العطرُالضّــائعُ : قصّة قصيرة: أحمد الحجّام – مكناس المغرب

 

 

” Le parfum est la forme la plus intense du souvenir ”

Jean-Paul Guerlain

 

عندما عنّتْ سُحْنتهُ الكَالِحَةِ من وراء البوّابة الحديدية  المُوارِبة للمدرسة ، كانتْ كوْكبةُ الصّبية قد انْتَثَرَتْ في كلّ الاتجاهات .. لمْ يُعِرِ اهتمامًا لذلك المرَح الطفوليّ و النّزق الصّاجّ الذي ملأ الشارعَ ، و الأزقة المُجاورة بالصّياح و الكركرات الجذلانة ..

بَدَا مُنْدحرًا ، و كأنه سجين هرم أُطلق سراحُه قبل لحظات .

انتصبَ ، يجُولُ بنظراته المُنْكسِرة في الدّوائر و الزوايا، و يتفرّسُ في السُّحنات و الوجوه و الهامات لكائنات المساء الكئيبة.. كانت عيناهُ الذابلتان تشِيَانِ بِحُزنٍ دفين ، ينْداحُ غائرًا في المَحْجَريْن لِحُدود التّيه .. وجْهٌ مستطيل ، ذقن أمرد ، إلّا من بعض   الشُّعَيْرَات الفوْضوية ، أخاديد تَحفرُ عميقا في الجبهة و الخدّين ، و قامة نحيلة لم تُضفْ إلى شكله الكيخوطي سوى ميْسم الكارثة .

انحدر مُتهالِكًا عبر الدّرج الإسمنتي الحادّ ، إلى أن لفظته العتبة المُهشّمة نحْو الرّصيف .. كاد أن يسقط ، كَكُلّ مرّةٍ ، عندما يسلكُ نفس الطريق ، و يفوته التحوُّط من مكْرِ العتبة اللعينة ..تناهتْ إلى مسامعهِ ضحكات شامتة لبعض المارة ، فعضّ على نواجده ناقِمًا ،مُغمغِمًا باللّعََناتِ الكظيمة..

تابع سيره الوئيد في المُنعطف الهادر بِسيْل السيارات و أفواج المارّة ..يجتاز بقدمين حائرتين  الزقاق الضيق المؤدي إلى البيت العتيق ، حيث يقيم مع زملائه الثلاثة منذ سنوات .. حاول لمْلمَةَ شظايا أفكاره لِيسْتعيدَ هُدُوءًا ، بدا لهُ مُستحيلًا.. تابع سيرهُ المتثاقل قاضِمًا بنان النّدم على سنوات ” التوهّج ” الخابية وراء تلّة ذكرياته .. لماذا تُبْرِقُ أمامَ عيْنيهِ الآن .. تُضْرمُ حريقا مهوِلًا في كينونته المجففة أحْلامُها منذ دهْرٍ .. سنوات مَضت الآن ، و ما انفكّت تعْلقُ ّذكرياتُها المخملية بنياط قلبه المكلوم .. بَيْدَ أنّهُ يُدرك تمامًا أنّ أوْهَامَ التذكُّر قد استنزفتْ جُهده المُضني في الخلاص من الحياة القاتلة التي يعيشها .                                                                                    سنوات طوال امّحت الآن على تلك الأيام الجميلة  التي كان يُدْمِنُ فيها قراءة الشعر ، و معاشرة أنداده من  “المتأدبين “.. و التجوال طويلا في أزقة مدينته الصغيرة و حواريها ، ينتشي بعبق التاريخ الطالع من أسوارها العتيقة ، و يُصِيخُ السمع لوشوشات مخلوقاتها الغرائبية ، حالما بمجْدٍ بَاذخ .. شعر بالضآلة و الوَهَن  يتسرّبان إلى خلاياه  ، و هو يستحضر الفرص الضائعة التي أهدرها في حمأة حماقاته السابقة ، التي لمْ يَحْضَ منها سوى بهُمُوم مُزمنة ، أغرقت حياتَهُ في مستنقع من الرّتابة اللعينة .

كان التعب الشرس يشدّ أذياله بأنياب مذلّة تُرغِمُهُ على الانجرار بدل المشْي ..أفكار كثيرة هاجمت رأسه ،مزلزلة ذلك التماسك الصّخري الذي أقنع نفسه دائما بامْتِلاكِه ..أحسّ بالتقزّز و هو يفكّر في تفاصيل اليومي الطّاحنة :هواجسه الباتولوجية في العودة إلى بلدته الصّغيرة ،الغلاء الذي يحرق مرتّبه في أيّام ..،خلافاته المملّة مع رئيسه في العمل ،و الأحاديث العدمية في المقاهي الكسولة. بَاغَتَهُ الغثيان و هو يتابع بعينين ساهمتين مروق السّيّارات ،و هرولات المارّة ..توقّف لحظة .. أطرق إلى الأرض مستجديا شيئا وهميّا يعيد له ثباته النفسي .. عبثا.. كانت المعاول اللعينة تُعاوِدُ الحَفْرَ في جمجمته من جديد ..مرّر بصره على الرّصيف النّابت غابةً كثيفةً بأرجل السابلة .. تمعّن ثانية ..صار القلق المُمِضّ يدور برأسه كزنبور مشاكس .. رمى ببصره بعيدا.. ثم عاود التحديق بالأرض .. تلك هي اللحظات النادرة التي انتابه فيها هذا الغموض المستفز .. حالة أشبه بالبحث عن شيء ضائع حرون ، يحسن التربص و الملاعبة .. مخلوق منفلت كالماء ، مُتأبٍّ كجزيرةٍ  قصيّة .. تصاعد الذهول إلى قسمات وجهه الأسْيان ، و هو يخطو رُويدا بين أمواج المارة .. تساءل بحرقة ، لماذا تمدُّ الذكريات أعناقها إليه اليوم بالذات ؟ نكايةً أم فُضولًا على ما صنعته الأيام به ؟ هل سيظل  الماضي يرْمي بظلال الحنين الوارفة على حياته إلى الأبد ؟ و ماذا عن الآتي ؟

كانت الشمس تتوسد الأفق الشفقي عندما قرر تلبية هذا النداء النافر من مهاوي الذات ، صمّم أن ينخسف بعيدا في رحلة الانخطاف الزاحفة نحو شرايينه …لكنْ كيف يمكنه إيقاظ الدّهاء البدائي المضطجع في خلاياه المتعبة ؟ا كانت خطواته تتثعبن على الأرصفة المتربة بقلق مكشوف ..قدمان من ريح جموحة ، و كأن وقودا سريّا حوّله ،فجأة، إلى قذيفة طائشة …هكذا اندفع بعيدا..بعيدا يستجدي راحة مستحيلة..فردوسا أو حتى جحيما يصهر في تأججها معادن الجمود المتصلبة في أوصاله.

..هكذا أراد أن يستحيل أرخبيلا في أوقيانوسيا الفراغ …
أشاح بوجهه عن كلّ هذا الخرق الجماعي الذي يجهد في اغتيال لحظته الساحرة : أبواق السيّارات وفحيح دخّانها المتصاعد ،ميكانيكا الأكتاف المتدافعة ، تضرّع الشّحّاذين المفزع ، أضواء الشّوارع المُعمية ، تصايح الباعة المُصمّ ..وعنف الوقت المنذر بالعودة ..كلّ التّفاصيل الضّاغطة لم تثن عزمه الملحاح قطّ عن إحراق مكتبة التّذكّر ..لم تثبطه عن تتبّع هذه المسالك المحفوقة برُهاب الدّهشة ..ألفى نفسه طائرا مُزغبا ببهاء التّحليق .. …تابع سيره الذي أصبح يشبه الهرولة في اتجاه المحيط …كانت المحفظة الجلدية السّوداء تتأرجح في يده اليمنى ، وكأنّها مشدودة إلى خيط رفيع ..هو الذي طالما حرص على توثيقها بقوّة إلى قبضته ..غاص شبحه في المنحدر المعتم المؤدّي للبحر إلى أن اختفى تماما ،ثمّ لاح من جديد و هو يتسلّقُ أدراج الكورنيش تاركا محفظته تنفلت من يده في انسياب درامي ..ثمّ اقترب رُويدا رُويدا من الحاجز الإسمنتي مُفردا ذراعيه للظّلام الهادر،حاضنا أنسام المساء ..

ألْفَى المكانَ يكادُ  يخْلُو ، إلّا منْ بعض المتسكعين الهائمين على جنبات الطريق المتربة ، يطلقون  الزّفرات  و الهمهمات اليائسة .. لكنه لم يكن آبها إلّا للبحر.. شعر أن الهواء المنبعث من عمق المحيط  يُضرِمُ  في رئتيه حريقا مُهوِلا .. شُبوبٌ أرْعَن سَرَى تحت جلده كأفعى مجلجلة .. تملّكهُ الإحساس بالخوف اللذيذ الممزوج ببهارات الكارثة ..هكذا أسلم نفسه لهدير الموج ، مُشرعا صدرهُ لهذا الهُبوب المفاجئ الذي زَوْبعَ كينونتهُ بلا سابق إنذار .

كان الغبش المسائي يمتزج بروائح الأعشاب البحرية التي لفظتها الأمواج ، و بالعبق الغامض المنتشر على امتداد الشاطئ .. اقشعرّ جسدهُ ، و هو يحاول تمييز رائحة غريبة ، تسرّبت فرادتُها العطرية  إلى خياشيمه ..رائحة عنيدة تتسلّلُ إلى المهاوي القصية في ذاته، محمّلة بذخيرة لا يقوَ على صدّها ..التفت مذعورا، كَمَنْ تَمُورُ به الأرض ، باحثا عن مصدر الرائحة ..تسارع شهيقهُ اللاهث و ازداد توترا ..أحس بالقشعريرة تسري أفواجا من النمل في جسده القميء .. تتابعت خطواته المتوثبة تطلعًا و استدعاءً لخيانة الأثير أنْ يفضح بلاغة الرائحة ، لكنّ المدينة كانت تستغلق في صمتها التابوتي قُبّةً رخامية مُحكمة الإغلاق ..و هو الذي ..لم يتمتّع يومًا بتلك الخبرة ” الجرْلانيّة (*) التي تجعل منه مُفلقًا في دنيا الرّوائح ..لم تعتدْ خياشيمه سوى على دُخّان السّجائر الرّديئة ، و روائح الغمولة المنتشرة في بيته العتيق .

استدار ثانية جهة المحيط ، و أسند جبْهتهُ على حاجر الكورنيش الإسمنتي ، المبلل برطوبة المساء  ، ثم رفع رأسه عاليا ، مغمض العينين ، كأنه يستدعي كائنا آخر دونه ، يُقاسمُهُ لحظاته المجنونة ..تلاطم الأمواج المُدمْدِمة على صخور الشاطئ ، أجنحة الظلام التي حضنت المكان برهبتها الأسطورية ،شبق القمر الذي يرقص ” الطانغو ” مع نُجيْمتهِ الوحيدة ، مُتوهّجا ، تصْخَبُ أنوارهُ في البركة المائية التي خلفها الجزر ..أصوات الجنادب و هوام الليل .. كل ذلك الحضور الثرّ لكائنات الغُروب المهيبة ، عمّقَ إحساسه بالحزن اللذيذ النشوان ، و البهْجة الممزوج بالمرارة .. أسبل جفنيه المكدودين ، ثمّ مسح جبهته المبللة بنداوة البحر، مُحَاوِلًا ترويضَ اللّهاث الغريزي الأهوج الذي أجّج رغبته لمعرفة مصدر تلك الرائحة ..رُويْدا رويدا ، تتنامى في نفسه  بذرة  التأويل .. ينفخ فيها ما تبقَّى من حِجَاجيتهِ الغابرة .. لكمْ أسعفته خياشيمه أن يبلغ يقينَ النّاسِكين المتعبّدين ، بأن هذا اليوم وُلد في قلبه قبل أن يحلّ ..أدْرك ذوقًا و شُروقًا في ملّةِ المتهجّدين ، أنه يعرف روائحه و نسائمه و أصواته ، و عطرهُ الضائع الذي انبجس ـ فجأة ـ بلا سابق إنذار .. تلمّس جيب سرواله ، وأخرج علبة السجائر .أشعل لفافة ، و عبّ من دخانها نفسا عميقا ، ثمّ أرداها أرضا ، و محقها بقدمين واثقتين .. استدار جهة المدينة ..انحدر جادّا عبر درج الكورنيش ، و توارى في الظلام .

 

 

(*) نسبة إلى  Jean-Paul Guerlain خبير العطور الفرنسي الشهير .