارس الفنّ فناّنا و قياسا عليه ما كلّ من يكتب الشّعر بشاعر .

وفي هذا الصّدد نحسب أنّ عبد الله مالك القاسمّي من أشدّ الشّعراء التّونسيين المعاصرين حساسية فنيّة . وهو بذلك واع كلّ الوعي .  فها هو يختزل كيانه الجسميّ والعاطفيّ في كتلة من الحواسّ  قائلا :

شربتُ حواسّي كلَّها

حتّى غدتْ

من سُكْرِها

مجنونةَ الإحساسِ

وتشابكتْ في خيطِها أعضائي

من أخمصِ القدمينِ

حتّى الرأسِ

(المصدر نفسه ص 64)

لكنّ الأمر لا ينحصر في الوعي بل يتعدّاه إلى التّجسيم في الخطاب . وفي هذا يذهب الشّاعر إلى أبعد الحدود . فلمّا اتّجه  الشّاعر إلى التّعويض بجماليّة اللّغة  كان دور تلك الحساسية تمكينه من تحقيق درجات عالية من الإيماض والإبهار غلى صعيد شكل المقول لا محتواه الأغراضيّ * .فأزمته المزمنة هي هي غير قابلة للتّغيير لكنّ التّعبير عنها  يتحقّق بضرب من الاستمتاع  إلى أقصى حدود النّشوة ولا يكون كذلك إلا إذا كان بديعا ،  شائقا ، مربكا .

وهكذا يمكن القول إنّ  تجربة عبد الله مالك القاسميّ تتنزّل في   ما يمكن تسميته ” شعريّة  الكآبة ” و إن كان له في  صلبها لون خاصّ  قد يميّزه عن الكتابات المنتمية إلى  هذه الشّعريّة .

ففيم تتجلّى إذن  خصائص شعريّة  الكآبة عند هذا الشّاعر  ؟

لعلّ أفضل سبيل إلى الإجابة عن هذا السؤال الانطلاق من أمثلة  محدّدة حتى نقترب أكثر ما يمكن من جوهر تجربة الشّاعر و نتفادى الوقوع في التّعميم .

• مثال 1 :

يقول الشّاعر :

ديكٌ ينقرُ مصباحَ الفجرِ

وينوحُ

نجمٌ…

في الشُّرفةِ مذبوحٌ

(المصدر نفسه ص 12 )

هذا المقطع  القصير الذي يتألّف من أربعة أبيات يزخر بالاستعارات والّدّلالات الحافّة .ومجموعهما يتنزّل ضمن  إطار تتداخل فيه  ثلاثة حقول معجميّة  أحدها من حقول الطّبيعة ( الدّيك – الفجر – القمر ) وآخر من حقول الألم ( ينوح – مذبوح )والثالث من حقول الإنسان (  مصباح – شُرفة ) . أمّا الاستعارات فهي ( المصباح  ) للفجر و إسناد (النّواح ) إلى الدّيك و صفة ( الذّبح ) إلى النّجم  . وأمّا الدّلالات الحافّة فنلمح منها اثنتين : التّناقض الذي يحكم موقف الدّيك إذ هو يبكي والحال أنّ صياحه في  الفجر علامة في العادة على الاستبشار بالنّهار الجديد  وصورة النّجم المذبوح  التي توحي بالألم والاعتداء . لذلك تتناغمان   مع الصّورة السّابقة وتكمّلانها لكونهما انعكاسا لحالة الدّيك .

• مثال ثان :

يقول الشّاعر :

كما نحنُ نمضي

غريبيْنِ

متّكئيْنِ على نجمةٍ مطفأةٍ

غيرَ مكترثيْن بتلك الخطى

تتهجّى لنا وحشةَ اللّيلِ والأرصفةِ

(المصدر نفسه ص 18 )

ينطوي هذا المقطع على حقلين  معجميّين أحدهما من حقول الطّبيعة ( النّجمة – اللّيل ) والآخر من حقول الإنسان .وهذا الثّاني يتألّف من حفلين فرعيّين : أحدهما  محسوس ( نحن – الاتّكاء – الخطى – الأرصفة لأنّها من صُنعه  ) والآخر مجرّد (  الغربة –  عدم الاكتراث – الوحشة ) وهو مطرّز مثل المقطع الساّبق   بالاستعارات  والدّلالات الحافّة .   فالاستعارات هي : ( النّجمة  ) للمتّكإ –  إسناد فعل (التهجّي)  إلى الخطى  و ( وحشة اللّيل)  للحروف … . ومن الدّلالات الحافّة : انشطار ذات الشّاعر وهو يتحدّث عن الطّفل الذي في داخله – التّشاؤم الذي يستنتج من الاتّكاء على نجمة مطفأة –  بلوغ أزمة الشّاعر منتهاها إلى حدّ استواء الأمور المتناقضة لديه . وهو ما يشير إليه عدم اكتراثه بما يحصل من حوله  .

مثال 3 :

يقول الشّاعر :

فجأةً …

يومضُ البرقُ  

لا

لم أكنْ …

غيرَ هذا الظّلامِ

(المصدر نفسه ص 14 )

في هذا المقطع الشّديد القصر يقيم الشّاعر مقابلة بين رأسي حقلين دلاليّين من حقول الطّبيعة هما البرق والظّلام   ،  تاركا وحداتهما ضمنيّة   بغية تقوية الإيحاء و مستعيرا الثّاني لذاته  فيحمل الحقل الأوّل بذلك معنى رمزيّا. وهو الأمل أو قرب الانفراج  . أمّا بؤرة الإشراق فتتحدّد  في تعريف الشّاعر نفسه بالظّلام  – وفي ذلك إحالة  منه على حالته البالغة  التّأزّم – لكنّ  هذا التّعريف يجيء بعد أن يلوح له برق خُلّبٌ وهو الذي يخادع النّاظر فيطمع في غيثه لكنه يُخْلِفه . ولمّا كان البرق  محمّلا نورّ ووعدا بالمطر  فإنّ الظّلام  في هذا السّياق  يقابله من جهة ما ينطوي عليه من جفاف .وبذلك تكون  معاناة الذّات  الشّاعرة مضاعفة .

مثال 4 :

مشيتُ إليكِ

أحثُّ الخطى

مثلما شجرٌ

راحلٌ

نحو بيتِ الحريقْ

(المصدر نفسه ص 15 )

لئن كانت هذه الصّورة مصوغة على هيئة تشبيهِ تمثيلٍ مطابق للقاعدة البلاغيّة التّقليديّة فإنّ تصوّر العلاقة التي أقيمت بين طرفيه  : المشبَّه والمشبَّه به هي  من قبيل الإبداع الخالص .وما على هوّاة  إجراء المقارنات الأدبيّة والبحث عن  السّرقات  الشّعريّة إلاّ أن يبرهنوا على عكس ذلك . و لا يتأتّى الإبهار هنا من المناسبة بين ذينك الطّرفين في حدّ ذاتهما وإنّما من سير الشّاعر الحثيث  إلى  حتفه الفظيع  إماّ إراديا وإماّ مسلوب الإرادة . والأول أقوى .

حين ننظر الآن نظرة جُملية  إلى هذه المقاطع الأربعة التي انتزعناها عمدا طبقا لمواصفات العيّنات العشوائيّة  من سياقات متباعدة تلوح لنا متقاربة إن لم نقل متماثلة من حيث هيكلتها الدّلاليّة .فالانطلاق فيها كلّها من حقول منتزعة من مجالي الطّبيعة والإنسان  ثمّ المقابلة بين الحقول المختارة في مستويات متنوّعة على نحو يبرز حدّة الأزمة التي تعاني منها الذّات الشّاعرة نفسيّا ( الكآبة  العميقة المتأصّلة  ) و ذهنيّا (الغربة و الحيرة خاصّة )  مع التّقليل إلى أقصى حدّ ممكن من الدّلالات المرجعيّة  مقابل تكثيف الدّلالات الإيحائيّة والرّمزية و بذل منتهى الجهد في إنشاء الصّور المبتكرة تماما .

و لعلّ أقوى ما يدلّ عليه هذا التّماثل هو أنّ في شعر عبد الله مالك القاسميّ ثوابت بارزة يكشف عنها النّظر المدقّق المحلّل في كلّ قصيدة  من قصائده  أو جزء من  قصيدة  . وهذه الثّوابت تشمل البنى العميقة  أي النفسيّة والذّهنيّة والبنى السّطحيّة أي   التّقنية الإنشائيّة . وهي لعمري علامة على أنّ للرّجل تجربة شعريّة قائمة الذّات . وأصحاب التّجارب ،  مثلما هو معلوم   ، قليلو العدد في كلّ عصر ومصر .

خاتمة

لعلّ أهمّ ما أفضت بنا إليه هذه القراءة في مجموعة  حالاتُ الرّجلِ الغائمِ  لعبد الله مالك القاسميّ  أنّ صاحبها شاعر ذو تجربة لا شاعر قصائد . وذلك يتجلّى في انطواء شعره على  عناصر قارّة  لا تخلو منها أيّ قصيدة  من قصائده تقريبا ،  أبرزها  عنصران هما : صدوره فيه عن بنية نفسيّة ذهنيّة  قوامها كآبة متأصّلة وحيرة وجوديّة عميقة  وإحساس قويّ بالوحدة والاغتراب وامتلاكه أسلوبا خاصّا يقوم على النّهل من حقول الطّبيعة والإنسان  في المقام الأوّل ،مع تكثيف الدّلالات الحافّة وتطريز السّياق الشّعري بألوان شتّى من العدول الحيّ . والحاصل من كلّ ذلك أنّ فضاء القصيدة لديه يكون على هيئة مناخ غبشيّ شديد الإيحاء فتُقرأ قراءة عموديّة  انطلاقا من حقولها المعجميّة والدّلاليّة ،  لا  في شكل خطاب ذي بنية شجريّة فتُقرأ قراءة سياقيّة  بدءا من عنوانها  حتّى آخر بيت من أبياتها .

وإذا علمنا أنّ هذه التّجربة قد انطلقت في نهاية السّبعينات أي في  الفترة  التي بلغ فيها الخطاب الإيديولوجيّ ذروة هيمنته على الوسط الشّعريّ بتونس  أمكننا عدّ صاحبها تاريخيّا أحد المبشّرين بالشّعر التّسعينيّ  الذي و إن كان يقصيه عنه سنّه فإنّ تجربته  تربطه به على نحو وثيق من حيث تصوّر مفهومي الشّعر والشّاعر .

ومن ثمّتَ لا نخال أنفسنا مغالين إن قلنا إن عبد الله مالك القاسمي هو بحقّ أحد أساتذة جيل بأكمله هو جيل  شعراء التّسعينات بتونس .

 

الهوامش :

1 – عبد الله مالك القاسمي حالاتُ الرّجلِ الغائمِ ، المكتبة المتوسّطيّة ، جمعيّة الكتاب بتازركة ( الوطن القبليّ ) تونس 1999.

2- محمّد صالح بن عمر، مختارات الشّعر التّونسيّ الحديث والمعاصر ، مؤسّسة ” بيت الحكمة ” ، قرطاج – تونس 1990.

3- عبد الله مالك القاسمي : هذه الجثة لي ،الدّار التّونسيّة للّنشر ، تونس 1992.

4James Sully,The Human Mind, II,1978

5Dictionnairede la psychologie , terme ” Compensation”Dicopsy.com

6Lacan J., Le Séminaire, Livre XX, Seuil, Paris 1975 p 1

مصطلحات :

• الحساسية الفنّيّة ( La sensibilité artistique  )
• النّقل (Le transfert  )
• التّغويض(La compensation )
• أغراضيّ ( Thématique )