دفاترُ مريمَ : قصّة : حسن العاصي – شاعر وقصّاص فلسطينيّ مقيم في الدانمرك 23 مايو,2017 حسن العاصي عندما استيقظ ذات صباح في شهر آب القائظ، كان جبينه يرشح عرقا، بدأ يتمتم بكلمات مبهمة وهو يتلوّى ألما من صداع في منتصف الرأس، بعد أن كان قد قضّى ليلته في صراع مع الكوابيس التي داهمت نومه ولم يتذكّر منها سوى عبق رائحة السجائر حين امتصّ آخر سيجارة وألقى برأسه على الوسادة كي ينام. ولم تجد نفعا مع هذه الكوابيس جميع المحاولات لطردها، واصطفّ أفراد عائلته واجمين بجانب سريره لا يدرون مايفعلون، بعد أن أيقظتهم صرخته المدوّية منتصف الليل، إلاّ أنّ والدته العجوز أصرّت على تلاوة بعض سور القرآن الكريم فوق رأسه وهي تمسح جبهته براحة يدها اليمنى عساها تطرد الأرواح الشرّيرة التي نغّصت نوم فلذة كبدها. كان حين استيقظ قد قرّر – وهو بالمناسبة نادرا ما يستطيع التقرير في شأن من شؤون حياته – أن يحطّم احتكار الكتابة الصحفيّة على حدّ تعبيره، وأن يقتحم أسوار هذه القلعة المغلقة على أصحابها وينضمّ إلى جنود القلم كما كان يسمّيهم، الذين كان يراهم يدخلون ويخرجون من الباب الرئيسيّ لمقرّ إحدى المجلاّت الحزبيّة الأسبوعيّة، وكان صاحبنا حريصا على مراقبة مدخل البناء، يتأبّطون بعض الصحف اليوميّة وحزما من الأوراق لا يدري ما بها , ومنهم من ارتدى ثيابا بالغ في أناقتها بدرجة لافتة، تتدلّى حقائب جلديّة من أكتافهم يتنافسون في اقتناء الأجمل منها، والله وحده يعلم ما بداخلها , ولم يجرؤ صاحبنا يوما على الاقتراب منهم، رغم أمنيته أن يلقي التحية على واحد منهم، أو أن يبادره أحدهم بالسلام , إلاّ أن شيئا من هذا لم يحصل. وبعد طول انتظار وتردّد، ارتدى صاحبنا أفضل ما لديه من ثياب وسرّح ما بقي من شعر رأسه، وكي تكتمل الأناقة أفرغ نصف زجاجة عطر رخيص فوق رأسه، وعرّج إلى محلّ تصليح الأحذية في طريقه إلى المجلّة كي يلمّع حذاءه ويرتق الثقوب الجانبيّة فيه كي لا يلاحظها أحد، .وهو ما قد يحول دون تحقيق ما قد عزم على البدء به. طرق باب المجلة و والتقى عددا من المسؤولين في إدارتها وفي هيئة التحرير، وأصرّ على أن يلتقي مسؤول قسم الدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة على نحو منفرد للتباحث معه في القضايا المصيريّة التي تعصف بالأمّة، ولما كان المسؤول مسافرا للمشاركة في نشاط أحد المؤتمرات التي دعي إليها، اكتفى بلقاء النائب الذي أخبره أن لا فرصة أمامه لمقابلة السيّد رئيس التحرير الذي يستشيط غضبا لأنّ الدعوة وصلت إلى رئيس قسمه واعتبر الأمر إهانة شخصيّة له، وأنّه حاول عبثا أن يتصل بالقائمين على المؤتمر ليرسلوا إليه دعوة أخرى، بعد شعوره بالخيبة لفشل المؤامرة التي حاك خيوطها في مكتبه بمعاونة السكرتيرة لمنع رئيس قسم الدراسات من السفر. وبعد يومين كاملين أمضاهما صاحبنا في غرفة موصدة، مكتفيا بالضروري من الغذاء والماء، وهو يفرك يديه بعضهما ببعض ، يحاول عصر رأسه والإمساك بفكرة مقالته الأولى التي ستكون طريقه إلى مجد الصحافة يدخله من الباب الواسع، كما ستجعل منه إنسانا مشهورا وشخصا مهمّا وتضع اسمه بجانب كبار الكتّاب. عندما أدرك أن وحي الكتابة قد أشفق عليه وأنّه قد حانت ساعة الصفر، أخذ يبحث في زوايا المنزل عن القرطاس والقلم، وبعد جهد جهيد وجد القلم، وعبثا حاول العثور على القرطاس، وحين فقد الأمل من هذا البحث المضني الذي استغرق ساعتين كاملتين، بعثر في أثنائهما محتويات غرف المنزل، عندما استدرك أنّه لم يكن في يوم بحاجة إلى القرطاس، التفت إلى دفاتر شقيقته مريم وكانت لا تزال طالبة ابتدائيّة، التقط أحد هذه الدفاتر وبدأ مشواره مع الكتابة إلى أن ملأ صفحات الدفتر الأربعين بمقالته العظيمة التي تناولت خطابا سياسيّا كان قد ألقاه في حينه أحد القادة السياسيّين. استلّ صاحبنا القلم بيده اليمنى، وأحكم قبضته اليسرى على الدفتر المسكين و وراح يشيد بخطاب القائد الملهم ويمتدحه ،مبتدئا مقالته على النحو التالي : قال الأخ القائد في خطابه التاريخيّ الذي ألقاه منذ يومين بحضور عدد كبير من ممثلي الأحزاب وحركات التحرّر الصديقة وحشد غفير من جماهير شعبنا و ثمّ فتح مزدوجا ونقل بأمانة تامّة الجزء الأوّل من خطاب القائد، فملأ ثماني صفحات كاملة، وتبعا لأصول الكتابة الصحفيّة أغلق المزدوج في المقطع الأول. وفي مستهلّ الصفحة التاسعة كتب صاحبنا هذه العبارة الصغيرة، “ويضيف القائد الكبير”، و ثمّ فتح مزدوجا مرّة أخرى ونقل حرفيا الجزء الثاني من خطاب القائد فغطّى عشر صفحات كاملة، عندها أطلق زفرة تطايرت من شدّتها الأوراق أمامه، ومنح نفسه قسطا من الراحة شرب في أثنائها سبعة فناجين من القهوة بالتمام والكمال، وعندما طلب المزيد بإلحاح تشوبه العصبيّة، هرعت شقيقته مريم إلى الجيران تستجدي بعض البنّ للمفكّر العظيم. بعد أن انتهى من تدخين علبة سجائر كاملة من النوع الرخيص امتصّها حتى الفلتر، مسح جبهته المتعرّقة واستأنف حربه الشرسة مع المقالة. في مطلع الصفحة الثامنة عشرة تابع الصحفيّ الجليل ما قد بدأه وكتب : “وفي مجال آخر تعرّض القائد المقاتل لقضيّة الصراع العربيّ الإسرائيليّ، بما يؤكد استمرار حزبه في خوض غمار الكفاح المسلّح”، ثمّ فتح مزدوجا وأورد مقاطع كاملة مطوّلة من خطاب القائد الفذّ حتّى وصل إلى آخر سطر من الصفحة الأربعين من دفتر أخته مريم، كان خلالها قد حرق نصف علبة السجائر التي أرسل أخته لشرائها وابتلع أربع حبّات من مسكّن الألم للسيطرة على مشاعره الجيّاشة التي أجّجتها كلمات القائد الحماسيّة ثمّ أغلق المزدوج، وبطح اسمه تحت المقالة وسمح لنفسه أن يضع تحت الاسم إشارة تقنية ’’ 24 أسود ’’. بعد أن أتمّ إنجاز هذه الخبطة الصحفيّة أطلق صفرتين متواصلتين، وضمّ الدفتر إلى صدره كما تضمّ الأم البكر وليدها، وارتمى متهالكا فوق الكنبة مباعدا ما بين رجليه تاركا العنان لخياله يصوّر له عالم الأضواء والشهرة. وبعد ذلك استدعى زوجته وأولاده الصغار، وبصوت خطابيّ تغلب عليه الجدّية المصطنعة طلب من زوجته أن تشرف من الآن فصاعدا على شؤون المنزل والأولاد، وأن يتمّ تحديد زيارات الأقارب والأصدقاء بناء على مواعيد مسبّقة، وأن تطلب من الجيران التزام أقصى درجات الهدوء والسكينة، وطلب من أطفاله عدم تشغيل التلفزيون والمذياع إلاّ بناء على تعليمات منه وذلك فقط للاستماع إلى نشرات الأخبار التي بات من الضروريّ أن يعتاد على الاستماع إليها من الآن فصاعدا لمتابعة ما يجري من تطوّرات على الساحة الدوليّة، وأن ….. وأن ..، لأنّه منصرف تماما منذ هذه اللحظة إلى الكتابة في القضايا المصيريّة الكبرى، والتي لا بدّ من أن يدلي بدلوه فيها بعد أن لاحظ أن زملاءه من كبار الكتّاب والمفكّرين لم تسعفهم قدراتهم الذهنيّة للإلمام بكلّ جوانبها، وطلب من ابنه الكبير أن يحضر له كمية كبيرة من الأوراق البيضاء وعددا من الأقلام كالتي يستخدمها أقرانه. فصدق المساكين ما سمعوه وبالغت الزوجة في تطبيق تعليمات زوجها الكاتب الجادّ المنصرف إلى معالجة القضايا الشائكة، وتحوّل المنزل إلى دير مهجور، صمت مطبق، زوّار قليلون يتناقصون يوما بعد يوم، وصاحبنا المفكّر عابس الوجه مقلّ في الكلام ،كثير التدخين، تهاجمه نوبات من السعال الشديد بين الحين والآخر، يضع يده اليسرى فوق جبهته على طريقة القادة والمفكّرين، وفي يده اليمنى قلمه وأمامه أكوام من الدفاتر والورق تنتظر الإشادة والمدح بالخطيب، لقادة بدأ صاحبنا يتابع تحرّكاتهم ومهرجاناتهم حتّى لا تفوته واحدة. لعلّ الفرق الوحيد بين صاحبنا الذي كتب ذات يوم على دفتر أخته مريم وبين العشرات من أمثاله، أنّه أمين ونزيه في إبداعاته، يضع الكلام الذي ليس له بين مزدوجين، فيما يتركه الآخرون حرّا طليقا وينسبونه إلى أنفسهم ولا يخجلون . أيّها الكتبة.. من كان منكم بلا دفاتر مريم فليرجم صاحبنا بقلم . 2017-05-23 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet