ذكرياتي مع النّاقد التّونسيّ الكبير أبي زيّان السّعدي(4) 16 فبراير,2018 أبو زيّان السّعدي عمليّا لم يكن من الممكن أن يكون أبو زيّان السّعديّ إلاّ في الصّفّ المقابل لي.وهذا ما حصل فعلا في نهاية السّتّينات وأوائل السّبعينات أيام كانت الطّليعة التّونسيّة تدعو إلى ممارسة التّجريب في السّرد والشّعر واستخدام المناهج الحديثة في النّقد.وهو ما كان يرفضه أبو زيّان رفضا.ففي تلك الفترة لم يكن يقترب منّا ولم يُرَ ولو مرّة في المقهى الذي كنّا نجلس فيه تقريبا كلّ يوم .وهو مقهى “البرازيليا” الذي كان يوجد بمبنى”البالماريوم” بالعاصمة .لكنّنا كنّا نقرأ ما ينشره ضدّنا في الدّوريّات من مقالات ساخطة مندّدة .وهذا ما جعل صديقا لنا – وهو الكاتب للأطفال والنّاشر الشّاذلي بن زويتين -يلقّبه ب”وزير الحرب”.وقد كنّا نراه يمرّ في الطّريق دون أن نكلّمه. في شهر جوان/حزيران 1971كان أوّل لقاء لي مع أبي زيّان السّعدي.فذات يوم من ذلك الشّهر اعترضني الشّاعر والإذاعيّ محمّد مصمولي بمدينة الكرم في ضاحية تونس الشّمالية حيث كنت أسكن .وقد جاء من العاصمة لقضاء إجازته الصّيفيّة هناك.فتواعدنا على اللّقاء من الغد بمقهى يوجد في بلدة المرسى الجوّيّة المتاخمة لمدينة الكرم .وفي الوقت المحدّد وجدت محمّد مصمولي جالسا مع الشّاعر المرحوم عبد المجيد بن جدّو وأبي زيّان السّعدي.فما إن رآني حتّى نهض وهمّ بمغادرة المكان قائلا: ” أنا لا أجالس الفوضوييّن”.فصاح المصمولي في وجهه : “اجلس يا أبا زيّان واسحب ما تفوهّت به من كلام.فأنا جئت إلى هنا للرّاحة ولا أر يد أن ينغّص علي أحد إجازتي” . فعاد أبو زيّان إلى مكانه وأخذ ينتقد حركة الطّليعة بصوت مرتفع .فكنت أردّ عليه بهدوء ردودا عقليّة ،مؤكّدا له أنّ من حقّه أن تكون له آراء مضادّة لآر ائنا.وفي النّهاية نهضنا فقال :” إنّها المرّة الأولى التي ألاقي فيها فوضويّا لطيفا” فقلت له: “إنّها المرّة الأولى التي ألاقي فيها وزير حرب وديعا” . ومنذ ذلك اليوم أصبحنا صديقين أو على الأصحّ ، كما كان يقول هو ” صديقين لدودين” ونجلس معا في مقاهي الأحواز الشّماليّة ومقاهي العاصمة لكن دون أن يتنازل أيّ منا للآخر عن أفكاره بل كانت مجادلاتنا متواصلة بلا هوادة سواء شفويّا في أثناء جلساتنا أو كتابيّا على أعمدة الصّحف. على أنّ أبا زيّان السّعدي في سنة 1990 حين صدرت مختاراتي من الشّعر التّونسيّ التي أحدثت ضجّة عنيفة أجّجها الشّعراء الذين لم يدرجوا فيها وقد كان وقتذاك يشرف على ملحق جريدة “الحرّيّة” الثّقافيّ فاجأني بمساندته للمختارات ودفاعه عنها ضدّ خصومها ،مع تحفظّه على الشّعراء الذين يكتبون الشّعر المنثور ،على الرّغم من أنّ عدد هؤلاء في مختاراتي كان قليلا جدّا .بل إنّه هاتفني ليعلمني بأنّه وصله إلى الجريدة سيل من مقالات الثّلب والاستنقاص ضدّ شخصي من الشّعراء الذين لم أخترهم وبأنّه رفض نشرها كلّها ،عارضا عليّ القدوم إلى مكتبه لأطّلع عليها.فأجبته بأنّ الثّلب لا يحرّك فيّ ساكنا ودعوته إلى نشرها. والسّرّ في ذلك الاستقبال الحماسيّ الذي أحظى به مختاراتي الشّعريّة هو أنّي أدرجت فيها جلّ الشّعراء الكلاسيكيّين الذين كان يحبّ شعرهم لأنّهم من خرّيجي جامع الزّيتونة مثله والحال أنّ أبا القاسم محمّد كرّو في تلك الفترة نفسها لامني على عدم تجاهلهم لأنّهم تعاملوا مع السّلط الاستعماريّة .وقد أطلعني على كتاب أصدرته الإقامة العامّة الفرنسيّة يتضمّن مجموعة من القصائد ألقاها أولئك الشّعراء سنة 1943 داخل مقرّ الإقامة في أمسيّة شعريّة نظّمتها لهم ، كما أنّ شاعرا منهم ألقى سنة 1938بضعة أسابيع بعد مجزرة 9 أفريل قصيدة مدحيّة أمام وزير الثّقافة الفرنسيّ الذي جاء إذّاك إلى تونس لتدشين الإذاعة التّونسيّة ثمّ قرأها مصطفى الكعّاك بعده مترجمة إلى اللّغة الفرنسيّة. وهذه في الحقيقة إشكاليّة كبرى : إلى أيّ حدّ يمكن للمؤرّخ العلميّ اعتماد معايير سياسيّة في الاعتراف بأدباء وإلغاء آخرين .ذلك أنّه في جميع جامعات العالم المتقدّم يمنع منعا باتّا تقويم الفنّ والأدب تقويما إيديواوجيّا وسياسيّا. 2018-02-16 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet