سرديّاتُ رجلٍ فِي إناءٍ يرشحُ : سرديّاتٌ شعريّةٌ: محمّد بوحوش- توزر- تونس 26 أبريل,2019 محمّد بوحوش – كم ْكانَ متصالحًا معَ نفسهِ!، يستيقظُ صباحًا، ويلقِي بنظرةِ فرحٍ علَى حديقتهِ الصّغيرةِ… يقولُ: عمتِ صباحًا أيّتهَا الشّجرةُ، عمتِ صباحًا أيّتهَا الأغصانُ والورودُ والأزهارُ والنّباتاتُ، عمتَ صباحًا أيّهَا النّورُ والماءُ والنّسيمُ… كانَ يعتقدُ أنّهُ غصنٌ منْ تلكَ الشّجرةِ، أوْ هوَ جزءٌ منْ روحِ تلكَ الحديقةِ. – كأيِّ محاربٍ شُجاعٍ سيمْضِي إلى الحربِ برباطةِ الجأشِ، وسيطلقُ الرّصاصَ علَى عدوّهِ الموتِ، سيحيَا… هلْ قالَ حقًّا: سيحيَا؟… – كلّمَا مشَى في طريقٍ إلاَّ وارتطمَ بصخْرةٍ، كمْ كانتْ طريقهُ صخريّةً دومًا!، وكمْ مرّةً، على صخرةٍ، تهشّمَ رأسهُ !، لكنّهُ ظلَّ يمشِي… – كمْ كانَ صبورًا!، صبورًا كالجملِ، كمْ كانَ غيمًا وبرقًا خلّبًا! يخيطُ أيّامهُ يومًا فيومًا، ليؤلّفَ عمرًا، أوْ يؤلّفَ بدعةً. – لم يكنْ حطّابًا لكنْ عنَّ لهُ أنْ يجمعَ حطبًا قليلاً ويشعلَ فيهِ النّارَ، الواقعُ أنّهُ لم يجدْ ما يحتطبُ، فجمعَ أعضاء ًكثيرةً، أيْ إنّهُ جمعَ أعضاءَ الحكومةِ وبلاَ رحمةٍ أو شفقةٍ، ألقَى بهمْ في موقدِ النّارِ، وظلَّ يحتطبُ قلبهُ. – هوَ متفائلٌ دومًا، بلْ هوَ مفرطٌ فِي البهجةِ… دائمًا يحاولُ أن يصلَ قلبهُ بكذبةٍ. – لم يكنْ كلبًا، بل ْكانَ شبيهًا بكلبٍ أحمقَ كانَ يجلسُ تحتَ زيزفونةٍ، كانَ يلهثُ، كانَ يبحثُ عنْ ظلٍّ يقيهِ من نفسهِ الأمّارةِ بالقيظِ. – خيّلَ إليهِ أنّهُ دخلَ زجاجةً، أوْ هوَ دخلهَا فعلاً، وحاولَ مرارًا أنْ يخرجَ فعلقَ بعنقهَا، حاولَ أنْ يكسرَ الزّجاجةَ فتكسرتْ عظامهُ الهشّةُ. – كانَ دائمًا يشعرُ بيدٍ تجذبهُ إلى الوراءِ، رغمَ أنّهُ لمْ يكنْ يبالِي بهَا أوْ يلتفتْ إلَى الخلفِ، اليدُ تلكَ يعرفهَا، ويحفظهَا عنْ ظهرِ حزنٍ، إنّهَا يدهُ التي تركهَا خلفهُ ذاتَ حربٍ. – الفراغُ: أنْ لاَ تستطيعَ قولَ شيءٍ أوْ فعلَ أيِّ شيءٍ، الفراغُ أنْ تظلَّ واجمًا كعلامةِ استفهامٍ، أو علامةِ تعجّبٍ… الفراغُ أنْ تظلَّ تدورُ في إناءٍ فارغٍ، وأنْ تشعرَ بأنّكَ لاشيءَ، وحريٌّ بكَ أنْ تلقِي بنفسكَ في سلّةِ المهملاتِ، أوْ تطفئَ جسدكَ الموبوءَ بضحكةِ مسدّسٍ. – في فمهِ بصاقٌ كثيرٌ ويشتهِي أنْ يفتحَ فمَ العالمِ، ويبصقَ فيهِ... في خصرهِ حزامٌ ناسفٌ ويريدُ أنْ ينسفَ بهِ العالمَ كلّهُ. – هوَ في الصّينِ، تحديدًا في قلبِ بيكينَ فيِ يدهِ قلبانِ، وقدماهُ تهرولانِ بعيدًا، في شارعِ الحبيبِ بتونسهِ الحبيبةِ. هوَ في الصّينِ، وعلى جبينهِ هلالٌ وشامةٌ خضراءُ ونجمةٌ. – سقطتْ ورقةٌ أولَى منَ الشّجرةِ سقطتْ ورقةٌ ثانيةٌ، وسقطتْ منهُ نظرةٌ إلى الأرضِ الحياةُ؟، قالَ: صيحتانِ، سقوطُ ورقتينِ… ولعنةٌ. – ماءٌ ينامٌ في نهرهِ الدّافئِ، ضوءٌ يشعُّ علَى ضوءهِ السّاطعِ، ندًى يجرحُ الضّوءَ، وأنفاسٌ تعصفُ بالماءِ… هوَ الماءُ، وهيَ النّهرُ. هوَ الضّوءُ، وهيَ العاصفةُ الهوجاءُ. همَا كمَا همَا: رجلٌ أخضرُ وامرأةٌ لازورديّةٌ، السّماءُ والأرضُ يتحاورانِ والغيمُ يمطرُ…. – لمْ يأتِ بعدُ، لكمْ تأخّرَ عنْ موعدهِ! تهيّأتْ لقدومهِ ساعاتٍ ولمْ يأتِ… تمدّدتْ علَى السّريرِ الوثيرِ، أطفأتِ الأضواءَ، أغمضتْ عينيهَا تقلّبتْ في الفراشِ… ولمْ يأتِ بعدُ، كمْ كانَ حرونًا وهوَ يتسلّلُ إليهَا ببطءٍ شديدٍ!، حتَّى كانتِ السّاعةُ الرّابعةُ فجرًا حينَ أتَى، وأرخَى عليهَا سدولهُ… لكمْ كانَ نومًا سيّءَ المزاجِ، يأتِي بعدَ طولِ انتظارٍ وصبرٍ ثقيلٍ!. – منَ النّافذةِ يتأمّلُ الرّجلُ العالمَ، وفِي خيالهِ أفكارٌ واحتمالاتٌ كثيرةٌ: ماذَا لوْ كانتِ الحربُ حبًّا؟، وماذَا لوْ كانَ العالمُ وطنًا واحدًا ؟، ماذَا لوْ لمْ يكنْ يطلُّ منَ النّافذةِ على أحوالهِ؟، ماذَا لوْ لمْ يكنْ يحلمُ أصلاً، وماذَا لوْ خلتْ حياتهُ منَ الحلمِ. – ضحكٌ في عينيهِ وفِي فمهِ بكاءٌ، الرّجلُ السّرياليُّ يسمِّي نفسهُ: الرّجلُ الـمُبَضْحِكُ، ثمَّ يجهشُ بالسّوادِ. – رجلٌ فِي المحطّةِ يدخّنُ فِي ساعةٍ متأخّرةٍ آخرَ سجائرهِ، ويظلُّ ينتظرُ القطارَ، القطارَ الذِي سيأتِي متأخّرًا عنْ موعدهِ، القطارَ الذِي بلا قاطراتٍ… الرّجلُ ذاكَ الذِي يدخّنُ نفسهُ لمْ يكنْ فِي المحطّةِ أصلاً، ولمْ يكنْ بانتظارِ القطارِ، كانَ فقطْ ينتظُر حظّهُ الذِي سيأتِي بعدَ فواتِ الأوانِ. – زيّنَ البيتَ بالآجرِّ، طلاهُ بالأبيضِ والأزرقِ، وضعَ فِي أعلاهُ صفَّ شموعٍ، وتحتهٌ وضعَ إبريقَ ماءٍ… ابتعدَ عنِ البيتِ قليلاً، تملاّهُ، وقالَ: كمْ جميلٌ هذَا البيتُ!، وكانَ يعنِي القبرَ، قبرَ حبيبتهِ الذِي زيّنهُ بالآجرِّ وطوّقهُ بالحنينِ. – تطلُّ عليهِ كشمسٍ تشرقُ للتوِّ، الثّغرُ يزهرُ ببسمةٍ عذبةٍ، أوْ هوَ وردةٌ تتفتّحُ فيضوعُ العطرُ ويسكرُ الأفقُ الشهيُّ… هوَ، وسلمَى إشراقتانِ وعشقٌ… صفِي حبّكِ لِي، يقولُ للطفّلةِ الزّهرةِ، تقولُ: لا أستطيعُ، وتكتفِي بكلمةٍ واحدةٍ”إيعيْشكْ عمِّي”… ثمَّ تصمتُ سلمَى وتعيدُ صياغةَ المعنَى: برْشَا… برْشَا… إنْحبِّكْ عمِّي… – أربعُ أقدامٍ أربعُ أيادٍ، كائنانِ، صراخٌ، وانتصارٌ… ثمَّ قدمانِ، ويدانِ، كائنٌ واحدٌ في كائنينِ، خفوتٌ، فسباتٌ، وهزيمةٌ واحدةٌ. – كانَ يدغدغٌ قدميهَا فتضحكُ، وأحيانًا يقبّلُ يدهَا اليمنَى، فتحنُو عليهِ وتضحكُ… كانَ يضحكُ أيضًا، وهوَ يمسكُ بخصلاتِ شعرهَا، وينثرهَا علَى وجههِ… هوَ يتذكّرُ كلَّ ذلكَ الآنَ، ويبكِي…. – بسطتْ يديهَا فتوهّجَ الأحمرُ والأسودُ، وتوهّجَ قلبهُ.. كيفَ لهُ أنْ يفسّرَ سحرَ الحنّاءِ فِي صحنِ المرمرِ؟، كيفَ لهُ أنْ يفسّرَ مَا لاَ يفسّرُ؟، كيفَ لهُ أنْ يؤوّلَ قرآنَ يديهَا، ومكرَ الأسودِ والأحمرِ؟ – فِي غرفتهِ، واجمٌ يطحنهُ الفراغُ، صمتٌ فِي الغرفةِ وطنينُ ذبابةٍ… أرادَ أنْ يبدّدَ وقتهُ المبدّدَ، والفراغَ، فصارَ يلهُو معَ ذبابةٍ، وصارَ لهُ طنينٌ يملأُ الغرفةَ. – غالبًا مَا تحدثُ لهُ أشياءٌ غريبةٌ، غالبًا مَا يشعرُ بأنّهُ غصنٌ مقطوعٌ من ْشجرةٍ غريبةٍ، يحبُو، يقفُ، يمشِي، يعدُو فِي الفراغِ بحثًا عنْ أمّهِ الشجرةِ، يهرولُ، يتوقّفُ، يلهثُ… – منْ رأَى منكمُ غصنًا يلهثُ؟- هوَ غصنٌ، بلْ شجرةٌ تبحثُ عن نفسهَا بلاَ أملٍ، في زمنِ التّوحّشِ. – فيمَا كانُوا يكتبونَ عنِ العتماتِ، كانَ يمتدحُ الضّوءَ البهيجَ ويكتبُ، فيمَا كانُوا يهجونَ الحديقةَ، كانَ يكتبهَا بورودهَا وأزهارهَا وكآبتهَا، ويودعهَا فِي باطنِ القلبِ، فيمَا كانُوا يتباكونَ، كانَ يضحكُ، وفيمَا كانُوا يشتكونَ من فظاعةِ العالمِ، كانَ يمتدحُ الحياةَ، ويكتبُ… فيمَا كانُوا يزنونَ الكلامَ علَى إيقاعِ الفراهيدِي، كانَ صوتهُ حرًّا… 2019-04-26 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet