حالاتٌ : قصّة قصيرة : ريتا الحكيم – اللاّذقيّة- سوريّة 12 مارس,2018 ريتا الحكيم المكان: بين أربعة جدران الزّمان: في كلّ أوان وإلى أبد الآبدين الشّخصيّات: ثلاث إناث مجهولات الهوّيّة.. لا معرفة سابقة بينهنّ، أزمنتهنّ مختلفة، “رجاء”، عشرينيّة تشعّ عيناها بين حين وآخر وكأنّها تتذكّر أمراً أو شخصاً تكنّ له مشاعر جيّاشة، غاب، وتاه منها في زحمة الحياة. “أمل”، أربعينيّة، مقطّبة الجبين دوما، ملامحها جامدة، ونظراتها الزّائغة تدور في محجري عينين زرقاوين، دون توقّف. “أمنية”، ستّينيّة، يكلّلها الشّيب، بالكاد تتحرّك وكأنّها تمثال نحتته الأيّام الصّعبة، وتركته شاهدا على فظاعة ماضٍ قاسٍ ولا يبشّر بانقلاب جذريّ في سلوكها الحاليّ مع من هن” معها في نفس الحجرة. حين اقتادوني عنوة إلى هذا المكان، كوّنت انطباعي هذا وأنا في مكاني القصيّ. كنت أصغرهنّ، لم أزهر بعد، لكنّني رأيت نفسي في كلّ واحدة. تمعّنت في الوجوه الباردة، هناك شبه كبير بين ملامحنا، وكأنّنا أخوات، مع فارق الزّمن العمريّ الذي لم يستطع إلغاء هذا الشّبه بيننا. بعد عدّة محاولات منّي، استطعت كسر جدار الصّمت، ونجحت في استدراجهنّ للحديث معي. رجاء، هذا كان اسم الصّغرى التي لم تتوقّف عن الفضفضة، حين سألتها عن سبب هذا الوميض الذي أراه يضيء وجهها من وقت إلى آخر، قالت لي: – كنا نسكن في حيّ واحد ومبنى واحد، ملك قلبي وأقام فيه، نلتقي على طريق المدرسة، يجمعنا شعور لذيذ ومتعة حين تتلامس أيدينا، يربّت على كتفي ولا ينسى أن يضع قطعة كبيرة من الشّوكولا في جيبي، يتركني على باب المدرسة ويستأنف سيره إلى مدرسته. ذات مرّة، جاءني والدي بخبر صاعقٍ، يريد أن يزوّجني لابن عمّي، وأنا لم أكمل بعد دراستي. شردت نظرات رجاء ويبدو أنّها تذكرت حدثاً مهماً، قلب كيانها، وأكملت حكايتها والغضب يرسم خطوطاً عميقة على وجهها: – لم أجرؤ على الرّفض وما استطعت إخبار والدي أنّني عاشقة متيّمة، وما زلت إلى الآن، هنا تدخّلت في حوارنا، “أمل”، وهي تصرّ على البدء في حكايتها. – بعد أن تزوّجت زواجا تقليديّا، أنجبت أولادي، لم أكن سوى آلةٍ تتحرّك في البيت، تقوم بكلّ الواجبات، الزّوجيّة منها كانت أسوأ أمر يحدث لي، لأنّها كانت بمعزل عن أيّ مشاعر تجاه هذا الجسد الذي يرتمي في حضن النّوم بعد أن ينتهي منّي، وكأنّه عمل وظيفيّ، روتينيّ، لا أخفي عليك أنّني أتحايل على اشمئزازي منه بأن أتخيّل نفسي مع من أحببته وما تجرّأت على الوقوف في وجههم لأنّنا من دينين مختلفين، ذاك الشّابّ الذي عشقته منذ أيّام المدرسة، ما زال يجوب مخيّلتي ويحتلّ الجزء الأكبر منها، خاصّة حين يكون هذا الجسد البارد بقربي. أعرف أنّ هذه خيانة عظمى، إذ كيف لي أن أعيش مع رجل في كلّ تفاصيل حياتي، وأفكّر بآخر، علما أنّني لم ألتقِ به منذ أن تزوّجت. أيضا حدث ارتباك هنا، حين تدخلت “أمنية”. ومن الواضح أنّها تشجّعت لتخبرني حكايتها وهي في عالم بعيد جدّا عمّا يحيط بها. – لم أحبّ زوجي أبدا، وبعد خياناتي الفكريّة المتكرّرة أثناء زواجي، لم أعد أشعر بتأنيب الضّمير؛ فأنا كنت أخون نفسي وأنا أعيش تحت سقف واحد مع هذا الرّجل الذي ما زلت أعتبره غريبا عنّي، رغم كلّ تلك السّنوات التي مرّت، أحنّ إلى لمسة يد وحضن دافئ ضاع منّي في لحظة جُبنٍ، قلبت حياتي رأساً على عقب. لا أخفيك أنّني التقيته صدفة، وخفق قلبي كما كان يحدث مع رجاء، كان بمواجهتي حين التقت نظراتنا واستفاضت بحوار صامتٍ، لن يفهمه أحد غيرنا، إنه حديث القلوب ليس إلاّ. تمنّيت أن أركض إليه وأعانقه، لأرمي على كتفيه معاناتي وحرماني، لكنّني كما في أوّل مرّة كنتُ جبانةً، وانطويت على جرحي النّازف؛ هل يكفي عناقه لتضميده؟ يلزمني عمر جديد وعليّ أن أعود إلى الوراء، إلى حيث بدأت رجاء حكايتها، أو بالأحرى إلى حيث لم تبدأ حكايتكِ أنتِ. أنتِ رجاء في العشرين وفي الأربعين وأنتِ أنا ما بعد السّتّين. واقع الأمر أنّني كنتُ أحدّث نفسي وأستمع إلى حوارات من بنات أفكاري، ولم يكن معي أحد بين هذه الجدران الأربعة. ومضة من الذّكريات عبرت، وكانت نتيجتها مسرحيّة حقيقيّة تمشي على قدميها بين جموع غفيرة، تلوك الصّمت، وتغصّ بالكلام. ستوب! توقّف أيّها الزّمن، وعُد إلى ما قبل العرض بقليل، كي أخلع عنّي كلّ الأقنعة، وأعود إلى ما قبل البداية، ولا أشهد النّهاية. 2018-03-12 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet