قراءةٌ في مجموعةِ الوحشة الآهلة (1) للشّاعر التّونسيّ الهادي الدّبّابي : محمّد صالح بن عمر 2 يونيو,2016 سئل الهادي الدّبّابي في حوار أجرته معه صحيفة ” أضواء ” التّونسيّة (بتاريخ 11 / 11 2001 ص 7) “ألا تلاحظ أنّ بين الشّعر المغرق في الغموض وخطاب الجنون خيطا رفيعا ؟ ” فأجاب : “إنّ الجنون هر الرَّحِم الأولى التي تخرّج فيها الفلاسفة والشّعراء طبعا . و المجد في ألاّ يفهمك أحدٌ ” . الشّاعر التّونسيّ الهادي الدّبّابي تتراءى لنا في مجموعة ” الوحشة الآهلة ” للهادي الدبّابي ثلاثة مستويات مفيدة متراكبة لكنْ متنافذة متفاعلة، أعمقها ذهنيّ وأوسطها نفسانيّ وأدناها جماليّ . فكيف تلوح الذّات الشّاعرة في كلّ مستوى من هذه المستويات ؟ وما هي ملامح العالم الشّعريّ الذي أنشأته ؟ 1- المستوى الذهنيّ : لقد عددنا المستوى الذّهنيّ المستوى الأعمق في هذه المجموعة ، لثلاثة أسباب :الأوّل هو تعمّد الشاعر إبرازه و إعلانه عنه في القصيدة التي اختار عنوانها عنوانا للمجموعة . وهي قصيدة “الوحشة الآهلة ” والثّاني حضوره المكثّف في معظم القصائد والثّالث تولّد المستويين النّفسانيّ والجماليّ عنه وإسهامه على نحو بارز في تشكيلهما . يتأسّس المستوى الذّهنيّ في المجموعة على ازدواج الذّات الشّاعرة .وهو ما يصرّح به على لسانها عند تعريفها بنفسها في القصيدة الأساس “الوحشة الآهلة ” التي خصّصها لهذا الغرض. وقد جاء فيها قوله (2) : أنا الأسماءُ كلُّها لم تلدْني الأمّهاتُ أنا المُهِينُ المَهِينُ البهيُّ الصّامتُ الصّوّانُ القصيُّ الضالُّ الضّليلُ المهديُّ الواضحُ الغامضُ العذبُ الأُجاجُ القاحلُ الخصيبُ الوعْدُ الوعيدُ السّمْحُ العليُّ الفاروقُ الفقيرُ الغنيُّ العاشقُ الشّاعرُ الظّاهرُ الباطنُ العَلْقمُ الشّهيدُ لقد وردت في هذه القصيدة ثلاث وعشرون ثنائيّة تقابليّة تتألّف كلّ منها من صفتين إحداهما سلبيّة والأخرى إيجابيّة. وإذا نظرنا إلى هذه القائمة من الثنائياّت عموديّا لاحت لنا مجموعتان متباينتان تحيل كلّ منهما على شخصيّة مناقضة للأخرى. فالأمر لا يتعلّق بشخصيّتين مختلفتين متعايشتين في صلب الذّات الشّاعرة وإنّما بتصوّرين متناقضين لشخصيّة واحدة. وذلك لاستحالة أن يتّصف الشّيء ، في آن واحد ، بالعلوّ والانخفاض ، بالوضوح والغموض ، بالحلاوة والمرارة ، بالحياة والموت. فالذّات الشّاعرة تعاني، فيما يلوح من هذه القصيدة، أزمة في تمثّل نفسها. ولمثل هذه الأزمة، وجوبا، انعكاس على معاملة تلك الذّات لمحيطها الخارجيّ. وأبرز مظهر لهذا الانعكاس فقدانها الاتّصال الحيويّ بالواقع. وهي الحالة المسمّاة فُصاما (*) . لقد عرّف قاموس “لاروس الصّغير في الطبّ ” Petit Larousse de la Médecine ) الفَصام بأنّه حالة عقليّة من جنس الذُّهان (“) يكون الإنسان عرضة لها خاصّة في بداية الكهولة. وهو عبارة عن انفصال يطرأ على الحياة الذّهنيّة للفرد. وهذا المعنى شديد التّواتر في المجموعة. من ذلك قول الشّاعر (5): لم أذهبْ بعيدًا ولكنْ قفزتْ داخلي لأطردَ السّأمَ وأحصيَ نجومي المطفأةَ ومن أنسب الاستعارات التي اهتدى إليها لتمثيل انطواء الذّّات الشّاعرة تشبيهه إيّاها بالشّكل الخطّيّ لحرف الهاء في قوله (6): إنّى أنا الهاءُ ملتئمةً هذا العالم الدّاخليّ يتّصف بثلاث صفات لافتة هي : الضّيق والوحشة والسّواد. والإشارات إليها في المجموعة كثيرة. من ذلك (7): وسعتني واوُ الوحشةِ *** إنّي أنا المهجورُ مُقامي ضيقُ بيتِكَ ومهجورةٌ أضلعي *** مولاي أضلعي ممدودةٌ وقلبي أبدًا يضيقُ *** أضلعي قفصٌ *** سبعُ حجراتٍ ضيّقةٍ في البيتِ المهجورِ والظّلامُ حالكٌ *** بيتٌ مهجورٌ ورائحةٌ تتغلغلُ في حشائشِ الأرضِ أمّا السّواد وما يتّصل به كاللّيل والظّلام ومشتقّاتهما فقد بلغ عدد تواترها 20 مرّة . وبالإضافة إلى الانطواء يتسبّب الفُصام في نوبات متلاحقة من الهذيان مردّها إلى اختلال حادّ في وظائف الإدراك (8) وهذا الضّرب من الهذيان يتردّد بكثافة في المجموعة . من ذلك المقاطع التاّلية (9) : لسانٌ مقطوعٌ يكرّرُ- بنَهَمٍ- شتائمَهُ بينما الظّلامُ يتّخذُ شكلَ أريكةٍ وثيرةٍ *** امرأةٌ تشقى ……………. تفكّكُ أعضاءَها في شرودٍ وتفركُ بمفاتنِها فروةَ جُندبٍ أعمى *** باليمنى تمنحُ القطّةُ الحليبَ دسمًا في طسْتٍ من نحاسٍ وباليدِ الثّانيةِ تتجرّعُ السُّمَّ واثقةً بمِلعقةٍ من فضّةٍ في هذه المقاطع وأضربها يتّخذ الواقع صورا موغلة في الإغراب. فيغدو المُحال ممكنا، كهذا اللّسان المقطوع الذي ينطق أو كهذه المرأة التي تفكّك أوصالها بنفسها في غير ألم وتداعب جُندُبا أعمى من فصيلة نادرة أو غير موجودة إذ هو جندب ذو فروة. ومن مظاهر الفُصام أيضا هيمنة فكرة الحاجز على ذهن المُصاب (10). وهو ما يلوح في هذه المقاطع (11): تعثّرتُ بحواسِّك إليك أردتُ الصّراخَ فأُغلقَ فمي *** وعرةٌ دروبُ الأوْبةِ يا أبتِ وزادي قليلٌ *** فلِمَ كلّما هِمتُ بالبلادِ غلّقتْ فروجَها دوني؟ *** كان عليَّ أن أحضنَ وحدتي برقّةٍ شرسةٍ وأقضمَ أصابعي- هكذا- وأضمَّ قبضتي كي أكفَّ عن قرعِ الأبوابِ الموصدةِ ومن اللّوازم الأخرى لهذه الحالة الأفكارُ والتصوّراتُ المتناقضة (12 ). ومن هذا القبيل تعترضنا في المجموعة صور كثيرة، منها السّقوط إلى أعلى والطولُ بلا قامة والحلزونً الذي يلد نفسه واحديدابُ العجوز في استقامته والكتابةُ بحليب المحو( 13 ). ومن أعراض الفُصام أيضا ميل الفرد إلى توهّم تحوّلات خارقة تطرأ على شكله الجسميّ أو كيانه النّفسيّ (14). وفي مجموعة “الوحشة الآهلة” تعترضنا صور عدّة من هذا الضّرب من التّحوّلات. من ذلك أنّ الذّات الشّاعرة تبدي رغبتها في أن تُختزل، على التّوالي، في كلّ حاسّة من الحواسّ الخمس ( 15 ) . ودِدتُ أن أكونَ سمعًا خالصًا كي أتنصّتَ في الجهاتِ ……………………………. ودِدتُ أن كون بصرًا ثاقبًا كي أفيضَ بظلماتي على أنوارِك …………………….. ودِدتُ أن أكون شَمًّا لا يُضاهى كي أستنشقَك ……………………….. ودِدتُ أن أكون لمسًا ماكرًا كي أدخلَ في طاعةِ الجوعِ إلى عُريك ……………………… ودِدتُ أن أكونَ لسانًا نقيّا كي أحدّثَ بعسلك ……………….. وتتوهّم نفسها أنثى كما في قول الشّاعر (16): فُضّني كأنّي آخرُ أنثى كأنّك جميعُ الذّكورِ وتتماهى مع الشّكل الكتابيّ لحرف الهاء (17): إنّي أنا الهاءُ ملتئمةً وتتصوّر ذاتها- وهي الواحدة- مستعصية على العدّ (18): أعدُّني لا أُحصى ويورد قاموس “لاروس الصّغير في الطبّ ” أربع صفات أخرى يمكن أن يتّصف بها المفصوم. وهي جنون العظمة * والنّزوع الصّوفي والانشغال بأعماق الكون (19). ونجد لكلّ من هذه الصفات حضورا مهماّ في نصوص المجموعة. فالشّعور المفرط بالعظمة يظهر جليّا في القصيدة الأساس التّعريفيّة “الوحشة الآهلة” (20) حيث تكاد الصّفات الإيجابيّة التي وصفت بها الذّاتُ الشّاعرة نفسَها صفات كائن علويّ لا بشريّ عاديّ ،كالبهاء والصّون والهداية والوضوح والعذوبة والخصب والعلوّ والعدالة والغنى والعشق والعذوبة والطّهارة والسّطوع والقوّة والرّحمة وما شاكلها. وأمّا النّزعة الصّوفيّة فهي قويّة الحضور في المجموعة، بدءا من هذا القول للحلآج الذي صدّرها به الشّاعر: كفى حزنًا أنّي أناديكَ دائبًا كأنّي بعيدٌ أو كأنّكَ غائبٌ وتظهر هذه النّزعة في الاحتفاء بالنّور والرّوح والقلب والصّلاة وفواتح السّور القرآنيّة وتقمّص شخصيّة النّبيّ ساعة نزول الوحي عليه لأوّل مرّة والرّغبة في التحوّل إلى حواسّ للاقتراب من الحقيقة السّرمديّة والحنين إلى عواصم الشّرق الأقصى الإسلاميّة كبخارى وسمرقند. ويتّصل ، بذلك ، الانشغال بأعماق الكون إلى حدّ تخيّل الصّعود إلى السّماء كما في قول الشاعر (21): أوقفَني في الزّرقةِ وقالَ : اصعدْ فتصدّعتُ أحرفًا معدودةً وأنجُمًا لا تُحصى وهكذا ففي المستوى الذّهنيّ تلوح الذّات الشّاعرة متوزّعة في تمثّلها لنفسها بين تصوّرين متناقضين. وهو ما أصابها بفُصام اضطرّها إلى القبوع في سجن عالمها الدّاخليّ الضيّق الحالك وأخلّ بوظائفها الإدراكيّة. 2- المستوى النّفسانيّ: لقد أثبت علم تحليل النّفس أنّ وراء كلّ ذُهان أسبابا نفسانيّة عميقة (22). ففي ما يخصّ الفٌصام أرجع بعضهم أسبابه إلى المرحلة الأولى من الطّفولة حيث تنجرّ عن الاضطراب العاطفيّ الذي قد يطرأ على علاقة الطّفل بأمّه أو بأبيه هشاشةٌ بالغةٌ في شخصيّته تجعلها عرضة للانهيار فيما بعدُ عند تلقّي أوّل صدمة شديدة ( 23 ). وذهب آخرون إلى أن المتسبّب في هذه الحالة هو حضارة العصر التّكنولوجيّة الصّاخبة التي أناخت بكلْكلها على الكائن البشريّ وأوقعته في الاستلاب * (24). ويعترضنا في مجموعة ” الوحشة الآهلة ” حنين معلن إلى ثدي الأمّ، رمز الجنّة الضائعة التي يتمتّع فيها الطّفل بالطّمأنينة والحماية قبل أن يتلقّفه الواقع بعراقيله ومخاطره وأتعابه. يقول الشّاعر (25) : باكرًا انتصبتْ قامتي خلفَ فراشاتِ الدّهشةِ فردّني عطشي إلى ثديِ الأمِّ ولكنّ هذا الحنين ليس خالصا وإنّما هو مشوب بالتنّكر على اعتبا ر أنّ صورة الأمّ تبقى مقترنة في اللاّوعي الجماعيّ بالخطيئة لأنّها هي التي تسبّبت في تزول الإنسان من جنّة الخلد إلى الأرض المليئة آفات وشرورا . يقول الشّاعر (26) أنا الماكثُ في عثرتِها الأولى ثديِ أمّي وفي السياق نفسه ينتاب الذّات الشّاعرة الحنين إلى التّراب الذي هو أيضا رمز للأم باعتباره مصدرا للخصب، إلاّ أن هذا الحنين يصدر في نظر فرويد (Freud ) من غريزة سلبيّة هي غريزة الموت* ( ) .وذلك لأنّ الإنسان قبل أن يخلق كان لا شيء . فمن الطّبيعي أد يبقي يحنّ لا شعوريّا إلى الحالة التي كان عليها قبل خلقه (27) ولذلك يكون الحنين إلى التراب بمنزلة الحنين إلى الموت ورحم الأمّ في آن واحد . يقول الشّاعر (28) : إنّي.. أنا المهجورُ لم أجدْ غيرَ التّرابِ أكونُهُ ويقول (29) ثمةّ التّرابُ تحتَ قدميك هل عندكً نبأٌ صلّتْ له حواسّي مجتمعةً وليس ثقة مانع من أن تكون هذه الحالة الذّهانيّة العصابيّة ناشئة عن السّبب الثاّني الذي سبق بيانه. وهو تأثير المحيط الاجتماعيّ الحضاريّ. ذلك أنّ اللّواذ بعالم الذّات المغلق يكاد يكون خصيصة يشترك فيها كلّ الشّعراء التّسعينيّين التّونسيّين وربّما العرب. وهو ما يشي بأنّ هذه الحالة هي حالة جيل بأكمله ليس الشّعراء سوى فئة من فئاته. فهذا الجيل قد صدمه التّحول المفاجئ الذي طرأ على المنظومة الدّوليّة في أواخر الثّمانينات والذي أدّى إلى انهيار الإديولوجيات وانتصاب قوّة واحدة آسرة تتحكّم في مصاير الشّعوب وتدير شؤون العالم وفق مشيئتها المطلقة. وقد لمس الشّاعر العربيّ أكثر من غيره مدى تجذّر هذه القوّة إثر الحرب المدمّرة التي شنّتها على الشّعب العراقيّ ثمّ إمعانها في إيذائه بفرض حصار جائر عليه وكذلك في رعايتها للكيان الصّهيونيّ وتغاضيها عن جرائمه المتكرّرة في حقّ الشّعب الفلسطينيّ. فمن الطّبيعي أن تُحدث مثلُ هذه الصّدمة رجّةً عنيفة في نفوس شعراء هذا الجيل تؤدّي لدى أشدّهم حساسية إلى الإصابة بداء الفُصام. 3- المستوى الجماليّ: لقد بيّن علم تحليل النّفس أنّ الفُصام هو حالة استلاب عميق تنشأ عن فقدان المصاب صلته بالواقع تماما. وتؤدّي هذه الحالة، بديهيا، إلى ازدهار الحلم الدّاخلي والانقطاع إليه. فتتفجّر في أعماق الذّات ينابيع الإلهام وتفيض في اللّغة سيول الشّعريّة الخالصة. لكن تعبير المفصوم غالبا ما يتخّذ طابعا رمزيّا تتكثّف فيه الإشارات إلى عالم متخيَّل يجد المصاب فيه ملجأ يأوي إليه وسندا يحميه (30). وإنّ هذا لينطبق على مجموعة الوحشة الآهلة التي تنزع الذّات الشّاعرة فيها إلى عالم سحريّ بديع مناقض للعالم الكابوسيّ الحالك الذي يجسّده الواقع الخارجيّ. وقد صوّر الشّاعر ملامح ذلك العالم البديل على هيئات مخصوصة هي أشكال الحروف العربيّة، مستثمرا الطاقات الإيحائيّة لخطوطها العموديّة والمُقوّسة والمحدّبة والمُعرّقة والمُسنّنة ونُقَط إعجامها في إنشاء مناخ عربيّ إسلاميّ خالص هو بمنزلة الدّرع التي تقي الذّات من خطر الذّوبان . لقد كشف الإحصاء عن وجود ثلاثين صورة شعريّة اُستنبطت من الخصائص الخطّيّة أو الصّوتيّة للحروف العربيّة. فالحرف قد يتّخذ محلاّ للتموضع كما في قول الشّاعر (31) : وسِعتْني واوُ الوَحشةِ وقد تتماهى الذّات الشّاعرة وإيّاه نحو (32) : إنّي أنا الهاءُ ملتئمةً وقد تتّخذ موقعه من الكلمة أو رتبته ضمن مجموع حروف الهجاء رمزا إلى البداية أو الكُنْه أو النّهاية كما في هذه الأمثلة (33) : انعطافُ الظامئينَ أبدًا إلى قلبي في ياءِ اللّيلِ * * * ألِفٌ بكَ ياءٌ بنفسي *** مرتبكًا أرمّمُ من شكلي وأمضي مكتظًّا بي في ياءِ التّعبِ *** اللِّحيَةَُ ياءُ التّلاشي وفتنةٌ أشدُّ وقد تشخّصُ الحروف لتقام علاقات بينها أو بينها وبين الذّات الشّاعرة كما في قول الشّاعر (34) : نونُ الموتى في طاعةِ الألف أو في قوله (35) : ليلى سدرةُ المنتهى عدوى المسرّةِ والألفُ أتمَّ نعمتَهُ عليَّ ولعلّ نُقَط الإعجام أكثر عناصر الخطّ العربيّ استثمارا في استنباط الصّور الشّعريّة .ويلفتنا هنا الإلحاح على نقطة الباء رمزا لمرموز إليه قابل لتعدّد التآويل، كما نلاحظه في هذه الأمثلة ( 36) : ولكمْ في نقطةِ الباءِ ما تشتهونَ *** ليلى يا كنزي الأبقى يا نقطةَ الباءِ وبيتَ المعنى *** نقطة الباء هي المسألة فهل تستمدّ هده النقطة أهمّيتها من كونها نقطةَ أّوّل حرفِ مُعجَم ( أي منقوط ) من حروف الهجاء . وهو ما يجعلها رمزا للبداية مطلقا ؟ وتعمل المخيّلة عملها في الكائنات الحيّة والأشياء فتحوّلها على نحو خارق إلى نقاط إعجام كما في هذه الأمثلة (37) : لا أريدُ من هذه الأرضِ غيرَ حصاةٍ أثبِتُها بيدي اليمنى نقطةً فوقَ نونِ اللّعنةِ *** ليلى نونُ نوحٍ *** أقتلعُ رأسَ المشهدِ أكوّمُه نقطةً تحتَ قاربٍ مثقوبٍ هذا الإبحار في إيحاءات حروف الهجاء العربيّة تُحقّق به الذّات الشّاعرة توازنها إزاء عُدوانيّة المحيط الخارجيّ المُعَوْلَم . ومن ثمّة يتّضح أنّ فعل الشّراسة العَوْلمِيّة رغم أثره السّلبيّ العميق في الذّات المبدعة ذهنيّا ونفسيّا لقاصر عن إدراك منتهاه . وذلك لما يتولّد عنه آليّا من ردّ فعل قويّ من لدن الشّاعر العربيّ يتجسّد في ضرب من التمترس وراء الهُويّة . خاتمة : إنّ هذه المجموعة الشّعريّة “الوحشة الآهلة ” التي وسمها صاحبها بعنوان يتألّف من صفة ” الآهلة” مناقضة لموصوفها “الوحشة” تتنزّل في صميم الشّعر التّسعينيّ التّونسي الذي استطاع أن يستوعب خصوصيات هذه المرحلة التّاريخيّة الصّعبة الواصلة بين قرنين وألفيّتين وأن يستلهم منها في مستوى الكتابة إنشائيّات جديدة تختلف من تجربة إلى أخرى .فلقد استثمر الهادي الدّبّابي الدّلالات الرّمزيّة الشّديدة الثّراء لأشكال الخطّ العربيّ والطّاقات الإيحائيّة العارمة التي تنطوي عليها في إنشاء مناخ شعريّ مخصوص تفرّد به دون باقي أبناء جيله من شعراء التّسعينات مع اشتراكه وإيّاهم في التّعبير عن الهموم نفسها. الهوامش : 1- الهادي الدبّابي ، الوحشةُ الآهلةُ ، أسود على أبيض ، تونس 1999 2- المصدر نفسه ص ص 49 -50 Petit Larousse de la Médecine , ( Collectif ) , Librairie Larousse , Paris 1976 T 2 p 825 – 3 4- المصدر نفسه ص 825 5- الهادي الدبّابي ، الوحشة الآهلة ص 71 6- المصدر نفسه ص 94 7- المصدر نفسه الصفحات : 8 – 24 – 38 – 48 – 58 -92 – 116 – 8 – 825 PLDM p 9- الوحشة الآهلة ص 62 و ص 66 10 PLDM p 825 11- الوحشة الآهلة الصفحات : 16 – 42 – 53 – 72 12 PLDM p 825 13- الوحشة الآهلة الصفحات : – 71 – 103 – 108 – 114 – 134 – 154 PLDM p 825 14 15- الوحشةُ الآهلةُ ص ص 10 – 14 16- المصدر نفسه ص 84 17- المصدر نفسه ص 94 18- المصدر نفسه ص 131 PLDM p 825 19 20- الوحشة الآهلة ص ص 47 + 53 21- المصدر نفسه ص 34 Freud(Sigmund),Introduction à la psychanalyse , Petite bibliothèque Payot , Paris 1971 pp 225 – 238 22 PLDM p 825 23 24- المصدر نفسه ص 826 25- الوحشة الآهلة ص 70 26- المصدر نفسه ص 138 Freud(Sigmund),Essais de psychanalyse Petite bibliothèque Payot, Paris 1971 p 18 27 28- الوحشة الآهلة ص 24 29- المصدر نفسه ص 88 Daco (Pierre),Les triomphes de la psychanalyse ,Bibliothèque Marabout , Ed. Gérard et c V, Belgique 1968 p 276 30 31- الوحشة الآهلة ص 8 32- المصدر نفسه ص 94 33- المصدر نفسه الصفحات : 96 – 131 – 139 35-المصدر نفسه ص 110 35-المصدر نفسه ص81 36-المصدر نفسه الصفحات : 10 – 79 – 104 37- المصدر نفسه الصفحات : 78 – 80 – 130 المصطلحات : * الفُصام ( La schizophrénie ) * الذُّهان ( La psychose ) *العُصاب ( La névrose ) * جنون العظمة ( La mélogamie ) * غريزة الموت ( L’instant de mort ) * الاستلاب (L’aliénation ) 2016-06-02 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet