رحلتي إلى إيطاليا 2017 (6) : البندقيّة هذا الأرخبيل العجيب السّاحر – الجزء الثّاني : البندقيّةُ جزيرةُ واقِ الواقِ السّياحيّةُ : محمّد صالح بن عمر

أمام كنيسة القدّيس مرقس

أمام رواق أكاديميّة الفنون بالبندقيّة

أمام أكاديميّة الموسيقى بالبندقيّة

فوق جسر من جسور البندقيّة

أمام كنيسة القدّيس مرقس

قلت في المقال السّابق الذي كتبته عن البندقيّة إنّ ازدهار السّياحة فيها متأتٍّ أساسا من فرادتها الجغرافيّة. لكن إذا كان هذا السبب الطّبيعيّ حقيقيّا فإنّ مهارة أهلها وفكرهم الثّاقب لم يجعلا هذا الازدهار يبلغ ذروته فحسب وإنّما أيضا  يحافظ على المستوى نفسه ، إلى حدّ أن برلمانهم صار يفكّر في تحديد عدد الزّوّار لعجز البلاد عن  استقبالهم(480 مليون ليلة مقضّاة في الفنادق سنة 2016).

فلوعي أهل البندقيّة بثراء تراثهم الثّقافيّ الذي وصلهم من العهد الذي كانت فيه جزيرتهم طيلة قرون قبل زحف نابليون بونابرت عليها (1797) مملكة غنيّة مزدهرة وقوّة بحريّة ضاربة بفضل موقعها المثّالي  في مقتطع طرق التّبادل التّجاريّ بين الإمبراطوريّتين الرّومانيّة والبيزنطيّة والخلافة الإسلاميّة، حرصوا على أن تبقى محافظة  كلّيّا على مظهرها الخارجيّ القديم دون أن يدخلوا عليه أيّ تغيير حتّى إن كان طفيفا  .وهكذا فحين تتجوّل اليوم في ربوعها، يُخيّل إليك أنّك  في  القرن السّادس عشر أو السّابع عشر . فجدران البيوت والمحالّ العموميّة غير مطليّة البتّة.لكن ما إن تلج بيتا من البيوت أو محلاّ  من المحالّ العموميّة حتى تجد نفسك في  داخل رائق في منتهى النّظافة والنّظام والتّأثيث العصري الفاخر .وهو ما جعلني أستنتج أن حالة الإهمال التي عليها المظهر الخارجيّ للمدينة ربّما هو متأتّ من الرّطوبة الشّديدة الدّائمة أي  خارج عن نطاق أهلها.

هذا الجوّ القروسطيّ ، جوّ العهود السّالفة الذي يخيّم على المدينة من شأنه أن يزيد في سحر السّيّاح ،أولئك الذين يبحثون بطبيعتهم عن كلّ ما هو عجيب غريب وعن كلّ ما هو جديد.

وفي هذا السّياق نفسه يتنزّل الإقبال المنقطع النّظير على ركوب الجناديل ( مفردها جندول ) ، تلك التي تراها تعبر القنالات تحت الجسور ليلا نهارا  ،على الرّغم من ارتفاع ثمن السّفرة الواحدة  – وهو ثمانون أورو  –  مهما كان عدد الرّكّاب :من واحد إلى ستّة .وهذا ما يجعل  تلك الجناديل بمنزلة   حنفيّات من العملة الصعبة لا تتوقّف عن السّيلان أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين.

وفي هذه الجزيرة موضع آخر لا يقلّ اكتظاظا بالنّاس على نحو مستمرّ. وهو ساحة القدّيس مرقس الفسيحة  التي تمتدّ على مساحة شاسعة أمام الكنيسة الحاملة للاسم نفسه.وهذه الكنيسة التي يعود بناؤها إلى القرن العاشر  ( 929 بعد الميلاد )تحضن جزءا من رفات القدّيس مرقس صاحب أحد الأناجيل الأربعة .وكان قد نهبه بعض تجّار البندقيّة  قديما من كنيسة بوكولس المصريّة .وتنفرد هذا الكنيسة اليوم بأنّها الكنيسة الإيطالية الوحيدة التي لا تخضع لسلطة البابا .وهي ، فضلا عن ذلك، مفتوحة أمام المصلّين من الأديان الخمسة : الأرتودكسيّة وهي الدّيانة المسيحيّة الشرقيّة  الأصليّة والكاتوليكيّة والبروتستينيّة واليهوديّة والإسلام .لهذا لا توجد مساجد ولا معابد لليهود في البندقيّة .

وطبعا  في مدينة كهذه تغصّ غصّا يالسّيّاح لا يمكن أن توجد بطالة ،ما عدا بطالة التّرف التي يختارها غير الرّاغبين في العمل.ولهذا السّبب  ليس ثمّة على حدّ ما رأيت ، أنا الذي من عادتي أن أجوب المدن التي أزورها على قدميّ طولا وعرضا، متشرّدون ولا شحّاذون حتى بين المهاجرين.