حوارات مجلّة “مشارف” : 24 – مع الشّاعر المارتينيكيّ جوزي لوموانيي 14 يناير,2019 جوزي لوموانيي من هو جوزي لو موانيي؟ ولد جوزي لو موانيي في 7 جانفي 1944 بقلعة فرنسا ( جزيرة المارتينيك). في سنة 1947 غادرت العائلة المارتينيك واستقرّت ببراست ( الشّمال الغربيّ لفرنسا).اشتغل مربّيا ثمّ مديرا في الحماية العدليّة للشباب بمناطق كثيرة من فرنسا. هو عضو في هيئة التّحرير لمجلّة “مرتفعات”( بمدينة فلنسيان) وعضو الهيئة الإداريّة لبيت الشّعر بشمال با دي كالي .يكتب أيضا النّثر والأغاني. شعره تأمّليّ في المقام الأوّل يجمع بين الفلسفيّ والنّفسيّ ويتّجه أساسا وجهة فكريّة. وهو بفضل ذهنه الحادّ المنقِّب لا ينفكّ يصوغ الأسئلة الحارقة عن ماهية الأشياء وأعماق الذّات البشريّة الأشدّ خفاء .فنّيّا أسلوبه المفضّل هو السّعي إلى قول ما يتعذّر قوله باستثمار أثر الأشياء الإيحائيّ إلى أقصى حدّ ممكن.وذلك بانتزاعها من سّياقاتها الحقيقيّة والالقاء بها إلى ما وراء البعيد والمجهول بوساطة أساليب استعاريّة مخصوصة يستدعى المستعار بمقتضاها من مجالات يستعصي تخيّلها ويستحيل إدراكها.وهو ما يكشف عند هذا الشّاعر روحا متعطشّة إلى الأسرار المتكتَّم عليها .ومن جهة أخرى يتّسم أسلوبه بنزعة قويّة إلى اقتضاب العبارة وتكثيف المعنى . السّؤال 1 : قضّيتم فترة مهمّة من حياتكم في مسقط رأسكم جزيرة المارتينيك وفي فرنسا .فما هو في تقديركم تأثير كلّ من هذين المكانين في شعركم من جهة الأغراض؟ جوزي لوموانيي : ولدتُ في جزيرة المارتينيك ونشأتُ في بريطانيا الصّغرى بشمال فرنسا.فمن جزيرةٍ انتقلتُ إلى شبه جزيرة والاثنتان متواجهتان على ساحلين من سواحل المحيط الأطلسيّ إلى حدّ أنّ المراهق الحالم الذي كنتُهً كان يكفيه أن يتكّئ على درابرزينٍ بميناء مدينة براست حتّى يتخيّل أنّه يرى جزيرة المارتينيك مواجهة له . أنا أصيل مُزْدَرَعيْن بحريّين يعرفان حقّ المعرفة معنى الصّمود والمقاومة ، متسلّحين بهويّتين قويّتين متينتين يطالب بهما أهلهما تماما كالقاعدة التي أقيم عليها صرح شعري هذا الذي تتردّد فيه موضوعات الرّيح والبحر والرّغبة في الرّحيل وفي العودة واللّجوء الدّائم إلى الجذور ورفض الانحباس وهي كلّها عناصر متينة وهشّة في وقت واحد . أنا لا أمتلك فنّا شعريّا بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. لكنّي ربّما حاولت الإفصاح عما قلتُهُ الآن في هذه القصيدة التي كتبتُها سنة 1974 والتي تحتوي في ما أظنّ على لبّ مفهومي للشّعر: شبهُ جزيرةٍ هناكَ حيثُ تنتهي الأرضُ هناكَ حيثُ يبدأُ البحرُ لحظةَ يَسلكُ الموتُ طريقَ الطّحالبِ اِفتحْ برشاقةٍ خزانةَ الذّكرياتِ واصرُخْ في الرّيحِ مثلَ فرسٍ جريحٍ السّؤال الثّاني : هل أثّرت مسيرتكم المهنيّة باعتباركم مربّيا في شعركم ؟ أم هل هاتان الصّفتان المهنيّة والإبداعيّة متفاصلتان في وجدانكم وذهنكم؟ جوزي لوموانيي: أن يكون المرء مًربّيا معناه أن يمارس على نحو مّا مهنة لا يستخدم فيها أيّ أداة ما عدا نفسه. وهي مهنة ترتكز على الكلام والتواصل ، مهنة يتعذّر عليك فيها أن تمنح أيّ شيء إذا كنت غير قادر على التّقبّل .فالمربّي يشتغل بالصّفة التي هو عليها .لذلك لمّا فضّلت أن أكون شاعرا وعازفا على لعب “البينق بونق” (وما هذا إلاّ مجرّد مثال)فبهاتين الصّفتين كان عليّ أن أعمل، إذ للمصداقيّة هنا مثل هذا الثمن لأنّ الشّاعر لا يمارس الغشّ لا المربّي أيضا.لهذا السّبب لم يسبق لي أن فصَلتُ بين نشاطي المهنيّ ومناشطي الثّقافيّة.وبعد ذلك بكثير واجهتني المتطلّبات نفسها مع الفرق التّربويّة التي دعيتُ إلى تسييرها.ولن أستعرض هنا دليلا يتضمّن مختلف الأدوات التي كان عليّ أن أستعملها(ورشات كتابة وموسيقى ..).أقول فقط بكلّ بساطة إنّي أكملت مسيرتي المهنيّة مديرا مكلّفا بالمشروعات الثّقافيّة الموجّهة إلى الشّباب الموقوفين على ذمّة العدالة في منطقة الأعالي بفرنسا . السّؤال 3 : تمتدّ تجربتكم الشّعريّة على قرابة نصف قرن احتككتم خلاله بأجيال عدّة من الشّعراء .أتعتقدون أنّكم تطوّرتم بتأثير من هذه الأجيال المتلاحقة أم بقيتم ملازمين لأسلوبكم الأوّل؟ جوزي لوموانيي : صحيح ، لقد لقيت منذ بداياتي عدّة شعراء لكنّي لن أتحدّث عن أجيال.فأنا لا آخذ بهذا المفهوم للشّعر.بل هناك شعراء يولدون وآخرون يموتون لكنّ القول الشّعريّ في نظريّ لا يُختزل في مثل هذا التّكديس لطبقات فوق أخرى .وأفضّل الحديث عن ثقافة شعريّة .في بداياتي لم يكن لديّ ثقافة من هذا القبيل ولا حتّى ثقافة أدبيّة عامّة إذ كانت ثقافتي تتلّخص في ما تعلّمته بالمدرسة .ثمّ لقيت بعد ذلك نساء ورجالا يمارسون الكتابة فاغتنيتُ بالتواصل معهم لكنّي بوجه خاصّ قرأتُ لهم كثيرا.فأنا في الحقيقة أشكو ضعفا هو اعتقادي أنّ الإنسان لا يمتلك القدرة على الكتابة إذا لم يطالع.ومن هذه الوجهة أر يد أن أتحدّث عن الشّعراء الذين أعجبت بهم ورافقوني في رحلتي الشّعريّة .أذكر بطبيعة الحال في المقام الأوّل فرنسوا فيلون ورونسار وفرلان الذين لي ميل خاصّ إليهم منذ سنّ المراهقة لم يفتر لديّ حتّى الآن ثمّ دون ترتيب أولا على سبيل حصر ميشال ديقي وروني شار وقيلوفيك وبابلو نيرودا وأندريه شديد والطّاهر بن جلون وفيليب جاكوتاك وقي قوفات… و تأثّرت بآخرين كثيرين غيرهم لكنّ من جهات الصّرامة والعمل والانضباط للقواعد.فقد أعانوني على التّخلّص من السّذاجة التي اتّسمت بها محاولاتي الأولى .لكنّي لا أعتقد أنّهم أدخلوا تغييرا عميقا على رؤيتي للشّعر. السّؤال الرّابع: أنتم تحبّذون خاصّة القصيدة القصيرة .فهل مردّ هذا إلى مزاجكم الخاصّ الذي يميل إلى الاقتضاب ؟أم هل هو اختيار مدروس أملته عليكم قناعات أدبيّة محدّدة؟ جوزي لوموانيي :أجبتُ بعض الشّيء عن هذا السّؤال.لقد أحببتُ دائما القصائد التي يتكثّف فيها تصوير الأحاسيس نحو “صونيات”(الصُّونّي هو بحر من بحور الشّعر الفرنسيّ تكون القصيدة فيه متألّفة من أربعة عشر بيتا) رونزار ودو بَلاَّيْ أو القصائد المصوغة في قالب وصايا لفيلون.فأنا أقضّي كثيرا من الوقت في البحث عن الكلمة المناسبة.وهذا يقتضي منّي اللّجوء إلى الاقتضاب .فالأمر يتعلّق إذن بقناعة أدبيّة. السّؤال الخامس :شعركم في المقام الأوّل تأمّليّ يجمع بين الفلسفيّ والنّفسيّ وينزع إلى التّفكير .هل تعتقدون أنّ هذا النّوع من الشّعر لا يزال اليوم يجد آذانا صاغية ،خاصّة أنّ الدّور الذي اخترتم أن تؤدّوه يؤدّيه إلى حد بعيد الفلاسفة والمتخصّصون في علم النّفس؟ جوزي لوموانيي :كيف أجيب؟أنا أكتب الشّعر والشّعر يتّجه إلى الحساسية والذّكاء دون أن يتعلّق الأمر بأيّ تَرَاتُبٍيّة .ولا أعتقد أنّي أكتب شعرا مغلقا، مبهما.ثمّ أثرتَ قضيّة الجمهور ؟ هذه المسألة لم يثرها ،في ما يبدو لي” الشّعراء قطّ.طبعا يكتب المرء لكي يقرأ النّاس ما يكتب لكن ليس إلى حدّ البحث عن تسوية مع القرّاء إلاّ إذا كان الشّاعر شاعر بلاط.لكنّي لست من هذا الصّنف من الشّعراء. السّؤال 6 :المطّلع على مجموع قصائدك يلفتُهُ حنينُك القويّ إلى الماضي سواء الشّخصيّ أوالشعري. وهذا يلاحظ في السّلسلة الطّويلة من قصائدك القديمة التي تعيد نشرها اليوم. فما رأيك في ذلك؟ جوزي لوموانيي : أنا لا أعيش في الماضي .لكنّ لي كسورا لولاها لما مارست الكتابة.فكسوري مرتبطة بالنّفي الذي عشتُه في سنّ لم أكن أستطيع فيها إلاّ الإحساس به دون أن أملك القدرة على الإفصاح عنه للآخرين.لذلك بدلا من الحديث عن حنين قد أقول إن” الكتابة أضحت عندي وسيلة طبيعيّة لإبلاغ الآخرين كلّ أشكال النّفي التي أعيشها . السّؤال السّابع :يقوم أسلوبكم في الكتابة خاصّة على استثمار الطّاقات الإيحائية التي تنطوي عليها الكائنات والأشياء إلى أقصى حدّ ممكن .وهو ما يترتّب عليه إغراق النّصّ في مناخ أقر ب إلى الظّلمة منه إلى الوضوح.ألا تخشون أن يحول هذا الأسلوب في الكتابة دون الفهم؟ جوزي لوموانيي : أعتقد أنّ سؤالا صريحا يلزمه جواب صريح.كلاّ ، لا أعتقد أنّ ما قلته صحيح .أمّا في ماعدا ذلك فإنّي أعيش في عالم منسوج من التّوافقات .هل سبب ذلك أنّ ثقافتي ثقافة جزر الأنتيل ؟هل مردّه إلى أنّ ثقافتي ثقافة سلتيّة(نسبة إلى شعب السّلت الذي ينحدر منه سكّان الشّمال الغربيّ الفرنسيّ ) ؟ أو ألا يرجع ذلك إلى كوني شاعرا؟ فالشّعر ليس فنّا للبوح الآنيّ بل لا وجود لأيّ فنّ يؤدّي مثل هذه الوظيفة. السّؤال الثّامن : هل تقرؤون القصائد العربيّة التي أترجمها وأنشرها في هذا الفضاء؟.و إن كنتم تقرؤونها فكيف يلوح لكم هذا الشّعر مقارنة بالشّعر الغربيّ؟ جوزي لوموانيي : نعم أقرؤها.بل إنّ من أوّل الكتب التي اقتنيتها كتاب الشّعر العربيّ من البدايات إلى اليوم الصّادر عن دار “مارابو”للنّشر سلسلة “جامعة” ،ط 1967 .و لا أزال أحتفظ به وأرجع إليه في بعض الأحيان.لا أبحث فيه عن أيّ استشراق بل عمّا يغني قراءاتي من الشّعر العالميّ.وأعيد القول هنا :لا كتابة جدّيّة في غياب الفضول والفضول مرتهن بالقراءة في المجال الذي يهّمنا. السّؤال التّاسع :هل الفايسبوك، في تقديركم، يقدّم لكم خدمة حقيقيّة باعتباركم شاعرا ؟ وهل تلوح لكم فيه بعض العيوب والمساوئ؟ جوزي لوموانيي : لا أستعمل الفايسبوك إلاّ للشّعر وللتّبادل الثّقافيّ.في ما عدا ذلك تلوح لي هذه الأداء الاتّصاليّة على درجة عالية من الانحراف. فأنا أتلقّى قصائد كثيرة بعضها هزيل. وفي هذه الحالة أفضّل تجاهلها ، إذ لا يسعني إلاّ الفرز .وهذ ما أقوم به.في ما يخصّني شخصيّا ينبغي أن أقول إنّ الفايسبوك يفيدني كثيرا.وأنت من الأدلّة على ذلك. هناك رسالة جامعيّة باللّغة الإنجليزية خُصّصت لدراسة شعريّ ونوقشت سنة 2016 بمعهد الدّراسات العليا بكاسبرسون (جامعة دريو بالولايات المتّحدة) وقد أمكن ذلك بفضل الفايسبوك ، كما أتاح لي إمكان الاطّلاع على قصائد لشعراء ذوي مستوى رفيع مثل باترسيا لا رنكو.وكذلك الشّأن بالنّسبة إلى مناشطي الأخرى ،الأدبيّة منها والموسيقيّة . السّؤال العاشر : ما هي مشروعاتك الآجلة والعاجلة ؟ 1 – أصدرُ هذه السّنة الجبل الأحمر وهو رواية عن المقاومة والحركات الوطنيّة في فترة ما قبل الحرب العالميّة الثّانية بمقاطعة بريطانيا في الشّمال الغربيّ الفرنسيّ. 2- أنا بصدد إكمال محتارات من قصائدي سأسمها بيوميات ما بين الاثنتين 1965 – .2019 3- أشتغل أيضا بإعادة كتابة روايتي طريق المانغروف التي صدرت سنة 1998 عن دار الهرماتون بباريس. وبهذه المناسبة أسوق توضيحا في ما يخصّ طريقتي في التّعامل مع الفايسبوك حيث يمكن لأيّ كان متابعة هذه الأعمال في صفحتي.وأنا معجب كثير ا بروائيّي القرن التّاسع عشر الذين كانوا سنشرون رواياتهم متسلسلة في الصّحف.وبكلّ تواضع ، تلك هي طريقتي في استعمال الفايسبوك. 2019-01-14 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet