قراءة في تجربة الشّاعرة السّعوديّة أشجان هندي من خلال مجموعتين من مجاميعها الشّعريّة : محمّد صالح بن عمر 3 أبريل,2016 أشجان هندي تعكس مجموعتا أشجان هندي للحلم رائحة المطر (1) ومطر بنكهة اللّيمون (2) في الظّاهر تجربة واحدة مسترسلة. فقصائد المجموعة الأولى مؤرّخة من سنة 1986، إلى سنة 1999وقصائد الأخرى تليها مباشرة، إذ كتبت بين سنتي 1999 و 2004. وإ ذا اعتبرنا أن ثلاث قصائد تحمل تواريخ من السّنوات الثّمانين فإنّ الشّاعرة تعدّ عمليّا من جيل التّسعينات. وهو جيل تميّز بكونه جيلا مصدوما مكلوما لأنّ انطلاق تجربته تزامن وقيام النّظام العالميّ الجديد الذي رفع المبشّرون به والمنظّرون له في القسم الشّماليّ من الكرة الأرضيّة شعارات تُنذر بالويل والثّبور للعرب والمسلمين ، من قبيل صِدام الحضارات ونهاية التّاريخ ، مع الإعلان عن مخطّطات جهنّميّة تهدّد بالقضاء المبرم على هوياّت الشّعوب الأخرى وفي مقدّمتها الهويّة العربيّة الإسلاميّة حتى يتسنّى إحلال النّمط المعيشيّ للقطب الوحيد الأوحد الذي انفرد بالهيمنة على العالم محلّها. لقد تلقّى جيل التّسعينات من الشّعراء العرب هذا الوضع على أنّه كارثة، لاسيّما في غياب بوادر توحي بإمكان زواله. وذلك بحكم ضعف العرب وتصدّع صفوفهم. وهو ما جعله يهجر الخطاب الحماسىّ الذي انساق إليه معظم شعراء الأجيال السّابقة لتضاربه مع الواقع، مفضّلا إمّا الانكفاء على الذّات والإبحار في عوالمها القصيّة الخفيّة إمّا للهروب من ذلك الواقع وإمّا للتشبّث بما تبقّى من الهويّة وإمّا من جرّاء قوّة الصّدمة. ولقد أدّى هذا التوغّل في أعماق الذّات من لدن كلّ شاعر تسعينيّ إلى الكشف فيها عن كون مختلف يخضع لقوانين من جنس آخر يحكمها منطق خاصّ هو منطق اللاّوعي والحلم والخيال. ولمّا كانت اللّغة في مستوى الاستعمال أداة للتواصل بوساطة علامات تواضعيّة وعلى صعيد بناها العميقة تنطوي على بنية منطقيّة عقليّة فإنّ توسّل الشّاعر التّسعينيّ العربىّ بها يصيبها حتما بضروب شتّى من الكسور والخروق والشّقوق،لا على صعيد التّركيب أو المعجم وإنما في المستوى الدّلالي. فإذا هذا المستوى يخضع على صعيد التّفاصيل لمنطق كون الشاعر الدّاخليّ لا للمنطق العامّ. هنا يكمن إذن لبّ الإشكاليّة. فمن جهة يجد الشّاعر نفسه مدفوعا إلى الإفصاح عمّا يعتمل في عالمه الدّاخليّ الذي يخضع لمنطق مخصوص أو إن شئنا للاّمنطق بحكم قيامه على المحسوسات والإدراكات والمُجرَّبات وَفقا لما تصوّره جان كوهان ( Jean Cohen ) ومن جهة أخرى لا يجد بين يديه سوى اللّغة التي يتواصل بها النّاس في محيطه الثّقافيّ وأساسها المعقول والمتداول معرفياّ. فيكون تلقّي خطابه، عندئذ، على أنّه كلام ملغز مبهم أو مجرّد هذيان. ومن ثمّة فإنّ قراءة هذا الضّرب من الشّعر لا تكون حتما منواليّة بل مُنقّبة مسائلة، ساعية قدر طاقة القارئ وجهده إلى رسم ما يمكن رسمه من ملامح كون الشّاعر الدّاخليّ باستنطاق شظاياه المتناثرة على أديم الخطاب. وهو ما يجعل القراءة شبيهة كلّ الشّبه بعمل الباحث الأنطروبولوجيّ الذي يعيد تركيب هيكل عظميّ أو جزء منه لكائن منقرض بتجميع فتات المتحجّرات والتأليف بينها ثمّ تصوّر القطع الناقصة. وهي عمليّة غير مضمونة النّتائج لإمكان مخالفة التصوّر لما هو واقع حتما. ومن جهة أخرى فإنّ المجموعتين على صدورهما عن ذات شاعرة واحدة واسترسالهما في الزّمن (1986- 1999 / 1999- 2004) تصوّران في الظاهر على الأقل تجربتين مختلفتين وإن كانتا مبدئيا لا تلغي إحداهما الأخرى. فالمجموعة الأولى تنفتح على وضع في غاية التدهور تتخبّط فيه ذات أنثويّة مقهورة تتقاذفها على نحو محموم قارّ رياح الحيرة والحزن والألم . لكنها تغالب حالتها المتأزّمة تلك بالأمل ، ممتطية صهوة الحلم. أمّا المجموعة الأخرى فالغالب على قصائدها التأمّل في الذّات والآخر والكون، مع جنوح شبه قارّ إلى استخلاص العبر. الأولى طبيعتها الطّاغية نفسيّة والأخرى فلسفيّة، مع انطواء كل منهما بدرجتين متفاوتتين على النفسيّ و الفلسفيّ. وهو ما قد يشي بأن تطوّرا داخليّا طرأ على تجربة الشّاعرة في اتّجاه دعم البعد العقليّ فيها والتّوسيع من نطاقه، مقابل التّقليص من حجم البعد النّفسيّ والتّخفيف من حدّته. لكن على الرغم من هذا التطوّر فإنّ الذّات الشاّعرة فيما يلوح من قصائد المجموعة الثّانية لم تبرح موقعها السّلبيّ من الأنا والآخر والكون، الماثل في رؤيتها السّوداويّة للواقع. وهو ما يتيح للقارئ إمكان النّظر إلى تجربة الشّاعرة على أنّها كلّ متكامل ما دام جوهرها قد ظلّ ثابتا لم يتغيّر. فما هي الملامح اللاّفتة في هذه التّجربة إذن؟ وما هي خصائصها ؟ ا- البنية الدّلالية لشعر أشجان هندي : 1-عالم الشّاعرة الدّاخليّ : جدب وحصار وظلمة : إنّ أوّل ما يسترعي الانتباه ثمّة هو طبيعة الفضاء الذي تتحرّك فيه الذّات الشّاعرة. وذلك لكثرة الإشارات إليه في جلّ قصائد المجموعتين. فهذا الفضاء سمتُه الأولى هي الجدب الذي يذكر إمّا لفظا (3 ) نحو: “جدبُ النّيام ” (ص 7) “جادك الجدبُ “(ص 11) “جدبُ الذّبول ” (ص 15 )”جدبُ سؤال ما له ردّ ” (ص 22) “أروي شفة الجدب ” (ص 35) وإمّا إيحاء بما يفيد معناه لحو: “ أحناؤها في كفوف الرّمال “(ص 26) ا “أسكبي الرّمل في الدّار” (ص 26) “قاحلة الجيد ” (ص 27) ” تشرق الأرض ربيعا بالظمإ ” (ص51) “تجفّ المسارب ” (ص 60) ” !ثقالا زحفنا إلى الماء حين تجفّ العيون ” (ص100). والسّمة الثانية هي الحصار الذي ضُرب على الذّات الشّاعرة لغرضين: الأوّل هو منع الماء من الوصول إلى عالمها القاحل. وفي هذا نقول: “فكّ الحصار عن الغيم ” (نفسه، ص 43) والآخر هو الحيلولة دون تسرّب النور إليه. وهو ما تشير إليه في قولها : روح تدلّت من عيون الحرس فتسلّقتها الرّيح والبرد وتوضّأت بالعتق طلعتها فإذا بليل الّليل يشتدّ” (نفسه، ص 24). 2- وضع الذّات الشّاعرة النّفسيّ : حيرة وحزن وألم : إنّ النّتيجة البديهيّة لاجتماع ثالوث كهذا في محيط واحد: جدب وحصار وظلام هي إصابة الذّوات القائمة فيه بالاختناق. ومن ثمّة فلا عجب إذا استولت على الذّات الشّاعرة ثلاثة مشاعر سلبيّة هي الحيرة والحزن والألم. فالحيرة متولّدة عن كثافة الأسئلة الملحّة التي تصوغها مقابل غياب الأجوبة. وفي هذا تقول : وكان أبي إذا ما جئته انتثرت على أخشابه البيضاء أسئلتي فراح يدقّها في الماء لا أثر لها لا الماء يشربها ولا صدأ المطارق يحتفي بطنينها المبحوح (نفسه، ص 77) وتقول في السّياق نفسه : بسطت عباءتي السّوداء ورحت أدقّ في شفتي… يعلّمني ابتلاع الطين حين تظلّ كالمسمار من بين الشّقوق السود أسئلتي (نفسه، ص 78). وحين تدرك الأزمة ذروتها وتقتنع الذّات بتعذّر الخلاص تنتابها حالة هستيريّة لا تهدأ. وهو ما يلخّصه بكلّ وضوح هذا المقطع : يا أيّها الماء جفّت بقايا أمانينا وران على الخطوات الأفول فيا أيّها الماء كيف إليك الوصول ؟ وكيف الوصول؟(نفسه، ص102) وفي مقام كهذا لا يمكن أن يكون الحزن والألم إلا حالتين طبيعيّتين مكمّلتين للحيرة. وقد تعدّدت في المجموعتين السّياقات المصوّرة لهما، كما في هذا المقطع الذي نكتفى به اجتنابا للإطالة : هبط الظّلام على الكلام وعاديات اللّيل كم بالويل قد غطّت جهاتي كلّ آهاتي تروح وترجع وموانعي تتنازع أدمَتْ مفارقَ ليلتي سحبٌ تسيل تنازعا (نفسه ، ص103) 3- محيط الشّاعرة الخارجيّ : قساوة ولامبالاة، خذلان وغدر: إنّ حالة الانكسار التي تكون عليها الذّات حين يُضيَّقُ عليها الخناق وتُسدّ في وجهها الآفاق قابلة للاحتمال وحتّى للتجاوز إذا وجدت من لدن الآخر سندا وحماية . لكنّ الآخر في فضاء الشّاعرة الخارجيّ ينطبق عليه ما وصفه به جان بول سارتر ( Jean Paul Sartre ) من أنّه “الجحيم”. فلا إحساس له ولا قلب. وهو ما لا يجعله يأبه لحالتها ويكترث لوضعها. تقول في هذا : للقوم أجنحةٌ من قطا وفى لغة لست أذكرها وبقايا جناح لهم أعين لا تفيض من الدمع أفئدة لا تهشّ إذا طارح المطر العشب ولي خافق من فلول الرّياح (نفسه، ص 59) وحتّى الصّديق فلا يُعوّل عليه في وقت الضّيق لأنّه إمّا ثرثار (مطر، ص61) وإمّا يلبس قناعا وإمّا هو فريسة للحزن والأسى : يتنفّس كآبته يتحسّس دمعته يتكوّم قرب ضلوع النّار (نفسه، ص 61) وذلك إن لم يكن منافقا غادرا : يختار الظّهر الأضعف يا ظهرك من يحميه؟ (نفسه، ص ص 65- 66 ) 4– الحلم متنفّسا وحلاّ تعويضيّا : إنّ تسلّط كلّ هذه الضّغوط من الداخل ومن الخارج على الذّات الشّاعرة، مع غياب أيّ حماية أو سند وما تولّد عنه من تضييق شديد للخناق عليها قد دفعا بها بَدْهِيّا إلى البحث عن متنفّس. فلم تجد ملاذا إلاّ في الحلم . وهذا جليّ في التردّد العالي لهذا اللفظ ومتعلّقاته إن تصريحا وإن تلميحا في قصائد المجموعتين بدءا من عنوان المجموعة الأولى : للحلم رائحة المطر. ومثلما يشير إليه هذا العنوان فإنّ القابع في الصحراء لا يمكن أن يحلم إلاّ بالماء. لذلك فإنّ هذا الحلم هو الأقوى حضورا. ومن أمثلته قول الشّاعرة: غرق تشتاقه الرّوح وسيل تشتهيه غيمة تترى على القلب وطوفان بهيّ جارف مزن سخيّ ليته يعرى على بعضي وبعضي يرتديه ( للحلم رائحة المطر، ص 34) وقولها: ألا أيّها الماء يا طافحا بالوعود ويا مُهدي الغيم دُعَمَ الوعود ويا زارعا نطفة البرق في جسد الجود يا أيّها الماء جفّت بقايا أمانينا وران على الخطوات الأفول فيا أيّها الماء كيف إليك الوصول؟ وكيف الوصول ؟ وكيف الوصول؟ (نفسه، ص102) وبذلك تشكّلت في ذهن الذّات الشّاعرة ثنائيّة شبه قارّة توافق إلى حدّ بعيد ثنائيّة سيقمون فرويد ( Sigmund Freud ): مَبدأ الو اقع* ومَبدأ اللذّة * هى ثنائية: الجفاف السّائد والخصب المنشود. فالعنصر الأوّل فيها بمنزلة المِكبح وله الغلبة المطلقة والآخر بمثابة الرّغبة الجامحة لكن المكبوتة المقهورة. تلك هي البنية الدّلاليّة العميقة لعالم أشجان هندي الشّعريّ . وهي، كما بيّنّا، بنية نفسيّة ذهنيّة فلسفيّة، إلاّ أنّها في هذا المستوى ليست إلا بنية نمطيّة يشترك معها فيها آلاف أفراد الجنس البشريّ في كلّ مكان وزمان. لذلك لا تكمن ثمّة حتما خصوصيات تجربتها الشّعريّة التي ينبغي أن نحاول استكشاف ملامحها في مستوى آخر هو مستوى الّلغة أي المجال الذي يتشكّل فيه الشّعريّ والذي على صعيده يتميّز الشّاعر عن غيره من النّاس العاديّين الذين لهم حالته النّفسيّة الذّهنيّة نفسها. وهذا يقودنا إلى تفحّص الجانب الإنشائيّ في خطاب الشّاعرة. ا ا- الخصائص الإنشائيّة لشعر أشجان هندي: إذا كانت البنى الدّلاليّة لشعر أشجان هندي، كما أسلفنا، نمطيّة متداولة عند صنف معيّن من البشر فإنّ المقوّمات الإنشائيّة لخطابها لا تكون بالضرورة كذلك. وهنا نعترف بأنّ الشاعرة قد أعانتنا كثيرا حين حرصت على تأريخ قصائدها بالسّنوات على الأقلّ. ذلك أنّنا نجد أنفسنا إزاء نمطين مختلفين في الكتابة لديها تكاد تنفرد بكلّ نمط منهما مجموعة من مجموعتيها الاثنتين. ففي مجموعتها الأولى للحلم رائحة المطر التي تغطّي تجربتها إلى حدود سنة 2004 يطغى اللّون الذي قد تصدق عليه تسمية القصيدة- المُناخ. وهو اللّون الأكثر شيوعا عند شعراء التّسعينات. وصورة القصيدة المنتمية إلى هذا اللّون أن منشئها يمضي في توليد سلاسل متلاحقة من الصّور انطلاقا من نواة دلاليّة تأسيسيّة دون إخضاع تلك السلاسل لتخطيط معيّن يحدده مسبقا. فلا يكون للقصيدة من ثمّة مدخل واحد وهو طالعها ومخرج أوحد هو خاتمتها. وإنّما يمكن للقارئ أن يلجها من أيّ بيت يشاء ليجد نفسه وسط المناخ ذاته الذي تصوّره. ففي قصيدة الحلم ” رائحة المطر” (ص ص 7- 9) التي أطلقت الشّاعرة عنوانها على المجموعة برمّتها ينعقد الخطاب على ثنائيّة الجفاف والمطر، الجفاف المستفحل في عالم الشّاعرة والمطر الذي تحلم به. ويتوالد على نحو محموم من هذه النّواة الدّلاليّة الأولى عدد مكثّف من الصّور يؤدّي المعنى نفسه. فحيثما ولجت القصيدة طالعتك صورة تحيل على هذا المعنى. فالأبيات الثّلاثة الأولى تؤلّف جملة نحويّة واحدة. وهذه الجملة تتضمّن شريطا من الصّور الاستعاريّة تنبع من تلك الثنائيّة .وحين نلتفت إلى آخر جملة من القصيدة وفقا للطريقة المحبّذة لدى نيكولا رويى ( Nicolas Ruwet )- وهى تقطيع القصيدة إلى جمل- نرى المعنى نفسه يتكرّر وإن على نحومختلف : الخوف غول حائم بالباب إن قطعت من أطرافه طرفا نما ليظلّ هُدب العين يستجدي المضاجع حين أصرخ : يا جارة الوادي دريت فيا ليتني لم أدر! فالغول هنا هو استعارة للجدب. ونموّه السّرطانيّ على الرغم من تقطيعه إربا إربا هو استفحاله. واستجداء المضاجع هو الاستسقاء. ولفظ “الوادي “يحيل بطبعه على الماء المنشو د. لكن أشجان هندي في مجموعتها الثّانية مطر بنكهة الليمون وإن كان المحور الذي تدور عليه واحدا إجمالا- وهو ما يشير إلى جانب منه لفظ “المطر” الوارد في العنوان- فقد غلبت على نصوصها القصيدة- الموضوع التي تفتتح بمدخل أوحد وتغلق بخاتمة لازمة وبينهما يتدرّج الشّاعر بالقارئ في اتجاه الفكرة الهدف التي يروم تبليغه إيّاها. ومن هذا النمط نتناول عشوائيّا قصيدة “تحرّر ” (ص ص 15 – 17). فهذه القصيد ة مدارها على فكرة التحرّر من الجسد ، نشدانا لإدراك الكيان الجوهريّ الخالد للإنسان وهو الروح . ولقد وظّفت الشّاعرة في تصوير هذه الفكرة ما سمّاه فرانسيس يونج ( Francis Ponge) “شعريّة الأشياء ” في مجموعته الموسومة بالانحياز إلى الأشياء (4 ) . ولتضفي على قصيدتها التماسك الضروريّ لقصيدة الموضوع حضرت الأشياء التي اختارتها داخل حقل واحد هو “البيت”. وهذه الأشياء هي : مفتاح- مظلّة- مدفأة- كيس- خزانة الملابس- قميص- عِلاقة حديديّة- معطف- فطنة. ولتكون للقصيدة بداية ثابتة كان انطلاق الشاعرة من دخول البيت ( أي بيتها لا البيت الشعريّ) الذي يحوى تلك الأشياء: هذا المساء دخلتُ البيت مسرعة على رعشة بابه وتتالت بعد ذلك سلسلة من عملياّت خاطفة استخدمت الذّاتُ الشّاعرة بمقتضاها تلك الأشياء شيئا فشيئا على نحو يفضي إلى قطع العلاقة بينه وبينها لتتحرّر من ملاصقته إيّاها تحرّرا تامّا، كما في قولها: نفضتُ عن يدي كيسا تعلّق بها منذ الصّباح حين أطال النواح وجاهر بالضّيق من طرف واحد نشبت فيه أظافري وطوّحت به بعيدا قفزت أحشاؤه وسالت دماؤه المتهوّرة وقو لها : تحرّرت من فضول قميص دسّ أنفسه بين جلدي شنقته بعلامة حديديّة وألقمته فم معطف قديم وهكذا دواليك إلى أن تحرّرت الذاّت الشّاعرة من كلّ ما يشدّها إلى الأشياء الموضوعيّة أي أعضائها الجسديّة. فإذا هي لم يبق منها إلا الرّوح : فتحت فم حجرة نومي ودخلتها خاوية إلاّ من روح وتلك هي النتيجة التي توّج بها جهد الذّات الشّاعرة المبذول منذ البداية من أجل التحرّر الذي أعلنت عنه في عنوان قصيدتها. على أنّ هذا الاختلاف في نمط الكتابة بين قصائد المجموعتين لم يمسّ، في تقديرنا، الجوهر. وهو أسلوب الشّاعرة في تشكيل الشّعريّ ، هذا الأسلوب الذي يظلّ من الثّوابت في تجربتها. فالصّورة عند أشجان هندي تقوم على التّجريد و التّوليد: التّجريد من الدّلالات المرجعيّ إلى أقصى حدّ ممكن ، اجتنابا للنّقل عن الواقع والتّوليد هو أن تنطلق كلّ صورة لاحقة من صورة سابقة. وهو ما يتيح للشّاعرة ترجمة “الفونطاسمات ” * أي الأفكار غير المنتظرة التي تتوافد على ذهنها في أثناء الكتابة إلى صور ترتبط دلاليّا بالحقل الذي تنتمي إليه الصّورة المنطلق منها . وإليك هذا المثال من قصيدة “غرباء “: وجهك كالماء عديم اللّون عديم الطّعم شبيه بوجوه الأشياء (نفسه، ص 145 ) إنّ تشبيه الشّاعرة الوجه بالماء في هذه الصّور ة التي افتتحت بها القصيدة قد جرّها لاشعوريّا بضرب من التّداعي إلى معاملته، لا على أنّه شبيه بالماء من حيث اللّون والطّعم فقط بل من حيث الماهية. فإذا هو سائل مثله . تقول في هذا : اسكب وجهك دعه يسيل على قدميك ابتلّ به ارو يابس الرّوح وظلم الصحراء (نفسه، ص 45) وليس ثمّة شك في أنّ التّجريد هو أنجع الأساليب في تحقيق الإيحاء. وهو العنصر الثّاني من عناصر الشّعريّ بعد الصّورة . وأمّا الإيقاع- ولا يستوقفنا شخصيّا في هذا الباب إلاّ الإيقاع الدّاخليّ الذي ينشئه الشّاعر لأنّ الإيقاع الخارجيّ المتأنّي من البحور لا دخل له فيه- فهو مكثّف في أكثر القصائد، إضافة إلى كونه يتحقّق بطرائق شديدة التنوّع. وأكثر هذه الطرائق تواترا التّناسب التركيبيّ كما في قول الشّاعرة: ويصير وجه القمر أحلى وتصير حبّات الرّمال فراشة (للحلم، ص 9) وقولها: كان من سقم ينفض النار عن جوف كان من ندم يغسل النعش في خوفه (للحلم ! ص 116 ) وقو لها: صهيوني يصنع قنبلة ويواريها في قبضته عربي يرسم قنبلة ويواريها في خيبته (مطر، ص 37) وهذا التّاسب التّركيبيّ أشبه ما يكون بما سمّاه البلاغيّون العرب القدامى مراعاة النظير. ومن طرائق الإيقاع الأخرى الرويّ المعكوس نحو ما جاء في قول الشّاعرة : عن ركب توارى عن رحال وصحاب عن صواع ( للحلم، ص 38) عن سيفه عن ضيفه عن حتفه عن ضيق ذات الرمل عن شح الحما ((نفسه، ص ص 53- 54) وقو لها: أنظّم دقّات أنّاته أدثّر بالنّوم آهاته أشدّ الغطاء على فمه أهيل عليه الظلام أهدهده أعاهده أن أبعثر من بعثروه (انظر، 2300- 24) ويلفتنا في المثالين الأوّل والثّاني توالى مركّبات الجرّ المبدوءة ب ” عن ” وفى المثال الثاّلث الأخير تتابع المركّبات الإسنادية الفعليّة دون أدنى ربط بحروف العطف. وهذا الفصل المقصود يزيد في تقوية النّسق الإيقاعيّ . وممّا يتردّد أيضا من وسائل الإيقاع التّكرار التامّ للأبيات كما في قولها : من ذا الذي سيوقف زحف الغزاة ؟ ومن ذا الذي سيفدي حقولي؟ ومن ذا الذي سيصرم ليل الوشاة ؟ ومن ذا الذي؟ (للحلم، ص 27) ولكنّ الإيقاع الدّاخليّ في شعر أشجان هندي لا يتوقّف على استثمارها الطاقات النغميّة الصوتيّة الكائنة في الألفاظ بل يتعدّى ذلك إلى ما يمكن أن نسمّيه الإيقاع الذّهنيّ. فمعظم قصائد المجموعة الأولى تتألّف من مقاطع إمّا مرقّمة وإمّا مفصول بينها ببياض. لكنّ هذا الضّرب من الإيقاع يختفي تماما في المجموعة الثّانية ربّما لأنّ الغالب على نصوصها الطّابع الفكريّ التأمّليّ لا النّفسيّ العاطفيّ. ومهما يكن من أمر فإنّ الإيقاع الداخليّ العالي الذي ينتاب لغة الشّاعرة في معظم مقاطع قصائدها لينمّ عن حساسيّة مرهفة وقوة انفعال لديها يضافان إلى قدراتها التخيّلية في مجال تشكيل الصّورة وعدولها شبه القارّ عن الدّلالات المرجعيّة إلى الدّلالات الإيحائيّة للألفاظ والتّراكيب، لاسيّما في مجموعتها الأولى . خاتمة : تكشف لنا ، إذن، هاتان المجموعتان : للحلم رائحة المطر ومطر لنكهة الليمون لأشجان هندي عن تجربة شعريّة متكاملة متماسكة، على الرغم من تطوّرها أو ربّما من تنوّعها داخل وحدتها، إذ لا دليل البتّة على أنّ الشّاعرة لن تعود إلى الكتابة في اللّون الذي أنشأت فيه جلّ قصائد مجموعتها الأولى. ذلك أنّ الحلم (أو اللاّوعي) والتأمّل الفكريّ الواعي ليسا بالضرورة حالتين قارّتين لدى الشّاعر بل من الممكن جدّا أن تتداولا عليه. فتفرض كلّ حالة منهما عليه نمطا معيّنا من الكتابة. على أنّ هذا التطوّر (أو التنوّع) لم يدخل ضيما على وحدة تجربة الشّعرة التي ظلّت موسومة بطابع خصوصيّ على صعيد الشّعريّ أي الصّورة والإيحاء والإيقاع. وهو في عرف الإنشائيّين والعرفانيّين لبّ الشّعر. هوامش : 1- أشجان محمد هدى، للحلم رائحة المطر، دار الفكر للطّباعة والتّوزيع والنّشر ، ط 2، دمشق، 2004. 2- أشجان هندي، مطر بنكهة اللّيمون، منشورات الناّدي الأدبيّ بالرياض، 2007 . 3- كل الأمثلة التي سنسوقها هنا من مجموعة للحلم رائحة المطر. 4- Francis Ponge ,le parti pris des choses , Paris 1942 المصطلحات الواردة في البحث : *مبدأ الواقع ( Principe de réalité ) *مبدأ اللّذّة ( Principe de plaisir ) *شعريّة الأشياء ( Poéticité des choses ) * فونطازم ( Fantasme ) 2016-04-03 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet