الرّحلة شرقا : الفصل الأوّل من رواية بعنوان: تحتَ سماءٍ تحترقُ لمحمّد بوحوش – توزر – تونس • 23 أكتوبر,2017 محمّد بوحوش الرّحلة شرقا انشغلت مساء 23 من ديسمبر 2016 بتصفّح ألبوم الصّور الذي يخلّد ذكرى سفري أنا وسيمون إلى إسبانيا في ربيع سنة 2015. كنّا وقتها نتجوّل في شوارع مدن الأندلس: غرناطة وطليطلة وإشبيلية وقشتالة ، ونقارن بين حال العرب بالأمس وحالهم اليوم، بين عصور النّور السّابقة وعهد الظّلام الحاليّ. أذكر مرّة أنّنا كنّا نتحاور حول أسباب تخلّف الشّرق وتقدّم الغرب فلا نعثر سوى على إجابات مبهمة تحيلنا على تساؤلات أخرى. ما الذي أدّى بالعرب اليوم إلى الانحدار؟ لعلّ ذلك بسبب أنّهم توسّعوا في الملك فأضاعوا الجغرافيا، أو أنّهم لم يفلحوا في الحكم بسبب غياب الدّيمقراطيّة فآثروا العصا على القلم. هكذا كنت أقول لسيمون.كانت تبتسم وتجيبني بأنّ العرب أمّة أغرق حكّامها في اللّهو واللذّات والمتعة فانفرط العقد وانحلّت الممالك… كنّا كثيرا ما نتردّد على مقهى يسمّى “أندلسي”نثرثر ونضحك وأحيانا نخلد للصّمت. ذات صباح ونحن جالسان هناك. كنت أنا منشغلا بتصفّح جريدة ، وسيمون تمسك بأوراق بيضاء وقلم رصاص وترسم. قبل أن نغادر بقليل فاجأتني برسوماتها العجيبة. تأمّلتها وسرحت في التّأويل. كانت رسوما لامرأة شاردة تهيم في فضاء شاسع أو هي تمسك بكتاب و تتأمّل في البعيد. أحيانا تطوّق رسمها ببعض الأزهار والفراشات. امرأة تضيع في المطلق وتتهيّأ للطّيران. رمتني برسوماتها تلك وقالت: خذها، إنّها لك وحدك فأحتفظ بها. وها أنا أتأمّلها الآن كما لو أنّها رسمت في الحين. استرعت انتباهي بعض الصّور الأخرى لسيمون وهي ترقص في غرفة النّزل شبه عارية. أتأمّلها للتوّ فأتذكّر غيبتنا تلك التي تشبه غيبة الصّوفيين. كانت سيمون ذات جسد كونيّ لا يفنى ولا يكلّ عن الرّغبة، جسد غائم يتهجّى أبجديّته وتتفتّح أطرافه كشقائق النّعمان. شفتان كزهر اللّوز وعينان ساجدتان. كيان في كون يضحك ويبكي في آن معا. لم يكن ثمّة هويّة لجسدها العذب وهو يئنّ أو يصرخ بين أحضاني تارة، أو هو مستسلم ومبذول تارة أخرى. كانت بعد أن ترتوي تنظر إليّ وتقول: هل تشرح الحبّ لي يا محمّد؟ أين تقيم تلك الأحاسيس والرّغبات ، أين تكمن اللذّة والشّوق واللّهفة لفعل شيء يشبه العنف ونسميّه حبّا؟. أنظر إليها حائرا فأقول مازحا: “الحبّ أوّله حضور وآخره غياب ، أو أوّله هزل وآخره جدّ على حدّ قول الإمام ابن حزم الأندلسيّ… إنّه في غرفة ما من الدّماغ. إنّه ذاك الصّندوق الأسود المغلق والعجيب الذي يحتوي على أسرارنا. ربّما هو الرّوح يا سيمون، تلك التي تقيم قريبا من الجسد وتحوم حوله كلّما همّ بفعل شيء ما. أنهيت تصفّح الألبوم وأطفأت نار الذّكريات ثمّ فتحت الحاسوب وشرعت في قراءة بعض الرّسائل الواردة عليّ. كانت سيمون قد كتبت لي في رسالتها الإلكترونيّة المؤرّخة في 22 ديسمبر 2016، بعد لقائنا الأخير في لندن ما يلي: “الأعزّ محمّد، سأمضي بداية من يوم الغد في رحلة إلى الشّرق، وسأزور مصر تحديدا لبعض أيّام. لقد مللت وجودي هنا في عاصمة الضّباب لندن. أشعر بضيق واختناق وفراغ. سأجتهد كثيرا لأغيّر نفسيّتي المحطّمة حتّى أتمكّن من الوقوف مجدّدا على قدميّ. أتمنّى لك كلّ السّعادة أيّها الصّديق الحبيب، أقبّلك بجنون، سيمون”. قرأت رسالتها تلك، وقلت أحدّث نفسي: “حسنا فعلت، لعلّها ستكون فرصة لها كي تدرك عمق الشّرق في سحره وأمراضه”. أجبتها بكلمات مقتضبة، متمّنيا لها رحلة موفّقة وعودة آمنة. بعد ثلاثة أيّام وردت عليّ رسالة ثانية طويلة من سيمون أخبرتني فيها، بأنّها تعرّفت إلى كاتب مصريّ يدعى أحمد منير عطا اللّه، وأنّها مستمتعة بإقامتها في مصر، حيث الأهرامات والنّيل العظيم، والأحياء الشّعبيّة الممتلئة بالنّاس، والعبقة بسحر كلّ ما هو قديم. قالت إنّها زارت مقام السيّدة زينب، ومشت وسط خان الخليليّ وأحياء الجيزة والدقي والسّكاكيني والبرابرة وشبرا. كان انطباعها ايجابيّا حول عراقة مصر، وطيبة أناسها وعفويتهم، وسعيهم إلى كسب قوتهم اليوميّ بشتّى الطّرق. وممّا جاء في رسالتها: ” حبيبي محمّد، لقد انشرحت كثيرا، يبدو لي أنّ العالم هنا في مصر بمثابة أرض عذراء، حيث العفويّة، والطّبيعة بعناصرها الأولى، متجلّية في آثار الفراعنة بالخصوص، وفي شواطئ النّيل الخلاّبة، وبساطة الحياة. فللشّرق وجه مختلف تماما عن الوجه الذي ألفته في الغرب. صحيح بأنّي ألمح ضيقا ما على وجوه النّاس من جرّاء صعوبة العيش، وكثافة عدد السكّان، وشبح الارهاب أحيانا، غير أنّ النّاس هنا مختلفون تماما بأريحيتهم وكدّهم وبساطتهم. لا أقول إنّهم بدائيّون جدّا، بل هم عفويّون ومنبسطون، ومقبلون على الحياة بخيرها وشرّها. الشّرق، يا محمّد، له روح، نعم روح… فيما لا روح لغربنا الذي يزعم أنّه متقدّم. لقد كان صديقي الكاتب المصريّ أحمد عطاء اللّه، يكرّر لي بأنّ الإرهاب في مصر ظاهرة سياسيّة عابرة، وهو ليس من أصول المجتمع المصريّ وفي مستوى عمقه، بل هو طيف يطفو على سطحه، جرّاء غياب الدّيمقراطيّة والعدالة والمشاركة الشّعبيّة الواسعة في إدارة الشّأن العامّ. فالوضع البائس للإنسان يولّد الأفكار البائسة، والحنين إلى الماضي البعيد والتطرّف، وهذه تقريبا حالة مصر، إذ لا يولد الإنسان إرهابيّا بطبعه، بل إنّ وضعه البائس، وتنشئته، وثقافته، من العوامل التي تدفع به إلى اعتناق الفكر الإرهابيّ. أعدك يا محمّد بأنّني سأتغيّر. أحيّيك صديقا وحبيبا. المخلصة سيمون”. بعد أن قرأت رسالتها أحسست بنوع من الاطمئنان عليها. مرّت أيّام قليلة. كنت ذات مساء في غرفتي وحيدا أشاهد نشرة أخبار السّاعة الثّامنة، إذ لفت انتباهي خبر مفاده أنّ انفجارا كبيرا جدّ في مركبة سياحيّة بالنّيل، وكان على متن المركبة سوّاح كثّر، ترجّح الأنباء أنّه عمل إرهابيّ، قد يقف وراءه تنظيم القاعدة أو داعش. لم أعر الخبر اهتماما بالغا، فلقد تعوّدت على مشاهدة الكثير من العمليّات الإرهابيّة التي تحدث على أرض مصر وغيرها، غير أنّني فكّرت ساعتها بسيمون. كان مجرّد تفكير عابر لا غير. حين شاهدت نشرة أخبار السّاعة التّاسعة ليلا بقناة فرنسا 24،انزعجت حقّا. فلقد عرض الشّريط صورا مفزعة للضّحايا الذين بلغ عددهم 32 شخصا. كانوا من جنسيّات أجنبيّة، لم يكشف بعد عن هويّاتهم. قتلى وجرحى ومفقودين في تلك العمليّة ، كما هو الشّأن في العمليّات الإرهابيّة الأخرى. كانت الصّور التي تبثّ فظيعة حقّا حيث أشلاء الجثث المتناثرة والدّماء المراقة، والأعضاء المبتورة، ممّا يدلّ على أنّه عمل همجيّ بشع، تقف وراءه جهة قويّة ومنظّمة، قد تكون القاعدة، أو غيرها من التّنظيمات الإرهابيّة من قبيل داعش. سرحت في تخمينات شتّى، وقلت:”لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه. إنّي أخاف على سيمون فعلا. ترى هل ينقلب السّحر على السّاحر يوما؟ هل تكون سيمون ضحيّة داعش التي عاشت بينها وتبنّت زورا أفكارها من أجل الكشف عن حقيقتها وتمويلها وممارساتها؟”. نمت على وقع تلك الصّدمة، ولم أكن مرتاحا فكأنّ قلبي ينبئني بما هو سيّء، إلى أن هاتفني صباح الغد السيّد ألبرت وايلز، والد سيمون. جاء صوته كأنّه من قاع بئر كئيبا وخافتا ومتقطّعا، على غير عادته، قائلا: “سيمون، يا محمّد، سيمون… ابنتي الفضلى. لقد أبلغت باحتمال وفاتها في حادث الانفجار الكبير الذي جدّ بمصر أوّل أمس… كما أشعرتني الشّرطة بأنّه قد يتعذّر العثور على جثّتها بسبب هول الانفجار الذي حوّل عديد الجثث إلى أشلاء، فسجّلت ضمن المفقودين. لقد فقدت، يا عزيزي محمّد، جزءا من قلبي بل قلبي كلّه. ها أنا بمثابة شبح تفترسه الوحشة، ويأكله البرد والضّباب والحزن. أمنّي نفسي بحمّام شمس في شتاءات لندن، فسيمون الشّمس التي تشرق عليّ في كلّ آن وحين. أرجو أن لا تكون شمسي قد غربت وانتهيت. أهاتفك أيّها الحبيب الصّديق لأنّي أعلم جيّدا ماذا كانت تعني لك سيمون”. لم أكن أردّ على السيّد ألبرت وايلز سوى بكلمات متعثّرة. ظللت أسترجع وقع كلامه مرّات ومرّات، وأنا أكاد أنفض يديّ من الدّنيا. فأنا على وشك فقدان أعزّ إنسان وحبيبة. فقد فقدت سيمون التي علّمتني الكثير، وعشت معها وبها أجمل ساعات العمر. كان خيالي يطوف بي بعيدا إلى الذّكريات الحلوة التي كنت وإيّاها ذات مساء حافيين، نسير فوق كثبان الرّمل البيضاء في صحراء نفطة. تتلذّذ بانغماس قدميها في الرّمال العذبة النديّة، وترفع حفنة منها إلى الأعلى فتذروها، وهي تقول: “يا عزيزي محمّد، إنّي لا أمسك بالرّمل بل أمسك باليقين. إنّي أعود إلى فطرتي وبدائيتي وتكويني الأوّل. الآن أشعر بأنّني إنسان ينتمي للطّبيعة العذراء حيث لا زيف ولا نفاق، ولا تزويق. ليس سوى اللّه والمطلق، والأبديّة البيضاء. لقد كرهت العالم الاصطناعيّ، فكثيرا ما شعرت وأنا في لندن بأنّني زهرة من بلاستيك. أنا الآن، الآن فقط، كائن من لحم ودم وأحلام ورديّة وحياة”. ما إن كانت تنهي كلامها حتّى أمسك بيدها، ونركض معا في الصّحراء. كلانا يطارد الآخر، فنسقط حينا وننهض حينا آخر. كانت سيمون غزالة بريّة تركض باستمرار وتنشد الأبديّة. أذكر أيضا في ذاك المساء، ونحن نتهيّأ للعودة إلى المنتجع الصّحراويّ الأخضر بتوزر بأنّني لمحتها تجري بسرعة وسط الرّمال، فكنت أصيح: – إلى أين؟ إلى أين تمضين يا سيمون؟ – في اتّجاه الغروب، في اتّجاه الغروب …. هل رحلت سيمون فعلا، ومضت تركض حافية في اتّجاه غروب الشّمس؟. ها أنا أقف في المساء الحزين الحرون أسترجع ذكريات معها حلوة، مرّة، متجرّعا الصّبر، والحلق يغصّ بخمسة حروف. سيمون، ليس سوى سيمون. ترى ما الذي يمكن لشاعر مثلي أن يفعل ليواسي نفسه سوى أن يرثي حدثا جللا هو فقدان حبيبة وصديقة في قامة سييمون. أمسكت بقلمي بيد ترتعش وكتبت هذه القصيدة: الغريقُ: على وَشكِ السّماءِ قريبًا من اللّهِ، أمْسكُ بيدِي”سيمون” وهيَ تغمسُ في الرَّملِ أنامِلها، وتَشرِقُ بالفناءِ.. ليسَ سِوانا،هُنا في الوُجودِ، ليسَ سِوى كائنيْنِ يقترِبانِ ويبتعِدانِ، كائنيْنِ في أرضِ الحَريرِ: ورْدة رملٍ ضاحِكة، سَرابٌ ناعِسٌ، نباتٌ صَحراويٌّ مُتيقِّظ، حصًى وبقايَا رمادٍ،ي قينٌ وألغازٌ… الوقتُ رَفيفُ هواءٍ ناعمٍ، وفيضٌ منَ النّسيانِ، الحَواسُّ نوافيرُ، و”سيمون” تَركضُ في الصّحراءِ تغدُو وتَروحُ، بيدٍ تُمسكُ بي، ويدٍ تُمسكُ بالهَواءِ.. نَرقصُ.. نَصرخُ، نَضّاحكُ في وضَحِ العراءِ.. فواجِعُ وعَواصفُ، فصولُ جَحيمٍ، رَذاذُ حَنينٍ، عطشٌ، وصهيلُ جِيادٍ… كُلّهَا انْطفأتْ في رَملٍ باردٍ. الشّمسُ قرصٌ وَرديّ يَترنّحُ، نورٌ شَفيفٌ نُودِّعهُ، فيبْكي، رَعشةٌ…رَعشتانِ… مَوت في اللاّمَوتِ، شَفقٌ وغُروبٌ، رُؤًى مُوجعةٌ، ورُؤًى مُوغلةٌ في الخيالِ، وأنَا: أوارِي سَوءةَ “سيمون”، ونَغرقُ.. نَغْرقُ في الحَقيقَةِ والمَجَازِ.(23) ما إن أنهيتها حتّى تذكّرت من جديد لقائي الأوّل بسيمون في لندن. كنت حين أقرأ لها الشّعر، تقول: – أحنّ إلى هذا النّوع من الشّعر المتلبّس بالغموض الشّفيف. الآخر هو أيضا أنا يا محمّد، وأنت تعبّر نيابة عنّي وعن الآخر حتما. إنّ الحياة بديهيّة، فلماذا يفسّرها بعض الشّعراء بالأساطير وبالبلاغة الزّائفة؟. أنا أريد من الشّعر أن يكشف عن شفافيّة الأشياء وجوهرها الحقّ. أردّ عليها قائلا: – نعم يا سيمون، القصيدة هي احتياج الحياة أو اللّحظة. ليست أصلا ولا فرعا. لذلك لا فائدة من أن تبقى ذواتنا أسيرة للذّاكرة والموروث والرّموز القديمة. تضحك سيمون، وتقول: – نعم يا صديقي ، الحياة كما القصيدة أريدها واضحة كراحة كفّ. وأريدها حيّة ، نابضة وصادقة تعبّر عن حياتنا ولحظتنا. – وماذا عن الماضي يا سيمون؟ – آه يا صديقي. أنت تذكّرني بقولة لغسّان كنفاني يقول فيها: “قد لا أريد أن أتذكّرني كي لا أجرح الحاضر، ولكنّني لا أستطيع أن أنسى كي أخون ذاتي والحقيقة معا”. فلماذا تنكئ الجراح يا محمّد؟ لماذا؟… أذكر كيف كنت أهاب ماضي سيمون. فأغلق القوس مشيرا إلى الآتي الأجمل . فأقبّلها وندخل في عناق كأنّه مطلق النّسيان. 2017-10-23 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet