حسن نصر قصّاصا : دراسة تأليفيّة(1): نصّ المحاضرة التي ألقيتها يوم 2 ماي 2019 بدار الثّقافية المغاربيّة ابن خلدون في ندوة تكريم هذا الكاتب السّرديّ التّونسيّ : محمّد صالح بن عمر 3 نوفمبر,2019 تقتضي المقاربة الموضوعيّة لمنجز حسن نصر القصصيّ قبل كلّ شيء تنزيله في موضعه من المدوّنة القصصيّة التّونسيّة وتنزيل صاحبه ضمن أجيال القصّاصين التّونسيّين.ويتجسّد هذا المنجز في أربع مجموعات قصصيّة هي : ليالي المطر ( تونس 1967)(2) و52 ليلة (تونس 1979)(3)والسّهر والجرح(1989)(4) وخيول الفجر(1997)(5). ولعلّ أهمّ الأسئلة التي يثيرها ثلاث هي: 1)هل في هذا الإنتاج القصصيّ إضافات نوعيّة مقارنة بما أنشأه القصّاصون السّابقون؟ 2) هل فيه عناصر تميّزه عمّا أنشأه القصّاصون المجايلون ؟ 3) هل لازم صورة واحدة طيلة الفترة التي كُتِب فيها والتي تمتدّ على أربعين عاما أم هل طرأ عليه في أثناء هذه الفترة الطّويلة تطوّر مّا؟ 1- القصّة في تونس قبل بدايات حسن نصر: إنّ المجمع عليه هو أنّ القصّة بمفهومها الغربيّ الحديث قد ظهرت بتونس في بداية ثلاثينات القرن العشرين .ولعلّ أوّل قصّة تونسيّة باللّغة العربيّة من هذا القبيل هي قصّة ” استعباد البنين” لمحمّد عبد الخالق البشروش (1911 -1944)التي نشرت في العدد السّابع من “مجلّة العالم الأدبيّ ” الصّادر في سبتمبر 1930. ولقد نَحتِ القّصة التّونسيّة منذ تلك الفترة منحيين رئيسين : الأسبق تاريخيّا هو المنحى الرّومنسيّ – وقد انفرد بانتهاجه محمّد عبد الخالق البشروش – والثّاني هو المنحى الواقعيّ – وأبرز من سلكه علي الدّوعاجي(1909 – 1949) والبشير خريّف(1917 – 1983). ولئن ظلّ اللّون الذي كتب فيه البشروش مقتصرا عليه وحده أو يكاد ، فقد أغرى اللّون الواقعيّ معظم كتّاب القصّة من الثّلاثينات إلى اليوم.لكن تبلور في صلبه منزعان غالبان متباينان: أحدهما جسّده علي الدّوعاجي بتخصّصه في التقاط الاستثنائيّ والآخر البشير خريف باختياره تصوير النّموذجيّ. 2- بدايات حسن نصر (نهاية الخمسينات/نهاية السّتينات ) : ينتمي حسن نصر تاريخيّا إلى الجيل الأوّل من القصّاصين التّونسيّين بعد الاستقلال، أولئك الذين انطلقت محاولاتهم وتجاربهم قبيل هذا الحدث الوطنيّ اللاّفت أو بعده بقليل. وجلّهم ولدوا بين أواخر العشرينات ونهاية الثّلاثينات.ولعلّ أبرزهم محمّد فرج الشّاذلي(2014 – 1927) ومصطفى الفارسي (1931 -2008 ) ومحمّد رشاد الحمزاوي (1934 -2018)وعبد الواحد براهم (ولد سنة 1933)وعزالدين المدني(ولد سنة 1938 ). وقد انخرط أولئك الشّبان بأقلامهم في عمليّة بناء البلاد بعد رحيل المستعمر الفرنسيّ عنها، تحدوهم حماسة منقطعة النّظير كانت تسعّر جذوتها في نفوسهم ما رفعته الدّولة التّونسيّة الوليدة من شعارات وطنيّة وشعبيّة وما أقدمت عليه من إصلاحات واسعة النّطاق. فسخّروا فنّي القصّة والرّواية بمفهومهما الغربيّ التّقليديّ في تصوير مجتمع حديث العهد بالاستقلال يمرّ بفترة تحوّل ويسوده الصّراع بين القديم والحديث في كلّ المجالات والمستويات. ولقد كان دخول القصّاص الشّاب حسن نصر الوسط الأدبيّ من الباب الكبير، إذ نُشِرت قصّته الأولى بأهمّ دوريّة أدبيّة تونسيّة في ذلك العهد .وهي مجلّة “الفكر” التي أسّسها محمّد مزالي ( 1925 -2010) سنة 1955وساعده على إصدارها البشير بن سلامة حتّى لحظة توقّفها في سنة 1986. وكانت هيئتها تتألّف من أدباء يُعدّون وقتذاك من أكبر الكتّاب والشّعراء بالبلاد وكان يُطلق عليهم “كبار الحومة”.وهناك علامة مضيئة ثانية وسمت بدايات حسن نصر السّرديّة. وهي أنّ قصصه الأولى لفتت انتباه النّاقد الكبير محمّد فريد غازي فخصّص لها فصلا في كتابه الرّواية والقصّة في تونس الذي ألّفه باللّغة الفرنسيّة.(6). ويمكن القول إنّ القصّة التّونسيّة في تلك المرحلة غلب عليها التّوجّه الواقعيّ المبسّط بنوعيه: العدسيّ المرآويّ القائم على النقل المباشر عن الواقع المعيش ومحتمل الوقوع الذي تُتَخيّل بمقتضاه حكايات قابلة للحدوث في الواقع ما عدا عند عزّالدين المدني الذي مارس التّجريب منذ وقت مبكّر. وقد وُظّف ذلك التّوجّه بلونيه في تعزيز المجهود الوطنيّ العامّ المبذول وقتذاك لأجل بناء الدّولة الوليدة. فكانت أكثر الموضوعات المطروقة تواترا تدور حول العادات البالية والعقليّات المتخلّفة والاعتقادات الخاطئة وما يرتبط بها من مظاهر البؤس والجهل والمرض والانحلال الاجتماعيّ والتّدهور الأخلاقيّ. وهو ما جعل القصّة التّونسيّة في تلك المرحلة تنحو منحى إصلاحيّا غالبا.أمّا من النّاحية الفنّيّة فلم تتعدّ أن تكون بمنزلة العلامة الخالصة التي شرطها الأساس أن تتألّف من دالّ ومدلول تربط بينهما علاقة اعتباطيّة. وهو ما ينطبق على القصّة الواقعيّة الخالصة التي تفضي قراءتها إلى الكشف عن محتواها. وهو حدث مفرد أو مجموعة أحداث تُنقل كلّيّا أو جزئيّا عن الواقع أو يمكن أن تقع فيه. ولقد وقف القصّاص الشّاب حسن نصر بكلّ حماسة إلى جانب الجديد يناصره ويرجّح كفّته على كفّة القديم ،مسهما بقلمه في عملية التّغيير التي أقدمت عليها حكومة السّتينات . ولعل أحسن ما يصوّر هذا المنحى لديه قصّة”ثور خلفه أبي”(7) التي تروي حكاية فلاّح يوصي قبل موته ابنه بالحفاظ على الثّور الذي تستخدمه العائلة في الحراثة لكن الابن يقرّر بعد موت والده بيعه ليقتني بثمنه مضخّة ذات محرّك للبئر لأنّها أجدى لخدمة الأرض من الثّور. ومن المحاور الأخرى التي انشغل بها حسن نصر المآزق التي يقحم فيها القدرُ الكائنَ البشريَّ، كما حدث لهذه المرأة الشّابة الفقيرة المتزوّجة من رجل عاطل عن العمل التي تدخل المستشفى لمرض ألمّ بها فتفهم من عناية الطّبيب بها أنّه وقع في حبّها ويضرب لها بعد شفائها موعدا ظنّته فرصة ليصارحها بذلك الحبّ لكنّه أعلمها بأنّه وجد عملا لزوجها العاطل(8) وكتلك المرأة الفقيرة التي سهرت على تربية طفل من أبناء العائلات الميسورة ولمّا كبر وتزوّج أنجب بنتا فواصلت عنايتها بها كما فعلت من قبل مع والدها ، منافسة بذلك أمّها التي أنجبتها في الاهتمام بها (9) وكذلك الطّفل الذي يصيد سمكة كبيرة ويمضي في التّخطيط لما سيفعل بها كأنْ يُطلع عليها ابنةَ جيرانه ليريها إنجازه البطوليّ بكلّ فخر أو يسلّمها إلى أمّه وأبيه لكنّ السّمكة تتخلّص فجأة من الشّصّ فتذهب أحلامه سدى(10). لكنّ هذا التّوجّه القصصيّ سيثير ابتداء من نهاية السّتينات بعض التّساؤلات ،إذ سيكتشف القرّاء أنّ حسن نصر الذي لم يفصح في أيّ قصّة طيلة قرابة العشر سنوات الأولى من دخوله الوسط الأدبيّ عن موقف نقديّ من السّلطة ولو إيماء سيتحوّل فجأة إلى قصّاص ملتزم ينهال بالنّقد اللاّذع على الحكّام والمثقّفين التونسيّين والعرب بل حتّى على الشّعب التّونسيّ والشّعوب العربيّة قاطبة .فهل كان مهادنا للسّلطة ثمّ دبّ فيه الوعي بغتة فاستفاق؟ أم هل كان مقصّ الرّقابة مسلطا على نصوصه ؟ لا أحد يعرف الجواب إلاّ هو. 3- مرحلة الاستقلال بالذّات (من نهاية السّتينات إلى ما بعدها ): على كلّ حال ، من الجائز أن يكون حسن نصر قد أصيب في نهاية السّتينات بخيبتي أمل كان لهما أثر عميق في تغيير مساره القصصيّ وإكساب تجربته الفنّيّة والفكريّة أبعادا جديدة. ومنشأ تينك الخيبتين حدثان بارزان أحدهما على الصّعيد العربيّ – وهو هزيمة العرب في حرب حزيران 1967 – والآخر على الصّعيد المحلّي – وهو إعلان الدّولة التّونسيّة في نهاية السّتّينات فشل التّجربة الاشتراكيّة و تخلّيها عنها. فرّبما كان لهذين الحدثين دخلٌ في دفعه على تعديل رؤيته للواقع و البحث عن أسلوب جديد في الكتابة القصصيّة يكون ملائما لطبيعة المرحلة الجديدة التي انتقلت إليها البلاد وسائر الأقطار العربيّة وما تفرضه عليه من أداء دور مختلف من حيث هو مثقّف وكاتب لا من حيث هو قصّاص فنّان فحسب ، كما قد يفسّر هذا التّغيير بما اكتسبه حتّى ذلك الوقت من نضج فكريّ . ولئن بقي في مرحلته الثّانية ملازما للّون الواقعيّ الذي كتب فيه منذ بداياته فقد تميّز في استخدامه هذه المرّة بعنصر جديد هو رصد بؤر الإشكال السّياسيّة في كلّ المجالات والمستويات .وهو ما أتاح له توظيف فنّ القصّة في معالجة القضايا المصيرية الكبرى محلّيّا وعربيّا. ولمّا كان الوضع السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ محليّا وعربيّا لا يتوقّف منذ ذلك العهد أي نهاية السّتّينات عن التّدهور فقد غدا التّوجه الجديد الذي اختاره حسن نصر قارّا لديه بل نهائيّا، إذ لم يحد عنه تقريبا في كلّ القصص التي أودعها في مجموعاته القصصيّة الثّلاث اللاّحقة.وهكذ انتقل ،على الأقلّ ظاهريّا ،من كاتب رسميّ منسجم مع الصّورة التي حُدّدت للأديب عامّة في بلاده بعيد الاستقلال – وهي أنّه يباح له طرقُ كلّ الموضوعات التي يشاء وقول كلّ ما يريد أن يقوله ما عدا ما يمسّ السّلطة حتّى إيحاء ، إلى كاتب مستقلّ التّفكير، يسائل الواقع السّائد ويماحكه ويعرّي بؤر الوهن والتّناقض فيه ويحتجّ عليها بشدّة . ولقد اقترن هذا التّغيير العميق على صعيد الأغراض بتغيير مماثل في مستوى الأسلوب تجسّد في التّخلّي عن الخطاب المباشر وفي التّوظيف المكثّف لعنصرين رئيسين : هما الرّمزيّة والخارق اللّذان كثيرا ما يجتمعان في قصص واحدة من قصصه. 3 – 1: توظيف الرّموز في قصص مرحلة حسن نصر الثّانية : غالبا ما تجيء الأحداث المرويّة في قصص مرحلة حسن نصر الثّانية بسيطة في منتهى البساطة ،بعضها مستمدّ من الواقع اليوميّ وبعضها من صنع الخيال وقد يلتقي المستويان (الواقع والخيال) في قصص واحدة. ولبساطة هذه الأحداث قد لا يجد فيها القارئ غير المتمعّن ما يدعو إلى التّفكير وإعمال الرّأي. لكنّها ،في حقيقة الأمر، لا تكون، في أكثر الأحيان، مقصودة لذاتها وإنّما مجرّد علامات يتعيّن الانطلاق منها لبلوغ ما يرمي المؤلّف إلى معالجته من قضايا وما يروم التّعبير عنه من آراء ومواقف. ومن ثمّة لم تعد القصّة عنده مجرّد سرد لوقائع حدثت فعلا أو يمكن أن تحدث في الواقع كما كان الشّأن في نصوص مرحلته الأولى التي جمعها في كتابه ليالي المطر وإنّما أضحت تعبيرا علاميّا يتعيّن فكّ رموزه للوقوف على دلالاته. فإذا كان القارئ يجد في القصّة التّقليديّة الدّال والمدلول معا فإنّ المدلول في قصص حسن نصر بعد السّتينات ينقلب هو نفسه إلى دالّ يتعيّن البحث له عن مدلول. وتتجلّى بساطة الحادثة أوّلا في الموضوع المطروق (شخص يحلق ذقنه، طفل يلعب مع جدّه، عصفور يريد امتلاك قلب عصفورة) ،كما تتجلّى في السّرد والحوار اللّذين تحوّلا إلى إشارات خاطفة وفي الوصف الذي صار يقتصر على تصوير أقلّ ما يمكن من ملامح الشّخوص والأشياء. ولا عجب في ذلك ما دامت كلّ هذه العناصر والأدوات قد أصبحت مجرّد مطايا للتّعبير عن مواقف المؤلّف من واقعه وآرائه السّياسيّة والحضارية العامّة فيه . ولذلك فإنّ الأحداث اليوميّة قد تتحوّل إلى رموز لأحداث تاريخيّة أو سياسيّة وحالات الأفراد الاجتماعيّة قد تنقلب إلى رموز لحالات أو طبقات أو شعوب أو حتّى أمّة بأسرها. وقد تُستخدم للغرض ذاته الحيوانات كالطّائر والكبش والأخطبوط أو تُستغلّ الأسطورة. والمعلوم أنّ الرّمز – والمقصود به هنا الرّمز الأدبيّ دون سواه من أنواع الرّموز –علامةٌ مدلولُها هو نفسُه دالٌّ. فعند استعمالك الأسد،مثلا ،بمعنى السّلطان فهذا المعنى الثّاني يفيده المعنى اللّغويّ للفظ الأسد لا لفظ الأسد في حدّ ذاته ، لأنّ لفظ الأسد يدلّ على حيوان ضخم لاحم من جنس السّنوريّات فروُه بنفسجيٌّ يزينه عُرْفٌ (11)ومعناه هذا هو الذي يفيد معنى السّلطان. وهذا ينطبق تماما على القصّة الرّمزية، تلك التي لا يُقصد محتواها أي مجموع أحداثها وشخوصها لذاته بل يُتّخذ – وهو المدلول – دالاّ على مدلول آخر يحدّده المؤلّف ويوظّف النّصّ برمّته في إفادته. ولئن كان الدّافع على هذا الضّرب من الكتابة، كما أسلفنا، اضطرار الكاتب إلى التّخفي تفاديا للمحاسبة فإنّ هذا لا يمنع من إمكان وجود دافع آخر فنيّ متضافر معه .وهو الحرص على أداء المعنى من سبيل غير سبيل الإبلاغ المباشر. ولتتّضح لنا طريقة حسن نصر في توظيف الرّموز ليس ثمّة أفضل من تفحّص عيّنتين من قصص مرحلته الثّانية .وقد اخترنا لهذا الغرض قصّتي “الإحكاك بين الأصابع”(12) و” سفن في المضيق معطّلة”(13). 3 – 1 – 1: العيّنة الأولى : قصّة “الإحكاك بين الأصابع” : في قصة “الإحكاك بين الأصابع” يقدّم حسن نصر صورة لرجل أصيب بحُكاك شديد بين أصابع رجليه .فكان يستجيب له بالحكّ والدّلك إلى “أن تتعرّى القشرة وينزل الدّم” ثمّ ما إن تبرأ الخدوش حتّى يعاوده المرض ويرجع إلى الحكّ من جديد. ومع توالي الأيّام تعوّد على مرضه وصار يجد لذّة في الاستجابة له. هذه الحكاية الرّمزية اصطنعها حسن نصر لتمثيل حالة المثقّف العربيّ في السّبعينات. وهي حالة تقوقع على الذّات إلى حدّ التآكل نتجت عن تضافر عاملين أحدهما خارجيّ وهو الضّغط المسلّط عليه من المحيط السّياسيّ والاجتماعي والآخر داخليّ وهو عجزه عن المواجهة. فللرمز الرّئيس في هذه القصّة – وهو الإحكاك بين الأصابع- دلالة نفسيّة عميقة. ذلك أنّ أثر هذا الدّاء تطوّر من الألم إلى اللّذة، إلاّ أنّها لذّة مَرَضيّة. وهي المازوشيّة. ومن ثمّة فلهذا المرض ثلاثة وجوه أوّلها أنّه مظهر ضعف ودليل عجز عن حماية الذّات. يقول البطل في هذا الصّدد: “الإحكاك حالة تطرأ عليّ دون دخل منّي، مرض يلازمني غصبا عني وأعرف أنّها عادة لعينة لكنّها خارجة عن نطاقي”. وإذا كان المثقّف عاجزا عن حماية ذاته وإصلاحها فكيف يقدر على الدّفاع عن المجتمع ومعالجة أدوائه؟ و الوجه الثّاني للمرض هو ما يثيره في المريض من شعور باللّذة. وهو أشدّ خطرا عليه من الألم لأنّه يدفعه إلى الإبقاء على حالته بدل التّخلّص منها. يقول البطل في هذا المعنى : “أتعاطى (عادة الإحكاك) بشَرَهٍ شديد من غير أن أستطيع عنها فكاكا، تنزل عليّ كجمرة باردة، أحسّ بلذة مسكرة إلى حدّ الخدر”. والوجه الثّالث للمرض هو انعكاسه على الوعي والفكر والسّلوك. فعادة الإحكاك “مُسْكرة إلى حدّ الخدر” و””ممارستها تستغرق التّفكير” وتدفع المصاب إلى تحبيذ العزلة على الاختلاط بالآخرين حتّى أقرب النّاس إليه. يقول البطل لزوجته: “دعيني أعبُرُ محنتي وحدي، لا تفسدي عليّ أموري بتدخّلاتك الماكرة”، كما تظهره للنّاس في مظهر المنهار على شفا حفرة من الموت. وهو ما تجسّمه هذه الصّورة التي ترسمها له زوجته: “أنت تجرّ رجلك العرجاء وأنت تندفع في مشيتك وأنت تحسّ كتفك ينهدّ وتحسّ رأسك ينخلع وتحسّ بثقل حركاتك وتشعر بعجزك وقعودك وربّما تفقد بعد ذلك عملك وربّما ينتهي بك الأمر إلى الفقر ثمّ إلى التّسوّل … ربّما يصيبك العمى وتموت فقيرا وتموت جائعا وتموت أعمى وتموت كمثل الكلب وحدك على قارعة الطّريق وتدفن في جبّانة الغرباء”. فالزّوجة هنا، بما تضطلع به من دور تأنيبيّ، تمثّل الأنا الأعلى للبطل على حين يجسّد الإحكاك سلطان الهو على ذاته. وقد حُسمت هذه المواجهة سلبيّا بتغلب الهو على الأنا الأعلى ومن ثمّة سقوط البطل رمز المثقّف في هوّة الذّات السّحيقة المفضية تدريجيّا إلى الموت بدل أن يوظّف ملكاته وطاقاته الذّهنيّة في معالجة قضايا واقعه. وهكذا فقد نجح حسن نصر بفضل حسن استخدامه التّقنية الرّمزيّة في تصوير وضع المثقّف العربيّ داخل واقعه المتردّي. ولا شكّ في أنّ الإضافة اللاّفتة في هذه القصّة هي الطّريقة الجديدة التي اعتمدها الكاتب في ذلك التّصوير. وهي طريقة الاستبطان وسبر أغوار الذّات مع تمثيل عناصر الباطن بشخصيّات حيّة ناطقة. 3 – 1 -2: العيّنة الثّانية: “سفن في المضيق معطّلة”: يعالج حسن نصر، في هذه القصّة، قضيّة من أمّات القضايا التي شغلت الإنسان العربيّ بعد هزيمة حزيران 1967. وهي تردّي أوضاع العرب عسكريّا وسياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا ونفسيّا من جرّاء تلك الهزيمة. وإزاء تعقّد هذه القضيّة وتعدّد أبعادها واتّساع مختلف جوانبها – وهو ما تقصر القصّة القصيرة عن الإحاطة به عمليّا – اختار الكاتب تناولها بأسلوب رمزيّ. وذلك لما للرّمز من قدرة فائقة على تحقيق الاقتصاد اللّغويّ، بإتاحته التّعبير عن أكثر ما يمكن من المعاني بأقلّ كم لفظيّ ممكن. ولهذا الغرض ولج إلى تلك القضيّة الشّديدة الاتّساع من مدخل متناهي الصّغر. وهو الموضوع التّقليديّ: عودة المحارب من ساحة القتال. ولم يرو هذه العودة على نحو متسلسل بل جزّأها إلى لقطات خلط بينها خلطا شديدا إلى حدّ أن تحوّل الخطاب إلى ما يشبه الحلم أو هذيان شخص فاقد للوعي. وهو ما يستوجب تأويل عناصر هذا الخطاب لمحاولة الوقوف على مداليله البعيدة. تخضع هذه القصّة من حيث بنيتها لقواعد القصّة التّقليدية لا سيّما المقابلة والتّناقض والمفاجأة الختاميّة. فالمقابلة قائمة بين الشّخصيّة الرئيسة (وهي جنديّ عائد من الحرب) الواعية بمشكلات الواقع العربيّ وقومه المنشغلين عن تردّي ذلك الواقع، الخاضعة عقولهم للخرافات البالية، المنساقة نفوسهم وراء جامح غرائزها ومستعر أهوائها. والتّناقض جليّ بين القيم والمثل العليا التي يتمسّك بها البطل والواقع المتدهور الذي لا يسمح له بتحقيق تلك القيم والمثل. وهو ما جعل وضعيّته وضعيّة إشكاليّة بالمفهوم اللّوكاتشي للكملة. والحلّ (أو المفاجأة) هو تألب القوم على البطل ومطاردتهم إيّاه في آخر القصّة. لكن على الرّغم من توفّر هذه العناصر التي تعدّ من مقوّمات القصّة التّقليديّة فقد أبى حسن نصر أن يسير بالأحداث في خطّ مستقيم بل بنى قصّته على مقابلة ثانية جعلها تبدو الأهمّ في نظر القارئ. وهي المقابلة بين عالمين أحدهما في الماضي (الحرب في الصّحراء) والآخر في الحاضر (وهو حوار جرى بينه وبين قومه إثر عودته من الحرب). ولكي يتخلّص من قيود القصّة التّقليديّة التي تقوم على تسلسل الأحداث تسلسلا منطقيّا خلط بين ذينك العالمين بالتّداول على وصفهما جزءا جزءًا مستخدما الخطاب المباشر في الحديث عن الحاضر والومضة الورائيّة في استرجاع نتف متفرّقة من الماضي. وهكذا يجد القارئ نفسه إزاء بنية جديدة أشبه ما يكون لعبة البوزل. ولنبدأ بفصل الإشارات إلى كلّ من العالم الأوّل (الحرب في الصّحراء) والعالم الثّاني والتّنسيق بينهما: هذه الإشارات هي التّالية: صحراء – حرب – قضّى البطل أعواما غائبا عن موطنه – خدعته غزالة – الرّمال غاضبة – صور فظيعة من النّكبات التي حلّت بالجنود في الصّحراء (أرسلوا عليهم الكلاب تنهش مؤخّراتهم) – أزيز الطّائرات – انتهت الحرب بالهزيمة – الحرب هي حرب الأيّام السّتّة – البطل جنديّ شارك في هذه الحرب وعاد إلى قومه مهزوما. أمّا الإشارات إلى العالم الثّاني فهي أغزر: القوم فقراء مادّيّا ومعنويّا (خوابيهم فارغة – أيديهم فارغة – جيوبهم فارغة – نظراتهم فارغة) تسيطر الخرافات على أذهانهم (تحسبون أنّي درويش – تطلبون البركة) – يعوزهم الوعي بقضاياهم الحقيقيّة (الأسباب الحقيقيّة لا تحرّككم وتتحرّكون من أجل قشرة بطّيخ) نظرهم قصير محدود (لا يغّركم هذا الصّحو – في الجانب الآخر تتجمّع السّحب، تنذر بالعاصفة) – يتّصفون بالجمود الفكريّ وبلادة الذّهن، (قالوا له: أعد من البداية) – منساقون وراء عواطفهم (الحبّ، الحبّ، حدّثنا عن عيون الغزال). وهذا الانسياق، هو، في الحقيقة، تعويض وهروب من الواقع (إنّ نظراتكم مليئة بالخوف – الخوف = الجبن). وتنتهي القصّة بفشل البطل ،إذ يعتبره القوم مجنونا فيطاردونه إلى أن يختفي عن الأنظار. بعد هذا الوصف لبنية هذه القصّة لنحاول الوقوف على المعاني التي سعى الكاتب إلى التّعبير عنها فيها. إنّ لهذه القصّة صلة متينة بالواقع، إذ فيها إشارة صريحة إلى حدث تاريخيّ بارز بل هو من أبرر الأحداث التي عاشها العرب في تاريخهم المعاصر. وهو حرب الأيّام السّتّة ضدّ العدوّ الصّهيونيّ وهزيمة العرب فيها. فقد صوّر حسن نصر ،إلى جانب بعض المشاهد المجسّمة لصعوبة الحرب وما لقيه الجنود العرب في أثناءها من محن ونكبات ، الواقع العربيّ الأليم بعد الهزيمة، مركّزا وصفه على ثلاثة عناصر رئيسة هي: الشّعب والسّلطة وفئة المناضلين الواعين. فالشّعب، في نظره، غير واع بقضاياه الجوهريّة، منساق وراء أهوائه، خاضع للخرافات والأساطير، يعيش في عهد الظّلمات، تفصله عن عصر العلم والتّكنولوجيا قرون وقرون. ولذلك فهو أعجز ما يكون عن تغيير واقعه المتردّي والنّهوض من كبوته، كما أنّه يقف حجر عثرة أمام كلّ محاولة ترمي إلى إنقاذه وانتشاله من غياهب الجهل والتّخلّف التي يعيش فيها. أمّا السّلطة فإنّ “سفنها في المضيق معطّلة” (على حدّ قول الكاتب) أي مغلوبة على أمرها عسكريّا ولا طاقة لها بمواجهة العدوّ. بل هي تعوّض عجزها عن القيام بتلك المواجهة بـ”المحافظة على ربطة الكرافات في الأعناق، وعقد الصّفقات وإقامة السّهرات وقرع كؤوس الشّربات والابتسام في الاستقبالات والحفلات”. وأمّا المناضلون الواعون الذين يمثلّهم البطل فإنّهم، من خلال ما نلاحظه في هذه القصّة، قلّة قليلة تحاول التّوعية دون أن تفلح في مسعاها ،إذ ترفضها الجماهير وترميها بالجنون. أمّا من النّاحية الأسلوبيّة فلقد قامت القصّة ،كما رأينا في القسم الأولّ من هذه القراءة، على المقابلة في مواضع مختلفة (بين الماضي والحاضر – بين ساحة الوغى وواقع الجماهير العربيّة خارج المعركة – بين البطل الفرد وقومه الجماعة – بين وعي البطل وعدم وعي قومه). وقد صوّر الكاتب المقابلة الرّئيسة (الماضي / الحاضر) باعتماد طريقة التّوازي مع توفير صلة معنويّة ضمنيّة بين العنصرين المتوازيين – وهي تماثل بين الصّحراء وقومه في الجفاف والفقر- مقدّما إيّاهما بطريقة الكشف التّدريجي المتقطّع. أمّا السّرد فلم يجيء حدثيّا وصفيّا فقط بل فيه الكثير من ذات الكاتب وشاعريّته (“بي ظمأ إليكم شديد وشوق إليكم وحنين… أريد أن أرتوي” (“أزيز الطائرات شيء يحفر في داخلي بلا انتهاء”)، كما وفّر الكاتب وحدة مكانيّة: (جاءت القصّة على هيئة حدث واحد هو لقاء بين الجنديّ وقومه في مكان واحد. أمّا الصّحراء فقد تحدّث عنها في صيغة الماضي بالاعتماد على الذّاكرة) ووحدة زمنيّة: (البطل يتحدّث إلى قومه منذ انطلاق القصّة إلى أن لاحقوه وفرّ. أمّا الماضي فقد استرجعه من ذاكرته). لئن كان الموضوع الذي تناوله حسن نصر في هذه القصّة (وهو “عودة المحارب”) موضوعا تقليديّا فلقد استغلّه استغلالا جديدا بتحميله دلالات في منتهى العمق والشّمول وموظّفا إيّاه في تصوير وضعيّة العرب بعد الهزيمة عسكريّا وسياسيّا وشعبيّا. ومن هنا تتّضح نوعيّة الفنّ القصصيّ الذي اختار حسن نصر استخدامه بعد مرحلة “ليالي المطر” (1967). فلم يعد هذا الفنّ لديه حكائيّا وحسب أي يقوم على سرد وقائع من الواقع أو من الخيال لغاية التّرفيه أو الاعتبار أو الإصلاح أو النّقد الاجتماعيّ بل أضحت الأحداث فيه تُتَّخذ مطايا للتّعبير عن مواقف وقضايا سياسيّة وحضاريّة لا تتّسع القصّة العاديّة إلى معالجتها. ومن ثمّة نرى أن الأحداث والشّخصيّات صارت تُبسّط عنده إلى أقصى حدّ ممكن فتتحوّل إلى علامات دالّة على آراء الكاتب ومواقفه ،كما يتحوّل السّرد والحوار إلى إشارات تفي بالغرض نفسه. وبهذا يكون حسن نصر قد تجاوز في مرحلته الثّانية نهائيّا القصّة الكلاسيكيّة ،منتهجا مسلكا جديدا يمكن أن نسمّيه القّصة الإشارّية أو الرّمزيّة أو العلاماتيّة (Sémiotique) لا لمجرّد التّجديد بل لمعالجة قضايا جوهريّة لم تعدّ القصّة التّقليديّة تسمح له بمعالجتها على الوجه الأكمل. وهكذا فإنّ هذه القصّة: “سفن في المضيق معطّلة” أنموذج من قصص حسن نصر الرّمزيّة. وقد جاءت في شكل حكاية متداخلة الوقائع نتيجة المزج بين الزّمنين الماضي والحاضر واستخدام طريقة الكشف التّدريجيّ المتقطّع في تصوير المقابلة الرّئيسة التي أقيمت عليها البنية العامّة للأحداث مع تبسيط الوقائع والشّخصيّات والاقتضاب في الوصف والتّحليل والإمعان في الإيحاء. 3 -2: توظيف الخارق في قصص مرحلة حسن نصر الثّانية: ثمّة تقريبا عاملان اثنان هيّئا الأرضية الملائمة لاستخدام حسن نصر الخارق (Surnaturel) في قصصه بعد السّتينات ،أحدهما أنّ شخوصه الرّئيسة في هذه المرحلة صارت تتحرّك في محيط متدهور حاملة قيما سامية ومتعلّقة بمثل عليا غير قابلة للتّحقيق. فتُمنى مساعيها، من جرّاء ذلك، بالفشل الذّريع. هذا التّباعد بين المحيط المتوغّل في السّلب والصّورة المثاليّة التي ينبغي أن يكون عليها من وجهة نظر الشّخصيّة الرئيسة – وهي مفرطة في الإيجاب – لمن أهمّ العوامل المهيّئة لاستعمال الخارق. وذلك لأنّ الخارق ليس، في حدّ ذاته، سوى مظهر من مظاهر الإفراط في الإدراك أو التّخيّل. والعامل الآخر هو أنّ هذا الواقع يكون، من زاوية هذه الرّؤية، بمنزلة السّطح الذي تتوزّع على أديمه حُفَر متفاوتة الاتّساع والعمق. ولمّا كانت تلك الحفر هي التي تجتذب الانتباه وتستقطب الاهتمام لما تجسدّه من مواطن أدواء ومكامن تأزّم فإنّ الفرصة تكون متاحة لترجمتها إلى خارق. ونتيجة لتظافر هذين العاملين فإنّ الخارق في النّص القصصيّ لحسن نصر يخفي حيثما ورد إشكالا أو أزمة. وعلى قدر تعقّد الإشكال أو احتداد الأزمة يتحدّد جنس الخارق. فيكون إمّا خارقا للمعتاد وإمّا خارقا للطّبيعة. فالخارق للمعتاد هو النّادر. والنّادر قليل الوجود لكنّه حقيقيّ. من ذلك مثلا التفوّق الذّهنيّ أو الجسميّ للموهوبين والحركات السّحرية القائمة على الخداع والحيل والمخطّطات الفائقة الدّقّة التي يستخدمها كبار اللّصوص والمجرمين وتكون آثارها بمثابة الألغاز المستعصية على الحلّ. وقد اصطُلح على تسمية هذا الضّرب من الخارق “غريبا”(Etrange)(14). وأمّا الصّنف الآخر فهو كلّ ما لا وجود له أصلا في الواقع المحسوس كالفرس ذي الجناحين والزّربية الطّائرة والأفعى ذات الرّؤوس السّبعة والشّجرة ذات الثمار الذّهبيّة … وقد سُمّي هذا النوع من الخارق “بديعا”(Merveilleux)(15). هذان الصّنفان من الخارق يمكن أن يُستعملا كما هما: الأوّل في الرّوايات والأفلام البوليسيّة أو تلك التي تصوّر بطولات الجبابرة والعظام والآخر في قصص الأطفال. أمّا في القصّة والرّواية الفنّيّتين فإنّهما إن استخدما فيها وُظّفا توظيف سائر الأدوات كالسّرد والحوار والوصف وتيّار الباطن والومضة الورائيّة وما إليها. ومن هذه النّاحية يمكن اعتبار الخارق تقنية. لكنّ هذه التّقنية قد ترتقي إلى مستوى الفعل الإبداعيّ إذا كان الخارق ثمرة تخيّل محض وإذا تحقّقت به الملاءمة التّامّة بين الصّورة المتخيّلة والصّورة الواقعيّة التي يمثّلها أو يقحم فيها. لذلك فالبحث في إبداعيّة الخارق يقتضي النّظر في طبيعته أي في نوعه وطريقة إحداثه. أمّا الكشف عن مدى واقعيّته فإنّه يتطلّب تحديد وظائفه. 3 – 2 -1 : طبيعة الخارق في قصص مرحلة حسن نصر الثّانية : يتراوح الخارق، في قصص مرحلة حسن نصر الثّانية، بين “الغريب” و”البديع”. فمن النوع الأوّل يمكن أن نذكر قصّة “ضحكة الموت”(16). فهذه القصّة يعرف بطلها طرفة شديدة الإضحاك تقتل كلّ من يستمع إليها من فرط الضّحك. ولقد قبض عليه، ذات يوم، لتسبّبه في قتل شخص برواية تلك الطّرفة له. ويوم المحاكمة خيف على هيئة المحكمة ولسان الدّفاع والجمهور الحاضر من الطّرفة القاتلة إذا تلفّظ بها المتّهم. فتطوّع أحد المستشارين لسماعها منه همسا. ولكن ما إن سمعها حتّى انتابته نوبة من الضّحك أودت بحياته في الحال. فحُكم على صاحب الطّرفة بأن توضع على فمه كمامة مدى الحياة. فظلّ، على تلك الحال، إلى أن مات. وبقيت الطرفة القاتلة لغزا على مرّ السّنين. هذه الحادثة خارقة للمعتاد لا للطّبيعة، لإمكان موت الإنسان من فرط الضّحك وإن كان ذلك من قبيل النّادر. وتدرك الغرابة ذروتها بمحاكمة صاحب الطّرفة وقتله لأحد المستشارين ثمّ بموته هو نفسه وبقاء طرفته القاتلة لغزا محيّرا. أمّا في باب الخارق للطّبيعة فيمكن أن نتمثّل بقصّة “المائدة”(17). فهي تروي حكاية عائلة ثريّة تنعم في وجباتها اليوميّة الثلاث بالمآكل الفاخرة. وذات يوم اكتشف رئيسها أنّ ما يأكله يخرج منه صحيحا ناضجا. يقول حسن نصر على لسانه : “منذ وقت قليل أحسست بتوعّك في بطني، دخلت المستراح. إذا الأطعمة تخرج منّي صحيحة ناضجة كأنّ مصنعا ببطني يعيد تحويلها إلى مآكل جاهزة”(18). فيصارحه بقية أفراد العائلة بأنّهم يعيشون هذه الحالة منذ مدة طويلة. إذا تأمّلنا هذه الحالة الخارقة للطّبيعة والحالة السّابقة الخارقة للعادة وجدنا ثلاثة مواقف منهما متباينة: الأوّل هو موقف الكاتب الذي ليستا هما عنده سوى رمزين أيْ مجرّد صيغتين تعبيريّتين لمراوغة الرّقابة والثّاني هو موقف القارئ الذي لا يخفى عليه غرض الكاتب فيسعى انطلاقا من المعنى الظّاهر إلى الكشف عن المعنى الباطن والثّالث هو موقف الشّخصيّات القصصيّة التي عاينت الخارق في نطاق الحكاية المتخيّلية وعدته ظاهرة مخالفة للعادة أو للطّبيعة. وإذ سلّمنا بأنّ الشّرط الأساس الذي حُدّد لاعتبار الخارق “عجيبا” في النّصّ السّرديّ هو تردّد القارئ بين اعتباره خارقا حقّا أو وهْمَا(19) انتفى انتماء الخارق بنوعيه المستخدمين في قصص حسن نصر إلى هذا الصّنف. ولا يرجع هذا الانتفاء إلى التّوظيف الرّمزيّ للخارق فحسب بل إلى أنّ هذا الكاتب يقحمه مباشرة في الواقع ولا يسوقه في إطار حلم أو وهم أو حالة جنونيّة. ولكلا هذين السّببين ينتفي إمكان تردّد القارئ، إذ يدرك من البداية أنّ الخارق الذي يستخدمه الكاتب ليس خارقا حقيقيّا بل هو رمز. على أنّه وإن انتفى في قصص حسن نصر تردّد القارئ فإنّ الخارق فيها ليثير الدّهشة في مستويين : أحدهما لدى الشّخصيّة القصصيّة التي تصطدم به في عالمها الواقعيّ. من ذلك الطّفل لذي وُلد بأسنانه في قصّة “فضيحة”(20) والأخطبوط الذي زحف على القرية من البحر وجثم فوقها في قصّة “الأخطبوط”(21) والحريف الذي دلكه “الطّيّاب” في الحمّام ثمّ اعتصره ثمّ طواه ثمّ نشره على السّطح مع الثّياب في قصّة “العصر والنّشر”(22) والرّجل الذي تحوّل إلى كتلة من العجين ثمّ إلى خبزة في قصّة “سرقوا معطفي وألقوني إلى اللّيل” (23) والرّجل الذي تحوّل إلى طبل صار يقرعه المارّة في قصّة “الأحدب الجوّال”(24) .أمّا المستوى الآخر فهو يتحدّد لدى القارئ الذي وإن كان لا تفوته الوظيفة الرّمزيّة لمثل هذه الظواهر الخارقة فإنّها تثير دهشته وذهوله لا من حيث احتمال حدوثها في الواقع مثلما قد يذهب إلى ذلك ذو التّفكير السّاذج أو الخرافيّ بل من جهة القدرة التّخيليّة الفائقة التي أبدعتها. وفي ظنّنا أنّ شرط التّرّدد الذي حُدّد لاعتبار الخارق عجيبا لا يمكن أن يتوفّر إلاّ إذا كان القارئ على درجة ما من السّذاجة. وهو ما لا ينطبق على قارئ القصّة والرّواية الفنّيّتين في هذا العصر على الأقلّ. وهذا هو السّبب الذي جعلنا نفضّل الحديث، في هذه المداخلة، عن الخارق بدلا من “العجيب”. 3 -2 -2 :طرائق إحداثه: لقد استخدم حسن نصر في قصصه أربع طرائق رئيسة في إحداث الخارق هي التّحويل والإقحام والعدول وإنشاء القصص الخرافيّ والحيوانيّ. 3 -2 – 2 -1: التّحويل: يمكن التّمييز في قصص حسن نصر بين ثلاثة أنواع من التّحويل المستعمل في توليد الخارق هي: تحويل الماهية و تحويل الوظيفة و التّحويل إلى الضدّ أو القلب. فتحويل الماهية يعترضنا مثلا في قصّة “سرقوا معطفي وألقوني إلى اللّيل”. ففي هذه القصّة يهمّ شرطيّ بإلقاء القبض على رجل حافي الرّجلين لأنّه شتم رجلا ذا حذاء لمّاع. فما إن مسك بذراعه حتّى تحوّل إلى عجين ثمّ امتدّ هذا التّغيير تدريجيّا إلى بقيّة أعضاء الجسم حتّى تحوّل الجسم كلّه إلى كتلة من العجين اتّخذت، في النّهاية، شكل خبزة. وأحيانا يكون التّحويل جزئيّا، كما في قصّة “العيون الكبيرة” (25) حيث تثير عينا البطل المفرطتا الاتّساع استغراب النّاس ثمّ يتطوّر استغرابهم إلى خوف فيتحامونه. فإذا بعينيه تتضاءلان إلى أن تمّحيا تماما ويصبح موضعاهما أملسين مصقولين، بلا أشفار ولا حواجب كأيّ قطعة من الخدّ. وتعترضنا التقنية نفسها في قصّة “ماناج”(26) حيث يمارس البطل ورفيقة له لعبة المرايا .وعند فراغهما منها ينظر كلّ منهما إلى الآخر. فإذا هما بلا وجهين. أمّا تحويل الوظيفة فقد استخدم ،مثلا، في قصّة “العصر والنّشر” حيث يمعن “طيّاب” داخل حمّام في دلك جسم حريف ثمّ يعتصره بشدّة ثمّ يطويه كما يُطوى الثّوب ويصعد به إلى السّطح فينشره في الرّيح ليجفّ. فالحريف ، كما نرى ، بقي رجلا إلى آخر القصّة ولم يتحوّل إلى ثوب بل اكتسب خاصّة من خواصّ الثّوب وهي قابليّته للطيّ والنّشر. وأمّا التّحويل إلى الضدّ أو القلب فقد استخدمه حسن نصر ، مثلا، في قصّة “الرّجل وابنه وحماره”(27) التي تنتهي بحمل البطل وابنه حمارهما على ظهريهما بعد أن جرّبا ركوبه طبقا لكلّ الأوضاع الممكنة: الواحد بعد الآخر معا ثمّ سيرا على الأقدام إلى جانبه. ولم يسلما، في كل مرة، من انتقاد النّاس وتعاليقهم المؤذية. فالخارق، في هذه القصّة، من جنس “الغريب” أي المخالف للمعتاد. وقد تحقّق بقلب العادة إلى نقيضها. وذلك بتحويل الرّاكب إلى مركوب والمركوب إلى راكب. 3 -2-2- 2: الإقحام: يتحقّق الإقحام باستجلاب العنصر الخارق من خارج فضاء الحكاية وحشره فيها. ومن أمثلة ذلك، الأخطبوط العظيم الذي يخرج من البحر ويزحف على القرية في قصّة “الأخطبوط”(28) والطّائر الغريب الذي يهاجم مرّة في السّنة مدينة “ق” ليقتل ساكنا واحدا من سكّانها ثمّ يعود من حيث أتى في قصّة “طائر الرّعد”(29) والبعوض الذي يداهم المدينة ويخترق أجهزتها الدّفاعيّة المكوّنة من العساكر والأسلحة الثّقيلة ويعيث في شوارعها ومؤسّساتها ومنازل أهلها فسادا في قصّة “البعوض”(30). وبطبيعة الحال يختلف الموضع الذي يقحم فيه الغريب من قصّة إلى أخرى. ففي قصّتي “الطّائر الرعد” و”البعوض” يُقحَم الخارق منذ البداية وفي قصّة “الأخطبوط” تنطلق به العقدة. 2-2-3 -3: العدول عن السّائد: إنّ العدول عن السّائد هو الطّريقة المثلى في إحداث “الغريب” لأنّ هذا الضّرب من الخارق يستمدّ وجوه من الواقع باعتباره عنصرا من عناصره لكنّه ليس سوى مظهر من مظاهر الشّذوذ فيه على حين يكون الخارق للطّبيعة دخيلا على الواقع ومناقضا له جوهريّا. ومن أمثلة استخدام هذه التّقنية ما أتاه بطل قصّة “الحصار”(31) من حرق حذائه في شارع الحرّيّة، فيتحلّق حوله المارّة مستغربين صنيعه ورامين إيّاه بالشّذوذ. ويُقْبل الشّرطيّ ويهمّ بإيقافه لكنّه لا يعثر في مذكّرته على قانون يمنع الإنسان من حرق حذائه في الطّريق العامّ فيبقى الحاضرون يتفرّجون على الحذاء وهو يحترق. فالغريب قد تحقّق، في هذه القصّة، بالعدول عن العادة والعرف. وتفسيره أنّ البطل أراد أن يطبّق مفهومه للحرّيّة. وهو حقّ الإنسان في القيام بكلّ ما لا يتعارض مع القانون حتّى إن خالف العرف. 3 – 2 -2 -4 : إنشاء القَصّص الخرافيّ والحيوانيّ: إنّ الطّريقة الأكثر تداولا في استخدام القَصَص الخرافيّ والحيوانيّ لدى القصّاصين والرّوائيّين المعاصرين هي انتخابه من التّراث المحليّ أو الإنسانيّ وتحميله دلالات تحيل على الواقع المعيش في العصر الحديث. وهي طريقة في الكتابة عسيرة جدّا لما تتطلّبه من تحقيق المطابقة التّامّة بين الحكاية التّراثيّة والوضع الذي يراد تمثيله بها. ويمكن القول إنّ عز الدّين المدني من الكتّاب السّرديّين والمسرحيّين العرب القلائل الذين نجحوا في تطبيق هذه الطّريقة. ولكن حسن نصر لا يستهويه الاقتباس بل يفضّل إنشاء القصّة الخرافيّة أو الحيوانيّة بنفسه. وإنّ هذا لينطبق على كلّ القصص التي كتبها في هذا الباب منها: “عصفور طار في الجوّ” ، “طائر الرّعد” ، “مملكة الطّيور” ، “ابن الملك” ، “لو كنت ملكا” ، “وطن العصافير” ، “في قبضة الذّئاب” ، “النّشر” ، “النّورس”. فإنشاء هذا النّوع من القَصَص هو ضرب من التّرجمة سرديّا عن وضع اجتماعيّ أو سياسيّ. ولئن كان لا يثير، بسبب ذلك، دهشة القارئ وذهوله لعلمه مقدَّما بالطّبيعة الرّمزيّة للقصّة الخارقة التي يقرؤها فإنّه يشدّ اهتمامه بما يجمله من ألغاز تدعو إلى التّفكير والبحث. وعلى قدر اكتشاف المطابقة بين الخارق الرّمز والمرموز إليه في الواقع يكون إعجاب القارئ وانبهاره. ولضيق المجال هنا نكتفي بسوق مثال واحد هو قصّة “في قبضة الذّئاب”(32). ففي هذه القصّة يخون البطل – وهو خروف – القطيع الذي ينتمي إليه. وذلك بأن يتحوّل إلى الإقامة مع مجموعة من الذّئاب ويدلّها على المسالك المؤدّية إلى رفاقه. وذات يوم، يثوب إلى الخروف الخائن رشده. ويندم على صنيعه. فيحاول الفرار من قبضة الذّئاب. لكنّها تتفطّن إليه وتفترسه. ومثلما نرى فإنّ الخارق في هذه القصّة لم يُستجلب من خارجها كما أنّه لم يتحقّق بإجراء تحويل كلّيّ أو جزئيّ على عنصر من عناصرها. وإنّما صُمّم على هيئة عالم خياليّ متكامل ترتقي فيه الحيوانات إلى رتبة البشر. فتكتسب قدراتهم الذّهنيّة ومهاراتهم اللّغويّة. وتحذق تصرّفهم الواعي. 3 – 3: وظائف الخارق: يؤدّي الخارق في قصص حسن نصر ثلاث وظائف رئيسة: إحداها تفخيميّة وأخرى تمثيليّة وثالثة جماليّة. أمّا الوظيفة التّفخيميّة فالمقصود بها هو الدور الذي يضطلع به الخارق في تهويل الظّواهر أو الأحداث أو مظاهر السّلوك أو أحجام الكائنات و ما إليها. ففي قصة “فريبري”(33) ، مثلا ، تشتري البطلة صالحة – وهي بنت فقيرة الحال – ثوبا أمريكيّا مستعملا من سوق الأدباش القديمة. وحين تعود إلى البيت تلبسه. فإذا هو يضغط عليها بشدّة ثمّ يتلوّى على جسدها كالثّعبان ويفترسها. وعندما يهرع الأهل والجيران والطّبيب “يقفون مدهوشين والفزع في عيونهم ينظرون إلى الثّوب الذي أكل الفتاة وانتصب على السّرير منتفخا متكبّرا وقد اكتسى لونا أحمر قانيا جذّابا … كان الثّوب وحده على السّرير ولم يكن معه شيء آخر”(34). فالتّهويل، في هذه الحكاية، يصيب أثر الثّوب في البنت محوّلا إيّاه من مجرّد الضّغط إلى الافتراس. ولا تخفى على القارئ الفطن الدّلالة الرّمزيّة لهذا التّهويل. وهي إبراز النّتائج الوخيمة للتّبعيّة. وفي قصّة “الأحدب الجوّال” يخفق البطل – وهو الحامل لهاتين الصّفتين – في استمالة النّاس بخطابه الجدّيّ التّوعويّ. وحين تتقدّم به السّنّ ويصيبه الهرم ينقطع عن مخاطبة النّاس ويتفرّغ لمخاطبة نفسه. لكن سرعان ما يملّ الحديث إليها. فيسكت تماما. ويتحوّل إلى طبل. فإذا بالنّاس بعد أن كانوا يُعْرضون عن خطابه يتهافتون على قرعه للاستمتاع بصدى دويّه الخاوي. وإذا فهمنا أنّ الخارق هنا – وهو التّحوّل إلى طبل – رمز لتخلّي المثقّف الواعي عن خطابه الرّاقي أدركنا أنّ وظيفة هذا الخارق هي تهويل الوضع السّلبيّ للمثقّف المتخلّي عن دوره بتحوّله من فاعل إلى مفعول. وفي قصّة “الوجه الغائب”(35) يكتشف البطل ذات صباح – وهو مثقّف تونسيّ حلّ بنزل من نزل الحمّامات للمشاركة في ندوة عالميّة – أنّ صورته لا تظهر في المرآة. وعبثا تنقّل بين مرايا كثيرة إلاّ أنّ النّتيجة كانت واحدة. فصرخ في الوفود الحاضرة قائلا: “أليس من حقّي أن تكون لي صورة في المرآة مثلكم في عصر الصّورة هذا؟ .. لا أراكم تقبلون أن تندثر صورة واحد منكم. فكيف تسمحون أن يعيش إنسان بينكم بلا وجه وبلا صورة ؟”. هذه الحادثة المخالفة لقوانين علم البصريات تباغت القارئ بجدّتها أي بطابعها الإبداعيّ الصّرف حتّى وإن كان يعلم أنّ دلالتها رمزيّة وهي فقدان الهويّة. وفي قصّة “الموناليزا الجديدة” (36) يصاب زائرو متحف اللّوفر ذات يوم بالذّهول وهم يبصرون صورة الموناليزا في لوحة الجوكوند تتحوّل إلى عجوز شمطاء من تلقاء نفسها أي دون أدنى تدخّل من أحد. ويفسّر بعض الحاضرين هذا التّغيير العجيب بأنّه من عمل حاسوب موجّه عن بعد. فيفزع الجميع إلى خارج القاعة راكضين صارخين. هذه القصّة مدهشة، أيضا، رغم أنّ القارئ لا يفوته مغزاها العميق. وهو خطر الآلة على الإنسان. وفي هذا يقول الكاتب على لسان إحدى الشّخصيّات : “‘إنّهم قادرون بهذه الآلة على إفساد العقل، بإدخال خلل على نظامه أو تغيير وجهته أو تبديل شكله كلّيّا أو جزئيّا أو تدميره بالكامل”(37). فوظيفة التّهويل التي يؤدّيها الخارق في هذه الأمثلة هي الانتقال بمظاهر السّلب في الواقع المعيش من صورها الحقيقيّة إلى صور خياليّة مدهشة، للإيحاء بأنّ الواقع قد استحال في بعض جوانبه خيالا إن لم يتجاوز الخيال العاديّ أحيانا. وأمّا الوظيفة التّمثيليّة فتؤديها ، كما أسلفنا ، القصّة المصوغة على هيئة حكاية خرافيّة أو حيوانيّة. ومن ثمّة فليس الخارق في هذا النّوع من القَصَص سوى صيغة تعبيريّة تُصمَّم لترجمة الواقع قصد التّطرّق إلى بعض الممنوعات من سبيل غير سبل الخطاب المباشر أو للإيحاء إمّا بتردّيه وإمّا بخضوعه لمنطق الخرافة. وهو أيضا مظهر من مظاهر التّردّي. ففي قصّة “النّسر”(38) تجد حمامة وديعة فجأة نفسها مستهدفة لخطرين محدقين: أحدهما هجوم نسر عليها من عل والآخر فوهة بندقيّة صيّاد مسدّدة صوبها من الأرض فترتمي بين يدي الصّيّاد، مفضّلة الموت بطلقة ناريّة على أن تمزّق بمخالب النّسر ومنقاره. وقد تكون هذه القصّة الحيوانيّة كُتبت لتمثيل الوضع المأسويّ الذي تتخبّط فيه الشّعوب الضّعيفة في ظلّ التّنافس الحادّ الشّرس بين القوى الإمبرياليّة لأجل الظّفر بها. وتعترضنا الدّلالة نفسها تقريبا في قصّة “النّورس” (39) حيث تصيد سمكة “سردين” صغيرة دودة وتقتات بها. لكن نورسا يهجم على السّمكة ويطير بها في الجوّ إلاّ أنّها تسقط من فمه فتعود إلى الماء فتستقبلها سمكة عنبر كبيرة فاتحة فاها وتزدردها. والملاحظ، هنا، أنّ أكثر القصص الحيوانيّة التي كتبها حسن نصر شخصيّاتها طيور. وهي قد تستدعي بحثا خاصّا. وأمّا الوظيفة الجماليّة فمردّها إلى أنّ الخارق في القصّة أو الرّواية الفنّيّة ، كما سبق أن ذكرنا ، تقنيةٌ. لكنّ هذه التّقنية ذات خصوصيّة، لما تستدعيه من توفّر القدرة التّخيّليّة لدى السّارد. وذلك لأنّ الخارق إمّا أن يُقتبَس من التّراث وإمّا أن يُبدَع تماما. وفي كلتا العمليّتين صعوبة فائقة لأنّ نجاحهما يتوقّف على مدى مطابقتهما للواقع المراد تمثيله. وبتحقّق هذه المطابقة يحصل إعجاب القارئ وانبهاره. لذلك يمكن القول إنّ المظهر الأوّل لجمالية الخارق هو هذه المطابقة. فتحوُّلُ الرّجل المثقّف الواعي إلى طبل، مثلا، صورة تبهر القارئ، رغم علمه المسبق بأنّها مجرّد رمز. ومصدر انبهاره هو الدّلالة الرّمزيّة الشّائعة لقرع الطّبل على المدح المغالى فيه. فيجد مطابقة تامّة بين الصّورة المنقولة أي الواقعيّة والصّورة المنقول إليها أي الخارقة. وثمّة مظهر آخر مهمّ من مظاهر توظيف الخارق لغرض جماليّ هو استغلاله في توفير الغموض الضّروريّ للعقدة وإحداث المفاجأة اللاّزمة في الخاتمة. ففي قصّتي «الحصار” و”العيون الكبيرة” يحدث الخارق منذ الأسطر الأولى، مسهما بذلك في انطلاق العقدة. أمّا في قصص “الرّجل وابنه وحماره” و”فضيحة” و”عصفور طار في الجوّ” فإنّ الخارق يبرز فجأة في آخر القصّة محدثا المفاجأة الختاميّة. وخاتمة القول في هذا العنصر أنّ الطبيعة الرّمزيّة لقصص حسن نصر في مرحلته الثّانية جعلته يوظّف الخارق بنوعيه : الغريب والبديع في التّعبير عن الواقع من سبيل غير سبل الإبلاغ المباشر. وتلك الطّبيعة الرّمزّية هي التي ألغت الحاجة إلى استخدام تقنية “العجيب” لما توجبه من تقديم الظّواهر الخارقة في إطار حلم أو وهم أو حالة جنونيّة واللّعب على تردّد القارئ بين عدّها خارقا حقيقيّا أو وهما. والمعلوم أنّ تقنية العجيب هذه يمكن أن تُتّخذ منفذا إلى العالم الباطنيّ لمنشئ الخطاب السّردي فتكونَ قراءة هذا الخطاب نفسانيّة. أمّا الخارق المستخدم في قصص حسن نصر المنتمية إلى مرحلته الثّانية فقيمته فكريّة في المقام الأوّل لأنّ الغرض منه هو نقد الواقع السّائد. ولهذا السّبب يمكن وصفه بالخارق الواقعيّ. ولمّا كان في معظمه من إنشاء المؤلّف أي غير مقتبس من التّراث فقد نعتناه أيضا بالخارق المبدَع. خاتمة : تلك هي في تقديرنا الملامح العامّة لمسيرة حسن نصر القصصيّة التي امتدّت على قرابة الأربعين عاما، من نهاية الخمسينات إلى أواخر التّسعينات. وهي تتّسم بتحوّل فجئيّ عميق طرأ عليها في نهاية السّتينات فمن جهة الفنّ انتقل هذا الكاتب كلّيّا ونهائيّا من القصّة الكلاسيكيّة الموباسّانيّة التّيموريّة إلى القصّة الرّمزيّة .أمّا على صعيد الأغراض والموضوعات فقد تحوّل من الوفاق مع الواقع السّائد إلى مماحكته ونقده نقدا صارما من جهة المضامين . وهذا الانقلاب على صعيدي التّقنية والأغراض أملته عليه ، في ما يبدو، التّحوّلات السياسيّة و الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي حدثت في تونس وسائر الأقطار العربيّة في أواخر السّتينات وتواصلت في العشريّات اللاّحقة . وبهذا يكون حسن نصر قد تجاوز نهائيّا بعد مرحلة البدايات القصّة الكلاسيكيّة وانتهج مسلكا جديدا في الفنّ القصصيّ قد تصحّ تسميته بالقصّة الإشاريّة أو العلاماتيّة لا لمجرّد التّجديد بل لمعالجة قضايا جوهريّة لم تعد الظّروف تسمح له بمعالجتها جهرا وصراحة. هوامش : 1 – تناولتُ تجربة حسن نصر القصصيّة في مناسبات متباعدة وفي دراسات متفرّقة صدر بعضها في السّبعينات وبعضها الآخر في الثّمانيات و التّسعينات والعشريّة الأولى من هذا القرن.وقد سعيتُ في هذه المرّة إلى القيام بعمليّة تأليفيّة تغني القارئ عن العودة إلى دراساتي السّابقة وتمكّن أبناء الجيل الجديد ممّن لم يطّلعوا على مجمل قصص هذا الكاتب من الحصول على فكرة عامّة عنها . 2 – حسن نصر، ليالي المطر،الدّار التّونسيّة للنّشر ، تونس 1967 3 -حسن نصر، 52 ليلة، منشورات الجديد ، تونس 1979 4 – حسن نصر، السّهر والجرح، الدّار التّونسيّة للنّشر،تونس 1989 5 – حسن نصر، خيول الفجر،دار اليمامة، تونس 1997 Férid Ghazi, Le roman et la nouvelle en Tunisie, MTE, Tunis 1970 – 6 7 – حسن نصر، قصة”ثور خلّفه أبي”، مجلّة”الفكر”، السّنة 6،العدد 7 أفريل 1961 ص ص 74-77 8 – حسن نصر،قصّة”أ أبتسمُ غدا؟”، مجلّة”الفكر”، السّنة 6،العدد 5 فيفري 1961 ص ص84 – 89 9 – حسن نصر، قصّة” الطّفلة والعجوز “، مجلّة”الإذاعة ” ،العدد 15 ، 29 نوفمبر 1959 ص ص23 -24 10 – حسن نصر، قصّة” الطّفل والسّمكة”، مجلّة”الفكر”، السّنة 5،العدد 6 مارس 1960 ص ص 61 -63 Guiraud (Pierre),La sémiologie, coll. « Que-sais-je »,Presses universitaires de France,Paris 1971p 34 – 11 12 – حسن نصر، قصة “الإحكاك بين الأصابع”، 52 ليلة ص ص 76 -77 13 – حسن نصر، قصّة “سفن في المضيق معطّلة “، المصدر نفسه ص ص 14 –18 14 – Todorov(Tzvetan),Introduction à la littérature fantastique, Editions Du Seuil ,Paris 1970 pp 45 -62 15 – ibid même chapitre 16 – حسن نصر، السهر والجرح ص ص 25 -28 17 -المصدر نفسه ص ص 21 -24 18 – المصدر نفسه ص 28 19 – Todorov(Tzvetan),Introduction à la littérature fantastique, pp 37 -38 fantastique, pp 37 -38 20 – حسن نصر، 52 ليلة ص ص 62 -63 21 – المصدر نفسه ص ص 89-90 22 – المصدر نفسه ص ص 12-1313 23 – -المصدر نفسه ص ص 64-66 24 – المصدر نفسه ص 68 25 -حسن نصر، السهر والجرح ص ص 98-64 26 – المصدر نفسه ص ص 72-73 27 -حسن نصر، 52 ليلة ص ص105 -107 28 – المصدر نفسه ص ص 89-90 29 – المصدر نفسه ص ص 60-61 30 – حسن نصر، السهر والجرح ص ص 18-20 31 – حسن نصر، 52 ليلة ص ص 83-84 32 – المصدر نفسه ص ص 111 -112 33 – المصدر نفسه ص ص 97-98 34 – المصدر نفسه ص 98 35 – حسن نصر،خيول القجر ص ص 5-9 36 – المصدر نفسه ص ص 11-15 37 – المصدر نفسه ص 14 38 – حسن نصر، السهر والجرح ص ص 67-68 39- حسن نصر، 52 ليلة ص ص 83-84 2019-11-03 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet