الشّاعر التّونسيّ جعفر ماجد (1940 – 2009) أو المدرسةُ الماجديّةُ : دراسة : محمّد صالح بن عمر 26 أبريل,2017 جعفر ماجد لم يكن جعفر ماجد من أولئك المتأدبين الذين هووا الكتابة في الشعر أو السرد أو النقد فكتبوا ونشروا ما طاب لهم أن يكتبوا وينشروا ثم وافاهم الأجل المحتوم فلم تستقر صورهم في الذاكرة الجماعية ولم يحتفظ التاريخ بنصوصهم وأسمائهم لأنهم لم يقدموا إضافة ذات بال إلى المجال الذي مارسوا فيه هوايتهم الأدبية – والمرء يمكن أن يظل هاويا طيلة حياته حتى إن ظن العكس – .بل كانت كل الدلائل تشير منذ شبابه الباكر إلى أنه سيكون قطبا من أقطاب الأدب التونسي شعرا ونثرا . وهو ما تحقق فعلا . فلقد استطاع – وهو دون العشرين في نهاية الخمسينات – أن يفرض صوته بمجلة ” الفكر ” ،تلك التي كانت زمنئذ حكرا عل من يلقبون ب” كبار الحومة “. وبسرعة فائقة بدأت قصائده تستقطب اهتمام العارفين وتحظى بإعجابهم وفي الوقت نفسه تلقى صدى واسعا لدى جمهور الشعر . ثم لم يكد يغلق العقد الثالث من عمره حتى أضحى وجها من أبرز وجوه الشعر في البلاد. وزادت مجموعته الأولى نجوم على الطريق التي صدرت سنة 1968 (1) في نشر اسمه و شعره على نطاق أوسع . ولم يحالف النجاح جعفر ماجد الشاب لإتقانه صناعة الشعر فحسب . فذاك كان متاحا للكثيرين من أبناء جيله – وهل يعسر على أي متعلم الإلمام بعلمي العروض والقوافي والتمرن المكثف على قواعدهما لامتلاك ناصية النظم ؟– وإنما لفت الانتباه منذ خطواته الأولى بإحداثه لونا خاصا عسيرا من الكتابة جمع فيه بين الوفاء التام للسنة الشعرية التراثية إلى الحد الذي بلغه الكلاسيكيون في وفائهم لها والإيغال في تجديد الصورة الى درجة استعصى إدراكها حتى على بعض غلاة التحديث من مجايليه أو من الأجيال اللاحقة له. وما ذلك في حد ذاته بالأمر الهين لأنه يقتضي توفر حساسيتين هما ’ في ظاهرهما على الأقل، متقابلتان : حساسية تراثية وأخرى حداثية . ولتتضح لنا خواص هذا الأسلوب الشخصي الذي استحدثه جعفر ماجد في فن القريض تكفي الإشارة إلى أن الشعر التونسي بعيد الاستقلال كانت تتوزعه ثلاثة اتجاهات متباينة : الشعر الكلاسيكي الخالص الخاضع للسنة الشعرية التراثية – وقد كانت له الغلبة كميا – والشعر الغنائي الناهل بوجه عام من تجربة أبي القاسم الشابي والشعر الملتزم أو” الواقعي ” الذي برز فيه منور صمادح منذ أواخر الأربعينات . وهذه الاتجاهات لم يكد يستهوي منها ، مع ذلك ، على نحو محسوس ، شعراء جيل شاعرنا إلا الثاني والثالث .فاختار جمال الدين حمدي ومحيي الدين خريف وزبيدة بشير اللون الغنائي واتجه الميداني بن صالح إلى الشعر الخطابي الملتزم ، على حين تردد نور الدين صمود بين الكلاسيكية الخالصة والغنائية . فكتب في كل منهما قصائد لا تمت بصلة إلى الأخرى . أما جعفر ماجد فلم يكن تكوينه التعليمي والثقافي المزدوج ، العربي الفرنسي ليسمح له بالخروج على الخط الكلاسيكي التراثي ولا بالانضباط له تمام الانضباط ولا بالتردد بينه وبين اتجاه آخر . فوفاؤه للكلاسيكية كان تمليه عليه التنشئة التراثية المتينة التي تلقاها بمسقط رأسه القيروان حيث تسود السنة الشعرية العربية الخالصة منذ قرابة الخمسة عشر قرنا . وذلك بالتتلمذ على أقطاب من رموز الشعر الكلاسيكي هم محمد الشاذلي عطاء الله والناصر الصدام ومحمد مزهود. وأما الحداثة فكانت تسري في عروقه بفضل حذقه اللغة الفرنسية التي أتاحت له الاطلاع المباشر على كنوز الأدب الفرنسي .وأما الالتزام فهو، في نظره ، من مهام السياسي لا الشاعر . وخلافه مع الميداني بن صالح في هذا الشأن طيلة الستينات معروف . لذلك اختار عن اقتناع وروية التوفيق بين الكلاسيكية والحداثة مذهبا . فتميز عن سابقيه ومجايليه في آن واحد . وهو ما يجسده على سبيل المثال هذان البيتان اللذان لم يكتب مثلهما شاعر تونسي كلاسيكي واحد (2): أنا في الليل أفترش الخيالا وأغزل من أشعته ظلالا وأملأ من نجوم الأفق جيبي وأركب عند مرفئه الهلالا وفيهما كما نرى تأكيد لأن القالب الكلاسيكي قادر ، خلافا لما يظنه بعضهم ، على استيعاب الصورة المبتكرة المربكة ، على شرط امتلاك الشاعر الصناعة العروضية اللازمة وتحصيله الزاد اللغوي الفصيح الثري وتمتعه بقدرات تخيلية خارقة . ففي دراسة خصصناها للصورة الشعرية عند جعفر ماجد خلصنا إلى أن له أسلوبا خاصا في صياغتها يتجسد في ثلاثة ثوابت لا يكاد يحيد عنها هي (3): الانطلاق من فكرة صلبة متماسكة يحرص على أن تكون جديدة أو طريفة . وهذا يتجلى في حضور المرجع ممثلا في المشبه أو المعنى الأصلي أو المكني عنه . الإيغال في التخيل عند تصميم الصورة إلى حد الابتعاد بها مسافات شاسعة عن المرجع . وذلك باستدعائها من عالم الخارق أو بالمبالغة في تجريدها . العودة إلى المرجع بتوفير قرينة ما ، حرصا على التواصل واجتناب الوقوع في الإبهام . ففي البيتين المذكورين أعلاه صاغ الشاعر صورة مركبة من سلسلة استعارات تصريحية ” أفترش الخيال ” ، ” ” أغزل الظلال “، ” أملأ جيبي بنجوم الأفق ” ، ” أركب الهلال ” . هذه الاستعارات يجمع بينها وعاء زمني يضمها كلها هو المفعول فيه ” في الليل ” وتسهم في تشكيلها ثلاثة عناصر مشبه بها ، كلها من لوازم الليل هي : الظلال والنجوم والهلال . وهذا ما جعل منها لوحة متناسقة الأجزاء، متناسبة الألوان . لكن براعة الشاعر لا تظهر في الصياغة العامة للصورة فحسب بل كذلك في المباعدة بين المشبه المحذوف والمشبه به المختار ليقوم مقامه . ففي قوله ” أفترش الليل ” لا علاقة ظاهرة أو خفية بين الوطاء المحسوس المبتذل المحدود في المكان والخيال المجرد المحلق في مساحات لامتناهية . وفي قوله ” أغزل الظلال ” الشبه بالثوب المنسوج ممكن إذا كان أسود . لكن المادة المستخدمة في النسج وهي الأشعة لا يمكن تحويلها في الواقع إلى نتاج أسود اللون . وفي قوله ” ” أملأ من نجوم الأفق جيبي ” البون شاسع بين المشبه – وهو المتاع الذي يحشو به الطفل جيبه – كاللعب والحلوى والنقود وما إليها – والمشبه به وهو النجوم . وكذلك الشأن في قوله ” أركب الهلال ” بحيث لا مناسبة البتة بين السفينة والهلال . فقوة التخيل في هذه الاستعارات الأربع تجسدت في النأي مسافات شاسعة جدا عن المشبه نحو مشبه به لا يناسبه في الشكل ولا في الحجم ولا في الطبيعة ولا في الوظيفة ، إلا أن الشاعر وفاء منه كعادته للسنة الشعرية حرص على إنارة الصورة بضوء المعقول . فإذا هي واضحة كل الوضوح . وذلك بالإشارة منذ البدء إلى أن الصورة برمتها خيالية في قوله ” وأنا في الليل أفترش الخيال” . فيدرك القارئ قيل إتمام البيتين أن كل هذه الاستعارات ما هي إلا ثمار لعدول ينطلق من قاعدة منطقية . ومن ثمة فلعله الشاعر التونسي الوحيد من جيله الذي توفق إلى تحقيق هذه المعادلة الصعبة . ذلك أن توأمه الضديد نور الدين صمود تقليدي خالص في اجتماعياته ، حداثي في وجدانياته ، كتب في كل لون طبقا لمواصفاته . وهنا يمكن القول إن تجربة جعفر ماجد في الشعر مطابقة أو تكاد لتجربة محمود المسعدي في السرد . فتمسكهما بمفهوم الفصاحة التراثي واحد . وأخذهما بتقنيات الكتابة الأدبية العربية القديمة واحد .هذا في الشعر . وذاك في النثر . لكنهما كانا مسكونين ، مع ذلك ، بروح حداثية عالية ربطت كلا منهما وثيق الارتباط بالعصر الذي عاش فيه . وهو ما جعل تجربتيهما وجهين لعملة واحدة ، لا من حيث التوجه العام فحسب وإنما أيضا من الناحية الفكرية .أولم يبرهن جعفر ماجد في مجموعته الموسومة بالأفكار (4) انشغاله مثل المسعدي بقضايا الوجود الإنساني العميقة ، البالغة التعقد؟ وقد عاد إلى معالجتها بعد قرابة الثلاثين عاما على نحو أوسع وأدق في كتابه النثري الرسائل (5) و إن كان لكل منهما شخصيته المتفردة وقناعته الفكرية . فالمسعدي آمن بالأدب الهادف وعد كل ما كتبه نابعا من كفاحه الوطني ،السياسي منه والنقابي ، في حين لم ينفك شاعرنا ينظر إلى الأدب على أنه فن ولاشيء سوى الفن . فالحساسية التراثية (6) لدى الفقيد – وهي قاسم مشترك بين أبرز شعراء القيروان – جعلته لا ينساق بسهولة إلى جاذبية قصيدة التفعيلة التي أغرى بريقها شعراء من جيله وحتى من الأجيال السابقة . قلم يكتب فيها إلا قصائد قليلة نسبيا لا يتجاوز عددها الثلاث والعشرين قصيدة تتوزع كالآتي : 6 في نجوم على الطريق و 3 في غدا تطلع الشمس و 3 في الأفكار و 11 في تعب . ولجعفر موقف معروف من الشعر الحر كان يردده طيلة الستينات وحتى بعدها . وهو أنه لا يقدر على الإبداع فيه إلا من تمرس بالشعر العمودي . وذلك ما عارضه فيه خصومه ، متذرعين بأن الذائقة الكلاسيكية تفسد شعر التفعيلة وبأن النجاح فيه مرتهن بتوفر ممارسه على حساسية جديدة . ولهذا الموقف أثر بين فيما كتبه شاعرنا من قصائد تفعيلة . فقد اتسمت هذه القصائد بحرفية عالية وصرامة صناعية فائقة ، ر بما لإشعار الذين لم يروضوا بحور الخليل وقوافيه ويقبلون منذ البدء على كتابة الشعر الحر بأن ما يأتونه إنما هو من قبيل ركوب السهل . وهل ثمة ما يرادف السهل في الفن غير الرديء ؟ ولنا خير دليل على ذلك في قصيدة ” الملاح ” التي ترقى ، في نظر العارفين ، إلى مستوى أجود النصوص الشعرية التونسية مطلقا . ومنها قوله (7) : إذا ما اشتاق للآفاق ملاح ونادته الى التيه فلم يصبر سأجري مثله فلكا وفي عينيك يا معبودتي أبحر ومثلها قصيدة ” اللباس الأزرق ” التي يقول فيها : وفي لحظة بين لفتة جيد وهزة خصر تغير في الكون ما كان فيه وغير عمري وأصبح أجمل مما أراه وأصبح أكبر من منتهاه وأزرق أزرق في كل شبر وأدركت أني بلغت السماء وجزت النجوم لأكتب فيها …قصيدة شعر بل إننا لنلمس المتانة والصلابة أنفسهما حتى في القصائد المنثورة التي أخذ يكتبها بدءا من التسعينات ، بعد أن اقترن اسمه طيلة سنوات بالرفض المبدئي وعلى نحو قطعي حاسم لهذا الضرب من الكتابة و عرف بالتصدي الصريح المباشر لممارسيه . ففي نهاية الستينات وقف داخل هيئة التحرير الاستشارية لمجلة ” الفكر ” ضد تيار ” غير العمودي والحر ” الذي تنسب إليه و إلى نورالدين صمود تسميته . وهي تنطوي ، فيما قيل ، على محاولة من لدنهما في إقصائه من حيز الشعر . ولقد كنت واحدا من شهود عيان كثيرين على هذا الموقف .. فقد حدثت بيني وبينه سنة 1969 بمقهى باريس بالعاصمة مشادة كلامية بسبب مساندتي ل ” غير العمودي والحر ” أدت إلى حدوث قطيعة بيننا استمرت حتى سنة 1996 . لكن الروح الحداثية للرجل لم تلبث ، مع توالي السنين ، أن خففت من حدة هذا الموقف المتصلب إلى أن قلبته إلى نقيضه في بداية التسعينات . وذلك بأن أصبح يكتب في ذلك اللون الذي كان يقاومه وينفي عنه صفة الشعر . وإذا تأملنا النصوص التي نشرها من هذا الجنس وجدناها مطابقة لمواصفات ” غير العمودي والحر ” ذلك الذي استبدلت فيه الأوزان الخليلية بإيقاع النثر العربي القديم وخاصة منها السجع والجناس والتناسب . بل لا تخلو القصيدة أحيانا من بعض تلك الأوزان و إن على نحو عفوي غير مطرد . وهو ما نلمسه على سبيل المثال في هذا المقطع من قصيدته ” مرايا ” التي يقول فيها(8) : هل أعجبك الكون يا صانع ؟ وهل كفاك الخبز يا قانع ؟ الغني اليوم هو الجائع تجري الحياة تجري ولا أدري لماذا كتم سري وأنا أنظر إليك يجري سري مع النهر وأنا أنظر إليك وصوتي يعود إلى صدري وأنا مازلت أنظر إليك ومثلما وفق جعفر ماجد بين القديم والحديث في شعره ونثره الأدبي استطاع أن يوفق أيضا بين صفتي الأكاديمي والأديب . فالصفة الأولى دعمت تشدده في فصاحة اللغة وتمسكه بضوابط الصناعة العروضية وتعلقه بأساليب النثر العربي التراثي وعدم تسامحه في شأن أي خطإ معرفي أو خلل منهجي . فقد غدا من قبيل المعتاد عندي منذ عدة سنوات أن يهتف إلى جعفر حتى في ساعة متأخرة من الليل أحيانا ليعلمني بلحن وقع فيه جامعي أو شاعر في برنامج إذاعي أو تلفزي أو بصدور مجموعة شعرية أو رواية لشاعر أو كاتب معروف شابتها نقائص فادحة من جهة الصياغة أو المحتوى أو بعملية سطو أدبي أو علمي ارتكبها أحدهم . وكان في كل مرة ينهي المكالمة بعبارة يشحنها بنبرة ساخرة ويتبعها بقهقهة مدوية . ومن الطرف الكثيرة التي رواها لي من هذا القبيل وظلت راسخة في ذهني أن جامعيا شارك معه في الامتحان الشفوي لمناظرة التبريز فخطأ مترشحا استعمل اسما منصوبا في جملة اسمية مصدرة باسم الإشارة ” هذا ” نحو : “هذا محمد واقفا ” مشيرا عليه برفع اللفظ الأخير كذا ” واقف ” . وذلك لجهله أن الوقوف هنا قد حدث في زمن الإشارة . وهو ما يوجب نصب ذلك اللفظ على الحالية (9).ويواصل رواية طرفته قائلا إنه خاطب في الحين هاتفيا الشاعر محمد مزهود وهو في القيروان وأعلمه بالحادثة . فما كان منه إلا أن استشهد بالآية الكريمة ” هذا بعلي شيخا” ( هود 72 ) ثم أضاف إليها بيتا من الشعر في منتهى الطرافة ارتجله بتلك المناسبة وعرض فيه بذلك الأستاذ الذي يخطئ الطلبة في النحو عن جهل في امتحان مناظرة التبريز .ولشدة طرافته بقيت أياما لا أتمالك عن الضحك كلما تذكرته حتى في الطريق العام . فيظن بي المارة الظنون . لكن لصفة الأديب فيه الغلبة المطلقة . فلم أره ولو مرة في لجنة من لجان الأطروحات على الرغم من أن اسمه يكون دائما مسجلا في قائمة الحضور التي تقدم للإمضاء . وهو ما جعل مشاركته في مناقشة الأطروحات والرسائل الجامعية نادرة . وكان يبرر لي غيابه بأن المشرف في الغرب تكون له مدونة ضخمة من البحوث الراقية تشكل من حيث المحتوى الفكري والمعرفي مدرسة قائمة الذات . لذلك يتتلمذ عليه الطلبة ليستمدوا منه شرعية الانتماء إلى زمرة الباحثين العلميين . لكن المشرف عندنا – وليس لديه في أكثر الأحيان سوى أطروحته وبعض العناوين القليلة – يحيط نفسه بالطلبة ليستمد منهم شرعية الانتماء إلى فئة المشرفين . ويضيف قائلا بلهجته الساخرة : ” ويا خيبة المسعى ” . وحين بلغ الستين من عمره لم يتقدم كغيره من الأساتذة بمطلب في التمديد .فلقيته بدار الخدمات العامة للنشر حيث اعتاد رقن موضوعات المجلة وتهيئتها للنشر . فسألته عن السبب . فأجابني – وهو يحمل ملفا ضخما يحوي موضوعات عدد كامل – قائلا : ” خروج مثلي ومثلك من الجامعة ليس تقاعدا لأن الشاعر أو الكاتب لا يتقاعد ” ثم أشار بالملف الذي يحمله قائلا : ” هل أنا كما تراني متقاعد ؟ ” . ومقابل تغيبه المتواصل عن اجتماعات اللجان العلمية كان له حضور قوي في الساحة الثقافية شاعرا ومعدا بل مقدما للبرامج الإذاعية وكاتبا للأغنية ومديرا لمجلة أدبية وناشرا . فكان لا يرى إلا وهو يستحث الخطى نحو مكتبته ” رحاب المعرفة” بباب سويقة أو في اتجاه المطبعة التي يطبع فيها مجلته أو في رفقة شعراء أو أدباء أو مطربين أو ملحنين أو صحافيين . ولوجوده على نحو مستمر في قلب الوسط الثقافي لم يكن من السهل عليه تفادي الصدام مع يحملون رؤى غير رؤيته . لذلك خاض معارك كثيرة على أعمدة الصحف وصلت تداعيات بعضها إلى المحاكم . وهنا لا يفوتنا الحديث عن الحساسية المفرطة للرجل . وهي شبيهة من حيث القوة لا النوعية بحساسية الشابي التي قال فيها : والشقي الشقي من كان مثلي في حساسيتي ورقة نفسي فحساسية أبي القاسم المتناهية الشدة هي التي أسهمت بلا شك في وفاته المبكرة لجديته المفرطة . أما جعفر فكان له سلاح فتاك وهو سخريته الجارحة التي يقرأ لها أعداؤه ألف حساب . وكان رحمه الله يفرق بين الخصم والعدو . فكان يقول لي : ” الخصم هو الذي يختلف معك في الرأي . وهو يفيدك أكثر من الصديق لأن نقده إياك يحفزك على إصلاح نفسك في حين أن الصديق يخفي عليك عيوبك لمجاملتك فلا تتفطن إليها . وأما العدو فإن غايته الأولى والأخيرة هي تدميرك والقضاء عليك . لذلك لا يتورع عن اللجوء إلى الأسلحة غير المشروعة للإيقاع بك كالكذب وتلفيق الشائعات والوشاية وتأليب الناس عليك . وقد كان يعرف أعداءه جيدا ولا تغيب عنه تحركاتهم ضده . فيخص كلا منهم بقصيدة هجائية ساخرة يرسم له فيها صورة كاريكاتوية في منتهى الفظاعة . فكان كلما قرأ علي واحدة منها في الطريق العام ثم انصرف تركني في مأزق لأني أجد نفسي غير قادر على كبت ضحكي وأنا أسير وحدي في الشارع . وكان طبعا لا يكتبها بل يكتفي بإنشادها على أصدقائه . ولبعض هذه القصائد شهرة واسعة . لكنها من النوع الذي لا يبقي . فقد اندثرت كلها بوفاته . ولقد انعكس هذا الوفاق بين صفتيه الأدبية والأكاديمية على اتجاه مجلته ” رحاب المعرفة ” . فكان يحرص كل الحرص على ألا تكون مغرقة في التخصص حتى تصل إلى أكبر عدد ممكن من القراء . لكنها لا تنزل مع ذلك بأي حال إلى حضيض الانطباع والسطحية والإسفاف . فإذا هي إن شئنا مجلة أدبية ذات نفس أكاديمي أو مجلة أكاديمية لينة لين الفن لكن الفن الراقي الصلب . ومما امتاز به جعفر صراحته ووضوح مواقفه . فلم يكن يجامل البتة بل يفصح عن رأيه كما هو دون لف و دوران أو ديبلوماسية . فما يراه رديئا يقول إنه رديء ، كلفه ذلك ما كلفه من ردود فعل سلبية على أقواله . فمقالي ، مثلا ، عن ترجمة أحمد الرمادي لشعر نور الدين صمود الذي صدر ب”رحاب المعرفة ” (10) لم يعجبه . فحين وصله واطلع عليه هتف إلي قائلا : ” لقد بالغت في تقديرك للترجمة والنصوص الأصلية . وهي عندي متواضعة ” . فأجبته ” يا جعفر أعرف موقفك من شعر نور الدين صمود منذ زمن بعيد . ونحن مختلفان فيه . فإن شئت نشرت المقال فافعل وإلا فلا تنشره ” . فقال :” طبعا سأنشره . لأني لن أتحمل أي مسؤولية . أما أنت فستتحمل أمام التاريخ تبعات ما كتبته ” . و لكن حين صدرت المجلة وجدته قد نشره . وفي ذلك رحابة صدر لم تفاجئني . وللتاريخ أشهد بأنه لم يرفض لي في مجلته طيلة الاثنتي عشرة سنة التي مضت على صدور عددها الأول إلا مقالا واحدا كنت أعلم أنه لن يستطيع قبوله . وهو نص محاضرة ألقيتها بمقر اتحاد الكتاب التونسيين في ندوة اشترك في تنظيمها الاتحاد مع مؤسسة جائزة البابطين حول الشعر التونسي (11 ) . وكان موضوعها – وقد طلب مني الحديث فيه ولم أختره بنفسي – مقارنة بين تجربتي جعفر ماجد ونور الدين صمود الشعريتين. وقبل إلقاء المحاضرة بيوم أعلمني بأنه سيحضر لسماعها . لكنه في اليوم الموعود تغيب مقابل حضور نور الدين صمود . وفي ليلة ذلك اليوم هاتفني سائلا إياي عما قلته في محاضرتي . فلخصتها له . وبعد أن أكملت كلامي سألني : ” أو تعلم أن من أسس المنهج المقارن وجود نقاط اتفاق ونقاط اختلاف بين العنصرين المقارن بينهما ؟ أما إذا اختلفا تماما فكيف تجوز المقارنة ؟ ” ففهمت قصده . وأجبته في الحين : ” أنا أزعم أني وجدت نقاط اتفاق بينك وبين نور الدين صمود” . فقال ” لا إله إلا الله ” ثم قهقه كعادته . و قطع المكالمة ” . و تعمدت بعد يومين أو ثلاثة إرسال المحاضرة إليه ليطلع عليها ، مع يقيني مسبقا هذه المرة بأنه لن ينشرها . وهو ما حصل . ولو لم تتعلق به شخصيا لنشرها مهما كان محتواها . وكان كلما أصدرت كتابا وأهديته إياه فرح به شديد الفرح ويقول لي ” هذا هو الذي سيبقى ” . ثم يفاجئني في العدد الموالي من المجلة بنشر صورة كبيرة الحجم لغلافه تملأ وجهها الخلفي . وحين أشكره يقول لي : ” أنا لا أخدمك أنت بل أخدم الأدب التونسي . وخدمتي للأدب التونسي واجب لا أطلب شكرا عليه ” . خاتمة تلك هي ، بإيجاز شديد ، الملامح البارزة لشخصية فقيد الأدب التونسي جعفر ماجد كما عرفته وخصائص تجربته الشعرية كما لاحت لي من نصوصه . وهما متلاحمتان ، متناغمتان ، متنافذتان مثلما هو الشأن عند كبار الأدباء الذين ظهروا عبر التاريخ عند مختلف الشعوب والأمم . ذلك أن تاريخ الأدب العالمي لم يحتفظ بأي اسم في الشعر أو السرد كانت توجد قطيعة أو حتى علاقة سطحية بين حياته وآثاره . لكن أهم من ذلك تميز شخصيته وتجربته إلى حد يجعلهما يؤلفان مدرسة هي التي وصفناها في عنوان هذا الفصل ب ” الماجدية ” . وهذه الصفة استعملناها لأول مرة في محاضرة عن شعر الراحل في ندوة انتظمت بقصر ” بيت الحكمة ” سنة 2001وخصصت للاحتفاء بصدور أعماله الشعرية .فجعفر ماجد هو فعلا مدرسة . وهو من الأسماء القليلة التي سيحتفظ بها تاريخ الأدب التونسي إلى الأبد . فما نحن متأكدون منه هو أن اهتمام الأجيال اللاحقة به سيكون أشد وأعظم شأنا بكثير مما وجده في حياته . هوامش : 1- جعفر ماجد ، نجوم على الطريق ، الدار التونسية للنشر ، تونس 1968 2- جعفر ماجد ، الأعمال الشعرية ، منشورات ” رحاب المعرفة ” ، تونس 2001 ص 43 3- انظر : محمد صالح بن عمر ، أصوات شعرية من تونس ، دار إشراق للنشر ، تونس 2009 ص 51 4- جعفر ماجد ، الأفكار ، الشركة التونسية للتوزيع ، تونس 1981 5- جعفر ماجد ، الرسائل – رسائل إلى الشعراء والكتاب العرب في الزمن الغابر ، منشورات ” رحاب المعرفة ، تونس 2003 6- انظر : محمد صالح بن عمر ، من قضايا الشعر الحديث والمعاصر ، دار إشراق للنشر ، تونس 2008 ص ص 71 – 84 7- جعفر ماجد ، الأعمال الكاملة ، منشورات ” رحاب المعرفة ” ، تونس 2001 ص 105 8- جعفر ماجد ، نفسه ص 392 2017-04-26 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet