ندوة دار إشراق للنّشر ومجلّة”مشارف” عن الشّاعر التّونسيّ المرحوم عبد الله مالك القاسمي(2) :أحزان شعرية من دفاتر عبد الله مالك القاسمي : عثمان بن طالب 17 يناير,2020 عثمان بن طالب من أقوال المتنبّي الشّهيرة أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي و أسمعَتْ كلماتي من به صمَمُ أنام مِلْءَ جفوني عن شواردِها و يسهرُ الخلقُ جَرَّاها و يختصمً ينام عبد الله في عالم الخلد ملءَ جفونه، بقِيَتْ كلماتُه نابضةً بالجمال، طافحةً بالحزن ،سهرنا جرَّاها و لن نختصمَ٠ حلَلْنَا بين نصوصه متسلِّحينَ بفضولنا و مفاتيحنا ،نحاول إدراكَ دلالاتها و فكَّ رموزها لعلَّها تفتحُ لنا أبواباً تستضيفنا و حالُنا جميعاً يقول يا ضيفنا لو جِئْتَنَا لوجدتنا نحن الضيوفُ و أنتَ ربُّ المنزل تبدو لنا نصوص عبد الله عفويةً، مكثفةً، متدفّقةً٠٠٠و لكنّها تخفي جهداً عميقا و معاناة صامتةً مع تجربة الوجود برمزيّة الكلمات و إيقاعات القصيدة٠ تقودني قصائد عبد الله كلها إلى أحزانه٠ و لا أعني بالحزن هنا حالةً نفسيةً مزاجيةً ظرفيةً، بل هو حالةٌ وجوديةٌ متأصِّلةٌ في كيان الشّاعر و ملازمةٌ لمناخات إقامته في قصيدته٠ عرفتُ هذا الحزن الوجوديّ في نبرات صوته و نظراته و حركاته و تجلّيات سكره و صحوه، قبل أن نقف على كثافته و تداعياته في كتاباته٠ كنتُ دائما أحبس أنفاسي كلَّما استمعت إليهِ يقرأ الشّعر و كأنَّه في كلّ مرّة يقتطع من جسده و روحه كلَّ كلمةٍ، كلمات تُردِّدُ في أعماقه هذه الصَّرخة: هذه الجثّةُ لي هذا بعضُ رمادي أستحضرُ مثلاً صينيًّا يقول ” إنَّ الجسرَ لمْ يُصنعْ ليمرَّ من فوقه العابرون، بلْ لِيمُرَّ من تحته الماء “٠ قُرَّاءُ الشعر و نُقّادُه عابرون، و أشعارُ عبد الله ماءٌ يجري تحت الجسور حُلمًا و حزنا و طاقةً تخييليّةً تجابه فكرة الموت ٠ نتناول في هذه الورقة بعضًا من تجلّيات شعريّة الحزن في مدوّنة شاعرنا: كيف تشكَّلت هذه الأحزان و توزَّعت في دواوينه و تلبَّست بحالات شتَّى و سياقات مختلفة ؟ لن نركِّز على ديوانٍ بعينه، بل سنحاول رصد هذه الأحزان في المدّونة باعتبارها وِحدةً لا تتجزَّأ٠ 1 – ثلاثيّة الأجزان : في المجموعة الشّعريّة الأولى كتابات على حائط الّليلالصّادرة بتونس سنة 1983 عن دار الأخلّاء، جمع الشّاعر مختلف المراحل التي مرَّ بها إلى ذلك التّاريخ ( 7 قصائد نثريّة و قصائد حرَّة و أخرى موزونة )، كأنِّي به من خلال هذا التّركيب المتنوّع قد أراد أن ينتهج لنفسه برنامجا إبداعيّا معبِّرا عن جدليّة التّطوّر و البحث بين الكتابة و الحياة، كأنَّهما وجهان لحقيقة وجوديّةٍ واحدة(1).. طرح عبد الله على نفسه، في مقدِّمة كتبها خصّيصا للمجموعة، سؤالاً خطيرًا يعكسُ إدراكاً عميقا و مبكِّرًا بمسؤولية الكتابة و علاقتها بمغامرة الوجود و هشاشة الكيان٠ نادرا ما يطرح الشّعراء التّونسيّون على أنفسهم هذا السّؤال٠ فيتساءل عبد الله : لماذا الشّعر ؟٠٠٠ حين أقول ” لماذا الشّعر ؟ فإنّما أقول : لماذا الحياة ؟ (٠٠٠) الشّاعر قد يواجه في حياته اليوميّة ألواناً من الإحباطات و الانتهاكات ينشأُ عنها شعورٌ بالقلق و الخوف فلا يجد غير الكلمة وسيلةً و سلاحًا لإثبات كيانه و الدّفاع عن وجوده٠(٠٠٠) الشعرُ هو رؤيةٌ جديدةُ للواقع و الأشياء و الكون٠ (٠٠٠) رؤية الشّعر للواقع لا تعني كتابة هذا الواقع بل تتجاوزه إلى واقع جديد يتطلَّعُ إلى الجمال و الانبهار”. هذا هو عبد الله يتحدّث عن العلاقة بين الشّعر والحياة كأنّها علاقة المعنى بالمعاناة٠ الحالة الشّعريّة عنده تُشبِه حالة مخاضِ المرأة الحامل، إذْ يقول “ لا تستطيع التكهُّنَ بجنس المولود قبلَ وضعِهِ٠ ” هي حالةُ انبجاس لمعنى مجهول من رحِمِ الإدراك الجماليِّ للمعاناة٠ يقول عبد الله ” الشاعرُ، حين يلتحمُ باللّحظة الشّعريّة، يكون أقرب إلى حالة من حالات التّصوّف من أيّ حالةٍ أخرى“٠ يُشَبِّهُ هذه الحالة ب “ حالة مباغتة “، و ” توغّل في رؤية باطنيّة تعكس الوعي بالوجود و الكون“ منذ بداية المسيرة، ومرورًا بديوان ” هذه الجثّة لي ” (1992) و ديوان ” حالات الرّجل الغائم ” (1999)، و ديوان “ قصائد المطر الأخير” (2006)، تأثَّثت القصيدة بهذه الرّؤية الباطنيّة الحافلة بالحزن الوجوديّ التي أدرك عبد الله محمولاتها القيميّة و الجماليّة٠ نجدها حاضرةً في ثلاثة عناوين أساسيّة تلخِّص الحقول الدّلاليّة الكبرى التي تدور في فلكها كلّ أحزان عبد الله ٠ ــ العنوان الأول يتمثَّلُ في حزن الذّاكرة العربيّة٠وهوحزن مرتبطٌ بالانتماء التّاريخيّ و الثّقافيّ لهويّةٍ مأزومة و مهزومة٠ ــ العنوان الثّاني يتمثَّلُ في حزن غربة الكيان الأنطولوجيّة أمام فكرة الموت واستحالة المعادلة بين عبثيّة الوجود ورغبة الخلود٠ ــ العنوان الثّالث يتمثَّلُ في حزن الكائن الاجتماعيّ المفجوع في نسغ السّلالة و هشاشة الجسد وتوتّرات الحياة اليوميّة٠ هذه الثّلاثيّة المركّبة بين البعد التّاريخيّ الثّقافيّ و البعد الأنطولوجيّ الوجوديّ و البعد الاجتماعيّ الذّاتّيّ تتجلَّى بكلّ وضوح في الدّيوان الأوّل رغم ما كان في هذه القصائد من ملامح للحلم و الفرح ٠٠٠الحزن يظلُّ حالةً ملازمة للشّاعر لأنَّها حالة اختلاف مع كلّ الحقائق و القناعات و الموجودات و انفصال عنها ،انفصالا منهجيّا عن كابوس الزّمن و كابوس الفضاء٠ لذلك اختار الشّاعر الإقامة في زمكان اللّيل و التَّيْه و الرّحيل و السّفر٠ إنّه ترحالٌ دائمٌ بين حالات شتَّى لِرجلٍ غائمٍ من سلالةٍ بودليريّةٍ و بنبرةٍ عربيّةٍ فصيحةٍ٠ في قصيدة ” كلمات قبل الرّحيل ” (ص61)، يطرحُ الشّاعر على نفسه السّؤالَ المنهجيّ الذي يُحَيِّرُ كل الشّعراء٠ إنّه سؤال العتبات الذي يحدِّدُ أسبابَ النّزول وطقوس الحلول في القصيدة. عن أيِّ شيءٍ أكتُبُ ؟” هل أكتُبُ عن شتاءٍ فاتْ ؟ و ربيعٍ آتْ ؟ و عن موسيقى تتوزَّعُ في الأصواتْ عن غجريّة٠٠٠ تَحْرِثُ اللّيلَ و تزرعُ الشّهواتْ ؟ عن أيِّ شيءٍ أكتُبُ ؟ ” (ص61) يفتح السّؤال بوّابة الشّعر على مشهديّة الموت و الوجع : “إنِّي أفتح دفتري و بنسغ الوجع ، أكتب عن بنيَّتي التي في حضن الموت٠٠٠ تنــــــــــام تتوسَّد الأحلام… أيها الموتُ تمهَّلْ لا تُزعج صغيرتي إنَّها تنــــام ” (ص62) في قصيدة ” مرايا الحلم ” (مُهداة إلى الشّاعر محيي الدّين خريّف)، نجد علاقة مماثلة تجمع الشّعراء.وهي أحزانهم اليانعة : على ضفاف الصّحو، نلتقي نكتبُ بالدم الفوَّار أشعارًا نُعلِّقها على بوابّات اللّيل المضيء ” (ص64) عندما رحلت هاجر، فاض القلب بأحزانه، و لكنَّ القصائد كانت كلّها رجْعًا لصدى حزنٍ قديم يتجدَّدُ و يتعدَّدُ .و هو ما يُؤكِّدُه قولُ شاعرٍ آخر يستشهدُ به عبد الله في مطلع ” القصائد النثريّة”: “ واحدٌ قلبي و كثيرةٌ أعراس الموت “ (محمّد أحمد القابسي) 2- من دفتر أحزان عبد الله اللّيليّة : تتناثر مفردات الكائن الحزين بين عتبات اللّيل و آفاقه الرّحبة٠ اللّيل هو زمانو مكان الوحدة و التّجلِّي و الحقيقة ومكانها. هو، كما يقول الشّاعر، ” إغراقٌ في الذّهول “، أرجوحةٌ بين هالة العشق و لحظة الانبهار٠في فضاء الصّمت الحزين يُحلِّقُ الشّاعر: “طيرٌ مسافِرٌ في الغناء في مُدُنٍ جديدةٍ في كلّ يومٍ تقتُلُ الشّعراء تمشي خلفهم ٠٠٠حتّى تُتَرجمهم إلى موتٍ جديد”“ (قصيدة المنفى، “هذه الجثّةُ لي“،ص 71) اللّيل، كمحراب الحلَّاج، تتوحَّدُ فيه ثلاثيّة الكائن و الكيان و الكون،تدور فيه الرّؤيا برغبة الاختلاف عن الموجودات و السّؤال عن كنه الوجود٠ يولد الشّعر من مجاز الغربة و التّيه و التّحرُّرِ من ثِقل الزّمن و الجسد، مفترشًا أحزان الشّاعر و أتعابه: “قُمْ افترش العشبَ و اكتبْ على صفحة اللّيل (…)أنشودة الغجرْ أيُّها الغجري لقد أنهكتك الدروب و طول السّفر”. (كتابات على حائط اللّيل، ص 28) في قصيدة “خمرتي و عشقي”، يناجي الشّاعر مولاه معلنًا عن حالة تصوُّفٍ و غياب تفتح على باب المعرفة الباطنيّة : “مولاي هذه الخمرةُ لمْ تعُدْ ترويني ما عادت تُسكِرُني خلِّيني أُشعِلُ في جسدي (…)نار العطش الأبديّ فأنا الصّوفيّ يفنى جسدي جسدي يفنى لكِنَّ خُموري تبقى…في الملكوت مُشَعْشِعَةً ” (ص ص29ـ30 ) تلي هذه القصيدة مباشرة في وسط الدّيوان قصيدة موسومة بالتّناصّ مع سيرة الحلّاج، كأنَّه قِناعٌ يتحاورُ و يتقاطع مع ذاكرة التّراث٠ القصيدة تحمل عنوان “مقاطع جديدة من سيرة الحلاّج” و تنطلق من سؤالٍ حول العلاقة بين الزّمن و الموت، بين الوجود و الخلود٠ يلبس الشّاعر جُبَّةَ الحلاّج و ينطق بصوته، و لكنّه ينزاح عن جرح الحق الإلهيّ إلى جراحه هو٠ ينفي الكائن الشّعريّ حتَّى حقيقة الله، إنّه ذاتٌ تائهةٌ في ظلمات التّاريخ العربيد بين الفتنة و التّقوى ،ذاتٌ فقدت صِلتها بحبل سلالتها فلم يبق في الجبّة إلّا خيط واصلٌ بين ” الوطن و الزّمن و الكفن” تبدأ المقاطع الحَلاَّجيّة في فضاء محايثة حميميّة بحوارٍ بين الشّاعر و اللّيل : “هو اللّيلُ يُسائلني عنكِ…فأحتار (…) أتوغَّلُ في غابةِ صمتي تكبُرُ أشجارُ الدهشة تكبر (…)” (ص 35 ) يفتحُ هذا السّؤال على رؤيا تجمع بين جسدين ، جسد “شجرة الفتنة” و الغواية و السّلالة المقطوعة، استعارة “أنثى الجنّة“، و “جسد النّار“، و هي استعارة قديمة للأسرار التي يسرقها الشّعراء من محراب “التذقوى“، تنحدرُ من “أعلى قِمم اللّهب سيلاً يتدفَّقُ في بدن الشّاعر يُورِقُ أحلامًا و مجازات” حين “تُباركه النّزوات” في “أزمنة الشّهوات“٠ يُفضِّلُ عبد الله “مملكة النّار” على “شجرة التّقوى” الحلاّجيّة ، لأنّ الرّؤيا اللّيليّة لا تكشفُ عن مجد السّلالة، بل عن رجع صدى ذاكرةٍ مصلوبةٍ في تاريخٍ أظلم كهذا اللّيل : “اللّيلةَ ٠٠٠٠٠٠ ندخُلُ صَفًّا صَفًّا مملكة النّار و نُنادي كفى يا أقدارْ٠٠٠” (ص38) “هل هذا صوتُكَ يا جدِّي، يرجعُ من منفاه أم رجعُ صداه ؟” “حين تصَّاعَدُ من صلصلةِ البدن أبيضَ ٠٠٠أبيضَ كالكفن مسلوخا بعذابات الوطنِ الزمنِ ــ الوثن ” ( ص 39) “ناديتُ الله كان يراني٠٠٠و أنا كنتُ أراه كان البرزخ ممتدّاً، يسبحُ بين الأشياء كنتُ أنا وحدي أتشرَّدُ في الملكوت يحمِلُني وجْدي حيث أشاء ” (ص41) في أحضان هذا البرزخ اللّيليّ يتجلّى للشّاعر كائنٌ نورانيٌّ يُسمِّيه“أنثى النّار” و “امرأة اللّيل“: كانت أنثى اللّيل“ تتجلَّى جسدًا يتدلّى فاكهةً و ثمارْ ” (ص 42) من هي “أنثى النّار” و “امرأة اللّيل” ؟ يكشف الشّاعر عن هويّتها فندركُ أنّها إقامته الوحيدة الممكنة، هي القصيدة، يَسكُنٌها و يُسكِنُها كلّ الموجودات٠ يُخاطبها قائلًا: لأنّكِ رايتي“ شعبي و مملكتي أفِرُّ إليكِ من تعبي و من غضبي٠٠٠()٠٠٠ أفِرُّ إليكِ من يومي و من ذِكرى بعيدة أفِرُّ إليكِ ٠٠٠أيتها القصيدة ” (ص 43 ) إنّ هذا المكان المسكون بالوحدة و بمجابهة القصيدة، هو فضاء المحايثة الذي حدّثتنا عنه فلسفة الفنّ باعتباره فضاء رمزيّا أنطولوجيّا يحتمي فيه و به الشّاعر من عنف العالم و و قسوته وعبثيّته٠ و لكنّنا نلاحظ أنّ عبد الله يقيم في هذا الفضاء مُثقلاً بأحزانه و قلقه الوجوديّ فنراه من نصٍّ إلى آخر يعمل على كسر حدوده و الإفلات من مساحته، كأنّه مسحورٌ على الدّوام بالغياب و مسكون بالأسئلة٠ في هذه الحالة الشّعريّة الصّوفيّة الوجوديّة ، لسنا أمام شعريّة الرّغبة و الرّومنسيّة الحالمة، بل أمام حالة شعريّةٍ معرفيّةٍ متوتّرة باحثة عن جوهرها و صورة تحوُّلاتها نحو نهايتها، و هي التحقُّقُ في فكرة الموت و الانتصار عليه بلعبة الشّعر٠ في هذه الحالة ، الحزنُ هو صورة الوعي بالاختلاف و انشطار الذّات بين الكائن الميّت و الكيان الحيّ٠ صورةٌ متحوِّلة و مقترِنةٌ بالغربة اللّيليّة والمنفى و الغياب و الانفصال الإراديّ عن كوابيس الذّاكرة و قواميس الواقع٠ 3- نشيد النّشيد / أحزان عربيّ في قصيدة طويلة بعنوان “النّشيد” أعتبرُها من أهمّ نصوص عبد الله مالك القاسمي ، جمع كلّ أحزانه و جراحاته مركِّزا على فكرة الموت التي تجمع بين نسبيّتها الماثلة في الواقع العربيّ و مُطلقها مُنعكسًا في فناء الوجود و هشاشة الكيان٠ تضمُّ القصيدة 57 بيتاً و مطلعُها هو مناجاة للظّلمة و إعلان غيابٍ لمصدر النّور: نجومي أراها تختفي من سمائيا فأين اختفت إنّي لها كنتُ راعيا و ينتهي النشيد بصرخةٍ تفيض من قوافيه: “يفيضُ نشيدي، الآن، منتفضًا كما حمامٌ جريحٌ فوق سور القوافيا ينِزُّ دماءً أو غناءً، مُلوِّحـــــــــــا براياته، مُستصرخًا و مناديا” تستقرُّ الذاتُ بين دائرتين متقاطعتين، دائرة الذّاكرة العربيّة المفجوعة في حاضرها و تاريخها، و دائرة الوجود و العدم الذي يستعصي على الإدراك٠ الذّاكرة مشلولةٌ لغياب الفعل، و الكون مُبهمٌ لسراب العقل و الذّات حائرةٌ تسكن “مدائن القلب” حيث السّكرُ ممزوجٌ بالعذاب و موعودٌ للقبر٠ عندما نُمْعنُ النّظرَ في الحقول الدّلاليّة لهذه العلاقة المتوتِّرة بين الذّات و الكون، نرى أنّ الموت يجمع بين صورتين، صورة التّاريخ العربيّ و صورة الوجود الإنسانىّ٠ لقد رصدنا في هذا النّشيد بِناءً سيميائيًّا مُعقَّدا تتشابك فيه أربعةُ جداولَ معجميّة، الأفعال / الصفات / الأسماء / الحالات٠ ــ جدول الأفعال يتصدَّرُ جدولَ الأفعال الفعل “رأى” (4 مرّات)٠و تتداعى الرّؤيا مع أفعال من نفس حقل الحركة الكاشفة ، ” أرسلتُ دمعي“، ” أقفو خطاها “، ” أمدُّ وصالي “، “ أقلِّبُ جرحي “، ” أصحو“، “ أعتلي “٠٠٠كأنَّ كلّ هذه الأفعال عينٌ باطنيّة ترصد حالةً غامضةً يحتضنها اللّيل٠ تنظر العينُ إلى النّجوم مناديةً كيانًا مُتخفِّيًا وراء العتمة فتسترسل التراتيل كحبّات المسبحة على إيقاع القوافي٠ البيت المفتاح لنافورة الأحزان هو “إذا ظمئتُ أحرقْتُ كل مراكبي و أرسلتُ دمعي في المجاري سواقِيا” هذه النجوم تفتح المناداة/المناجاة على مجازٍ مُرْسل لا ينتهي إلّا عندما يفيضُ النّشيد و تنتفض القوافي كالحمائم الجريحة و يمتزج الغناءُ بالدّماء٠ ــ جدول الأسماء تفتحُ الأفعالُ الرؤيا على أسماء العناصر، مشهدٌ حافلٌ بمخلوقات الكون تحرِّكه رغبة الشّاعر في تأثيث الفراغ بجماليّة الكون و ملْإ السّكون بأصوات الطّبيعة٠ نجد في هذا الجدول ” الأقمار / النّجوم / الطّير / الفصول / البهاء / الشّتاء / الرّياح / الأرض / الغيم / الغيوم / الموج / الأنوار / الصّدى ٠٠٠ ينسبُ الشّاعر إلى نفسه كلّ هذه العناصر، فهي عناصر كونيّة متّصلة برؤياه و نابعة من خياله٠ لذلك تُؤثِّت أُفُقَ المناجاة و تنعكس في الذّات تماما كما تنعكس الصّورة في المرآة٠ يُقابلُ جدولَ أسماء العناصر جدولُ أسماء الكيان في سِجِلٍّ واحد ، مراكبي / أعشاب قلبي / إشتعالاتي / ضيائي / سُكري / أقداحي / نوافلي / مدائن قلبي / أنواري / كبدي / حشاي / لحمي / دمائي / قبري / تواريخي / صراخي / جرحي / رمادي / حرائقي / دخاني / ندائي / رجائي / بهائي / شتائي / جراحي / أيامي ٠٠٠ من حرقة السّؤال و وجع المناجاة، تُشرف الرّوح تدريجيًا على عتبة الموت .فيردِّد الشّاعر ” مات صوتي مُكَفَّنًا “، ” الحُلمُ يخدعُني “، ” الحزن على صدري “٠٠٠ و نكتشفُ أنَّ النّجوم الغائبة هي رموز الذّاكرة العربيّة ” العراق / فلسطين / دمشق “، ذاكرةُ هُويّةٍ مخدوعة في ” بلاد الأعاريب ” و ” العلوج المخازي “٠ “عراق، فلسطين، و ما قد يليهم دمشقُ، ثِمارٌ أسقطوا من سلاليا و مازالت الحبَّاتُ تسقط هاهنا و في كلِّ فصلٍ كالقطوف الدّوانيا إلى أن سرى في الجذعِ داءٌ مدمِّرٌ فجفَّتْ فروعُ الغصنِ٠٠أصبح خاويا” في لحظة الوعي هذه بفراغ الذّاكرة ووحشة الكون، تصبح العلاقة بالوجود امتدادا في الزّمن لفكرة الموت، يتجلّى في القناع الذي يناديه الشّاعر” أبا جعفر المنصور“، قتيل الذّاكرة و شهيد النّشيد: “أبا جعفر المنصور يا ٠٠قتيلَنا لقد هدَّموا ما كنتَ للمجد بانيا مدائنُ قلبي شرَّعت لِرِياحِهِ نُواحَ طيورٍ شرَّدتْها الأغانيا لقد لَفَّني سِرْبُ الضبابِ وِزاره فراحتْ خُطايَ في الدروبِ الغواديا (٠٠٠) أما زِلتَ تمشي خلف ظِلِّي أخي لكي تُسلِّمني حَيًّا بأيدي الأعاديـــا تُقبِّلني، تهوي عليَّ مُعانقًـــــا ” فتسبِقُني يُمْناكَ عند التلاقيــــا” خاتمــة : لقد حاولنا تلمّس بعض عناصر الرّؤية الشّعرية التي كرّس لها عبد الله مشروعه الشّعريّ٠ تميّزت هذه الإقامة الرّمزية في القصيدة بمناخات الحزن و الوحدة اللّيليّة و بموقفٍ وجوديّ من فكرة الموت و الزّمن، موقفٌ يسعى إلى تأثيث مجالٍ حيويٍّ للاختلاف مع الموجودات و الائتلاف مع الوجود باعتباره حلماً مُستعصِيًا عن التّحقّق خارج الحالة الشّعريّة و فضاء القصيدة٠ إنها حالةٌ صوفيّةٌ للحضور في الغياب تُرفرِفُ مثل ” الفراشات الضّوئيّة ” ٠ و هكذا تقودُنا أحزانُ عبد الله إلى مفهومِهِ للشعر، إذ يقول :” الشعرُ كلامٌ خارج الكلام “، ” رمادٌ من فراشات النّار “، ” نزيفٌ من مياه الحكمة “٠ في ديوان ” هذه الجثّة لي “، تتَّضِح الصّورة أكثر في قوله: “قالوا أفصِحْ يا عبد الله ها أنتَ مُقيمٌ في الغيم و مُسْتَتِرٌ باللّغةِ المُرْتابة قال أفْصَحْتُ كثيرًا حتّى انكشف العظمُ وسال دَمُ ٠٠الكتابة “(ص 40 ) هو الشّعرُ عاشه عبد الله و كابدهُ مثل ” النّشيج العالي ” و “ الجرح في ذاكرة الوردة “، ” غيابٌ في وضح الظّلام ” و عين الرَّائي المُبْصِرةِ بالمعرفة الباطنيّة تتجوَّل بين رحاب الكيان و رحابة الكون : “أعرف هذا القمر الغائب هذا اللّيل الجاثم فوق الأرض لكِنّــــي أعرف من أين يجيء الطّير و من أيِّ جدارٍ ينبثقُ أعرف جرحي و أداويه أعرف موتي و أسَمّيه و إذنْ ٠٠٠ سَأُجرِّب تيهًا آخر موتا آخر٠٠٠ و أنادي هذه الجثّة لي هذا بعضُ رمادي” …………….. 1 – صدرت للشّاعر قبل ذلك سنة 1982 مجموعة بالاشتراك عنوانها لغة الأغصان المختلفة. 2020-01-17 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet