الحدائقُ السّحريةُ : جولة : مونيكا دال ريو – شاعرة وقصّاصة وروائيّة ّبولنديّة مقيمة ببروكسال ببلجيكا.

مونيكا دال ريو

كلّ عام ،حين تتفتّح زهور الأزاليا وتدرك أوج إزْهارِها تفتح الدّفيئاتُ المَلَكيّة ببروكسال (بلجيكا) أبوابها للعموم مدّةَ ثلاثة أسابيع.هذه البناية الضّخمة التي شيدت وَفْق أساليب الفنّ المعماريّ الجديد من معدن وزجاج تلوح ،مع ذلك ،رشيقة، خفيفة :مهوَّأَة وفي تناغم تامّ مع الحديقة الفسيحة الأرجاء المحيطة بها التي تمتدّ على  خمسة وعشرين هكتارا.وهي تاريخيّا من تصميم المهندس المعماريّ ألفونس بِلاط في نهاية القرن التاسع عشر .وقد غرست فيها مجموعة وافرة العدد من النّباتات والأزهار المجلوبة من أصقاع بعيدة .بل إنّ بعض الفصائل ترجع إلى فترة إحداثها.

ها إنّ قدميَّ  تطآن هذا الجيب  الواقع في قلب الجوّ الشّتويّ المكفهرّ  للمرّة الثّانية . في المرّة الأولى وجدتني في حالة انبهار .أمّا في هذه المرّة   فانسقت إلى التّفكير في الزّمن الذي يمضي. إنّه مشهد الألوان السّاحر المضادّ للأمراض والموت. هنا كلّ شيء  يخضع لقانون التّتابع : التفتّح ثمّ الانحدار .النّخلات العملاقة التي يناهز سنّها المائة وعشرين سنة ذات الأوراق الجافّة التي نهشتها الأمراض ترمقني من علوّ يقارب العشرين مترا بنظرات حزينة  والثّلاثون سارية حجريّة ،هذه  الشّاهدة الصّامتة  على تلك المجزرة  بقيت وديعة مسمّرة في مكانها فوق الأرضيّة الرخاميّة. وتنتصب عند المدخل شرخسيّات عملاقة مريضة أيضا  .وهنا نشمّ رائحة الرّطوبة ورائحة حامضة  ربّما هي رائحة الفصائل الحيوانيّة الأولى التي ظهرت منذ ملايين السّنين.

لكنّ هذا التّغيير التي حصل من سنة إلى أخرى أ هو تغيير حقيقيّ أم هو يحدث في ذهني فحسب؟ ربّما كنت أنظر إلى هذا المكان بعينين أخريين، نٍظرة أخرى.فالزّمن يمرّ …كلُّ يوم يتبع سابقه…فيٌخيّل إلينا أنّنا نجري دون أن نبرح مكاننا ، محاولين اللّحاق باللّحظة التي انقضت لنعود  لاحقا دون كلل ، تماما مثل الفصول التي  تعود كلّ سنة لكنّنا نكون قد تغيّرنا.” لا تستطيع أن تنزل إلى النّهر نفسه مرّتين” ، كما قال هيروكليتHéraclite” لأنّ مياها كثيرة تسيل دون انقطاع “. الممشي الذي تحفّ به السّرخسيات  المريضة يقودني إلى عالم مختلف: إزهار ضعيف  بائس أو متأخّر للورود المجلوبة من الأصقاع البعيدة والنبتات الطّباقيّة والمساكب ،مقارنةً بالمشهد السّاحر الذي رأيته في السّنة الماضية فيثير فيّ  ما أر اه خيبة أمل  شديدة.

ومع ذلك فمجموعة الكاميليا الهائلة و جناح الأزاليا  الرائع يجلبان اهتمام الزّائرين ، ذلك النّحل  المتعّطش للرّحيق اللّذيذ الذي يمكّن من نسيان كلّ شيءومن الانتشاء للانطلاق بقوى إبداعيّة جديدة.

هذه الأروقة اللاّمتناهية من إبَرِ الرّاعي  بأنواعها المتعدّدة ومختلف ألوانها ثابتة  في وجه كلّ المحن .وتلك الزّهور الآسويّة الأصل التي تقترن في لاوعينا برواية سيّدة الكاميليا للرّوائيّ الفرنسيّ ألكسندر دوما الابن Alexandre Dumas-Fils والتي اقتبست منها مقطوعة “ترافياتا” للموسيقار فردي Verdi  تبسط جمالها الطّازج الهشّ وبتلاتها البيضاء والورديّة الشّبيهة بخدّي فتاة.أوراقها النّاعمة اللاّمعة تعرض  أمام عيوننا دونما شفقة  صفاء البر اعم والأزهار الحديثة العهد بالتّفتّح ، أقول “دونما شفقة” لأنّه  ما باستطاعتنا ،مع الأسف الشّديد، أن نوقف  هذا الجمال الذي سيذوي حتما، ليأخذ بألبابنا من جديد في السّنة المقبلة .

فالزّمن يمرّ.