مناحي التطوّر وصوره الجماليّة في نمادج من القصّة التّونسيّة المعاصرة : محمّد صالح بن عمر 15 مارس,2016 ساسي حمام فوزيّة العلوي جنّات إسماعيل محمّد السّبوعي صالح الدّمس الأسعد بن حسين منيرة الرِّزقي فيصل محمّد الزوائديّ إنّ تبيّن الملامح المميّزة للوضع القصصيّ بتونس منذ تسعينات القرن الماضي لمرتهن بتنزيله في مسيرة جنس القصّة القصيرة بوجه عامّ في هذه الرّبوع، حتى تنكشف لنا طبيعة تلك الملامح والأسباب العميقة الكامنة وراءها. لكن لا مناص لنا قبل التطرّق إلى خصائص هذا الوضع النوعيّة من الإشارة إلى بعض خصائصه الكمّية، حتى يتّضح لنا حجمه، مقارنة بالأجناس الأدبيّة الأخرى من هذه النّاحية. فالجنس الطّاغي على الإنتاج الأدبيّ في تونس اليوم هو، بلا منازع، الشّعر. وهو ما يتجسّم في صدور قرابة ألفي مجموعة شعريّة جلّها الأغلب ظهر منذ بداية التّسعينات ، تليه الرّواية بما يزيد على أربعمائة عنوان أكثرها صدر بعد منتصف الثّمانينات . أمّا القصّة القصيرة و إن كان عدد مجاميعها الجمليّ يكاد يعادل عدد الرّوايات المذكور فلم يصدر منها في ربع القرن الماضي أكثر من سبعين مجموعة. ومعنى ذلك أنّها إحصائيّا كانت إلى أواسط الثّمانينات تحتلّ الرّتبة الثّانية بعد الشّعر لكن معظم الكتّاب السّرديّين انصرفوا منذ تلك الفترة إلى الكتابة في الجنس الروائيّ . وهو ما قد يفسّر بالجوائز الماليّة السّنويّة المهمّة التي ترصدها بعض المؤسّسات إلى الأعمال الروائيّة الفائزة في مسابقاتها وبأنّ المعظم الأغلب من الكتّاب السرديّين العرب والأجانب الذين تحقّقت لهم شهرة عالميّة روائيّون لا قصّاصون أو روائيّون في المقام الأول مارسوا فنّ الأقصوصة على نحو عرضيّ . أمّا من النّاحية النّوعيّة فإنّ المتأمّل في مسيرة القصّة التونسيّة على امتداد العقود الثّمانية المنقضية تستوقفه ثلاث محطّات كبرى: الأولى تتحدّد إجمالا في النّصف الأوّل من ثلاثينات القرن الماضي. وهي الفترة التي دخلت فيها القصّة بمواصفاتها الغربيّة الأدب التّونسيّ. وقد تجسّد ذلك في عدّة محاولات قصصيّة رافقها جهد مكثّف في التّعريف بخصائص هذا الجنس السّرديّ وأبرز روّاده في مهاده الأصليّ. ومثلما هو متداول فإنّ المادّة آلحكائيّة للقصّة القصيرة الكلاسيكيّة تتألّف من حادثة مفردة أو سلسلة من الحادثات القليلة القصار وتدور حول شخصيّة واحدة أو عدد محدود من الشّخصيّات، على أن مميّزها الأقوى هو قيامها منذ البداية على تقابل أو تناقض يؤدّي إلى ردّ فعل. ويتولّد عن ردّ الفعل تأزّم يسير عادة في خطّ تصاعديّ إلى أن يتوّج بمفاجأة. وقد توزّعت تلك المحاولات القصصيّة الأولى على تيّارين متقابلين: أحدهما غلب عليه الطّابع الرّومنسيّ ومعالجة قضايا المجتمع الرّيفيّ ورائده هو محمّد البشروش الذي أمضى معظم نصوصه في هذا اللّون بلقب مستعار هو “القرويّ “. والتيّار الآخر اتّجه إلى تصوير أحوال المجتمع الحضريّ بمدينة تونس وأحوازها. وممثّله الأوّل هو علي الدّوعاجي ( 1909 – 1949 ). أمّا المحطّة الثّانية فهي الموجة التي عًرفت ب “القصّة الطّلائعيّة” في نهاية الستّينات وبداية السبعينات. وقد تجسّدت في صدور عدد مهمّ من القصص القصيرة فُجّرت فيها البنية الكلاسيكيّة تفجيرا تامّا. وذلك باستخدام تقنيات شتّى أهمّها التّناصّ مع التّراث السّرديّ الفصيح أو الشّعبيّ وهدم الحواجز القائمة بين السّرد والشّعر والمسرح والمقال الإخباريّ والإفادة من تقنيات الرّسم والمعمار والسّينما والتّشيئة باتّخاذ شخوص من الأشياء بدلا من البشر وتشظية الإطارين المكانيّ والزّمانيّ وملامح الشّخوص واستبطان البطل بإطلاق العنان لذاكرته ولاوعيه وما إلى ذلك… هذه الموجة قادتها مجموعة من القصّاصين تكتّلوا على هيئة حركة سمّوها “الطّليعة” لعلّ أبرزهم عزّ الدّين المدني وسمير العيّادي ومحمود التّونسي وأحمد ممّو ورضوان الكوني وإبراهيم الأسود وسالم ونيّس والبشير بن سلامة. ويمكن أن نلحق بهؤلاء كتّابا لم ينتموا إلى هذه الحركة تنظيميّا لكنّهم كانوا قريبين منها فنّيا، منهم خاصّة الطّاهر قيقة الذي تخصّص أو كاد في تطوير الحكاية المَثَليّة وحسن نصر الذي وظّف في جلّ قصصه الخارق على نحو مكثّف وساسي حمام الذي دأب في جلّ قصصه على العدول عن الأنماط السّرديّة السّائدة . ولقد ترتّب على ظهور القصّة “الطّلائعيّة” تشكّل مدرستين متقابلتين متجادلتين إحداهما كلاسيكيّة – وهي امتداد للموجة القصصيّة الأولى التي قادها محمّد البشروش وعلي الدوعاجي في الثلاثينات – والأخرى تجريبيّة . وهي هذه التي عُرفت ب “الطّليعة” وكانت تضمّ إلى جانب القصّاصين شعراء وكتاّبا مسرحيّين ونقّادا. ومعنى هذا أنّ القصّة التّونسيّة ظلّت، من بداية الثّلاثينات إلى آخر السّتينات، منضوية تحت راية مدرسة واحدة هي المدرسة الكلاسيكيّة، بالمحافظة على شروط الجنس الخصوصيّة التي تميّز القصّة القصيرة عن غيرها من الأجناس. أمّا في نهاية الستّينات فقد انهار، بظهور حركة الطّليعة، جنس القصّة القصيرة ولم يبق منه تقريبا إلاّ القِصَر فتشكّلت، بمقتضى ذلك، مدرسة جديدة أضيفت إلى المدرسة الوحيدة التي كانت قائمة منذ الثّلاثينات. أي انفجر الجنس لكن تعزّز التّمدرس. وأمّا المحطّة الثاّلثة – وهي التي تولّد عنها، في تقديرنا، الوضع القصصيّ الحاليّ – فتتحدّد في بداية التّسعينات. وصورتها أنّ القصّة بعد أن تجاذبتها، كما بيّنّا، نزعتان إحداهما كلاسيكيّة والأخرى تجريبيّة تبنّاهما تكتّلان متقابلان شبه متعاديين قد أضحت تستوعب تينك النّزعتين معا في تجربة الكاتب الواحد. وهو ما يعني تحوّل المدرستين إلى أسلوبين في الكتابة يمكن أن يتداول على استخدامهما الكاتب السّرديّ الواحد طبقا لما يقتضيه موضوع قصّته. والملاحظ هنا أنّ انهيار المدارس الأدبيّة يعدّ ظاهرة عامّة في هذه الفترة بتونس، لا سيّما في الشّعر الذي كان قد توزّعته ، من بداية الخمسينات إلى أوائل الثّانينات، قرابة العشر حركات، لكلّ حركة منها روّا د وشعارات ومريدون. والخصيصة الثاّنية التي أضحت للقصّة في هذه الفترة هي التمايز على أساس تفرّد التجارب وعمقها. وذلك بعد أن كان الاعتماد في التّمييز بين المحاولات القصصيّة على انتماء أصحابها إلى إحدى المدرستين: الكلاسيكيّة أو التجريبيّة، من دون التوقّف، في أكثر الأحيان، عند القيمة الفنّيّة لتلك المحاولات في حدّ ذاتها. وإلى جانب هاتين الخصيصتين البارزتين اكتسبت القصّة القصيرة في المرحلة نفسها خصيصة ثالثة هي زحف الشّعر على السّرد. فبعد أن كان القصّاصون الكلاسيكيون والطلائعيّون يوجّهون كلّ اهتمامهم إلى البنية إمّا بالحفاظ التامّ على مواصفاتها التّقليديّة المتداولة وإمّا بتفجيرها، أضحى القصّاصون في المرحلة الأخيرة يعنون أشدّ العناية، فضلا عن ذلك، بالسّياق السّرديّ. فيشحنونه بالإيقاع والعدول والإيحاء أي بما يسمّيه الإنشائيّون “شعريّا”. فيفقد النصّ بمقتضى ذلك الشّحْنِ طبيعته الأصليّة من حيث هو نصّ سرديّ ليتحوّل إلى نصّ ذي جنس مزدوج سرديّ شعريّ . هذه الخصائص الثلاث تتوفّر في محاولات أبرز القصّاصين التّونسيّين اليوم . لكن لضيق المجال سنكتفي هنا بالتوقّف عند أمثلة من بعضها. وقد كان في نيّتنا أن نقتصر على مقاربة أنموذج واحد أو أنموذجين، لاقتناعنا بأنّ الإبداع كلّ متكامل فلا ينكشف للدّارس بمعاينة بنية الأثر العامّة وحدها وإثما يقتضي الأمر أيضا النّظر في مدى تجسّده في التّفاصيل. لكنّنا آثرنا في النهاية أن تكون مقاربتنا في هذه المرّة جُمْليّة حتّى تلوح لنا القسمات العامّة للمشهد القصصيّ بتونس في انتظار دعمها بدراسات تتناول تجارب فرديّة للكتاّب أنفسهم أو لكتّاب آخرين . إنّ الأمثلة التي اخترنا هي لثمانية قصّاصين تونسيّين معاصرين أحياء هم ساسي حمام وفوزيّة العلوي وجنّات إسماعيل ومحمّد السّبوعي وصالح الدّمس والأسعد بن حسين ومنيرة الرِّزقي وفيصل محمّد الزوائديّ. هؤلاء الكتاّب والكاتبات لا يكاد يجمع بينهم، مبدئيّا، جامع غير الانتماء إلى البلاد التّونسيّة مكانا والرّاهن زمانا. فمن حيث الانتماء الجهويّ يتوزّعون هم الثّمانية على ستّ ولايات هي نابل والقصرين وقابس والقيروان وبنزرت والكاف . وحتّى الولاية الوحيدة التي ينتمي إليها هنا ثلاثة من القصّاصين الثّمانية هم جناّت إسماعيل والأسعد بن حسين وفيصل محمّد الزّوائدي- وهي ولاية قابس- فإنّها ممثّلة هنا بثلاث بيئات مختلفة : قرية وذرف ومدينة قابس وقرية الحامّة. وأمّا من حيث السنّ فإنّهم يتوزّعون على خمسة أجيال أقدمها جيل الستّينات – وهو جيل ساسي حمام – وأقربها جيل هذه العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين – وهو جيل فيصل محمّد الزوائدي. وأخيرا من حيث التوجّه الفكريّ والفنّيّ لم يسبق لهؤلاء كلّهم أو بعضهم أن تكتّلوا أو أصدروا بيانات أدبيّة مشتركة. هذه الفروق متضافرة تلغي إمكان انتماء هؤلاء القصّاصين والقصّاصات إلى مدرسة. وذلك على عكس ما حصل في نهاية الستّينات وبداية السّبعينات حين التقت مجموعة من القصّاصين بالعاصمة وأصدروا بيانات أعلنوا فيها انتماءهم إلى حركة واحدة سمّوها “الطّليعة” وبيّنوا المرتكزات النظريّة التي يقوم عليها اتّجاههم. هذا من النّاحية السّوسيولوجيّة. أمّا في مستوى النّصوص فإنّ لكلّ قصّاص من القصّاصين الذين اخترناهم همًّا غالبا، به يتميّز ومنه تولد النَّوَيات الدّلاليّة التأسيسيّة لقصصه. وهو ما يجعل نصوصه تصوّر، بوجه عام، مناخا واحدا. وهذا من الشروط الضّروريّة الواجب توفّرها للقول بوجود تجربة إبداعيّة مّا لدى هذا الكاتب أو ذاك، إذ لا إبداع في غياب هموم قارّة ثابتة. فساسي حمام تفصح قصصه عن حنين قويّ إلى أجواء القرية في مسقطُ رأسه منزل تميم قبل أن يتحوّل إلى مدينة. فالذّات المنشئة للخطاب في هذه القصص على الرّغم من التّحوّل الجذريّ الذي طرأ على عالمها الأصلي مكانا وبشرا وعلاقاتٍ وقيمًا لم تبرح عقليّتها الأولى الماثلة في التمسّك الشّديد بالأصالة والرّفض المبدئيّ الحاسم للزّيف. لكن إذا كانت، فيما مضى، تتّخذ من هذه العقليّة درعا تتحصّن به من سموم القيم المتدهورة المستشرية في المدينة، لا سيّما المحسوبيّة والطبقيّة واللّهاث وراء المنافع المادّية وخذلان الصّديق في وقت الضّيق والانبهار بمظاهر الأبّهة والفخامة فإنّ هذه القيم السلبيّة أخذت تزحف على القرية لتحلّ فيها تدريجيّا محلّ القيم الأصيلة السّامية. وهو ما يجعل تلك الذّات تفقد إيمانها بجدوى المواجهة وتقع فريسة للإحباط والشّعور بالضّياع. لكلّ هذا فإنّ البطل في قصص ساسي حمام غالبا ما يكون مرفوضا، مهمّشا، معتدًى عليه لكن مع امتناعه شبه التامّ مقابل ذلك عن التّصدّي وردّ الفعل، على الرّغم من وعيه بتناقضات الواقع الذي يتحرّك فيه. وهو ما يجعل مساعيه، ككلّ بطل مضادّ تمنى بالفشل الذّريع. أمّا فوزية العلوي وإن اشتركت مع ساسي حمام في حساسيّه المحلّية المرهفة تجاه المحيط الأصليّ- ومحيطها هو مدينة القصرين الذي له أيضا جميع مواصفات المدينة الريفيّة- فإنّها تلوح، على العكس، في وفاق تامّ مع هذا المحيط يصل إلى حدّ العشق لكلّ ما يحويه من كائنات حيّة أو جامدة. ولعلّ مردّ هذا الموقف إلى أنّ مدينة القصرين التي تحيل إليها الكاتبة في معظم قصصها لم تتسرّب الحضارة الحديثة إلاّ إلى بعض مظاهرها الخارجيّة. أمّا عادات أهلها وعقليّتهم فإنّها هي هي لم تتغيّر. ومدارها دائما وأبدا على الأصالة والقيم الإنسانيّة السّامية. على أنّ هذا البعد الواقعيّ يمتزج بمسحة وجوديّة قارّة تتجسّد في وابل من الأسئلة المُمِضّة ترافق قارئ نصوص هذه الكاتبة لعلّ أشدّها إلحاحا سؤال الحياة والموت وحيرة الإنسان إزاء الدّوران الحتميّ المحموم لعجلة الزّمن وإحساس الفرد بالعزلة الخانقة وسط الزّحام البشريّ وضبابيّة الحدّ الفاصل بين الحلم والواقع واستحالة التّوفيق بين ميول القلب ونواهي العقل. لكلّ هذا فإن البطل أو على الأصحّ البطلة في قصص فوزيّة العلوي- لأنّ معظم هذه القصص مرويّ بلسان أنثى – يلوح مزدوجا : غنائيّا في علاقته بمحيطه الاجتماعيّ والطبيعيّ ومأسويّا من حيث صلته بالقدر. ويعترضنا في قصص جنّات إسماعيل ارتباط قويّ مماثل بالمحيط الأصليّ المحلّيّ، إلاّ أنّه محيط مختلف، إذ هو إطار واحِيٌّ بالجنوب الشّرقيّ التّونسيّ وتحديدا بقرية وذرف مسقط رأس الكاتبة. ولئن كانت الذّات المنشئة للخطاب- وهي هنا أيضا ذات أنثوية متّحدة في الغالب بالشّخصيّة المحوريّة- تبدو قلقة، مهمومة لما يصيب محيطها من تدهور شامل نتيجة إهمال الأرض والنّزوح المكثّف إلى المدينة، فإنّ نبرة الاحتجاج العالية التي تسم خطابها تجعل منها بطلا إيجابيّا، خلافا للبطل في قصص ساسي حمام وإن كانت تلتقي وإيّاه في عدم القدرة على التّأثير الإيجابيّ في الواقع. وهو ما يضفي عليها طابعا إشكاليّا طبقا للمفهوم الذي حدّد ه جورج لوكاتش (Georg Lukacs ). وأمّا محمّد السّبوعي وإن كان الإطار المكانيّ الذي تدور فيه أحداث جلّ قصصه محيطا قرويّا أيضا – وهو قرية العلاَ بولاية القيروان- فإنّه يوسّع من نطاقه باستخدام الومضة الورائيّة ليجعله يشمل منطقة ما وراء الصحراء لا سيّما بلاد التشاد، محاولا إظهارهما في مظهر الفضاء الواحد. وذلك بالإلحاح على إبراز انتمائهما في الماضي إلى تاريخ مشترك هو التّاريخ البربريّ وتجانس الواقع السّائد فيهما حاليّا باعتبارهما يشكّلان جزأين لا يتجّزآن من الجنوب المتخلّف، فضلا عن تداخل هذين الفضاءين في ذهن البطل الذي يتماهى مع الرّاوي هنا أيضا في كلّ القصص تقريبا. لكن لئن كان المحيط الأصليّ هنا محيطا ريفيّا أيضا فإنّ موقف البطل السّارد منه مختلف جدّا. ذلك أنّ نظرته إليه تلوح استشرافيّة، نافدة، فاعلة، محلّلة، نازعة على نحو ملحّ قارّ إلى استكشاف العلاقات الخفيّة القائمة بين الواقع والأسطورة، مستقرئة، دون كلل، بصمات التّاريخ وآثاره الباقية في الحاضر الآسن، الباهت، المسطّح. وأمّا صالح الدّمس وإن كان الإطار المكانيّ الذي تجري فيه أحداث قصصه هو القرية أيضا فإنّه غالبا ما يضيّق من نطاقه إلى حدّ أن يختزله في محلّ صغير كالبيت أو المقهى أو حتّى الغرفة، مع الاستغناء شبه التامّ عن وصفه. ومقابل هذا الانشغال عن طبيعة المكان أو نوعيّته تنجذب رؤية السّارد نحو المآزق والأوضاع المأسويّة التي يتخبّط فيها المنكوبون والمحرومون مادّيّا أو صحّيّا أو نفسيّا كالأيتام والأرامل والثّكالى والمطلّقين والبائسين والمصابين بالعقم البيولوجيّ، لا باعتبارهم حالات اجتماعيّة أو بشريّة مخصوصة بل من حيث هم صور لضحايا قوّة قاهرة واحدة هي القدر. وهو ما يجعل شواغله وجوديّة في المقام الأوّل وشخصيّاته المحورية شخصيّات مأسويّة بالمعنى الذي حدّده لوكاتش أيضا. أمّا الأسعد بن حسين ومنيرة الرّزقي فإنّ جلّ قصصهما تحيل على فضاء واحد هو تونس العاصمة وإن كان ذلك من موقعين مختلفين: فهذا الفضاء عند الأوّل عالم اغتراب. وذلك في مستويين: أحدهما اغتراب ماديّ، على اعتبار أنّ الراوي- وهو في المعظم الأغلب يتماهى مع البطل- نازح إلى ذلك الفضاء من الجنوب الشّرقيّ التّونسيّ والآخر اغتراب روحيّ. وهو شعور تشترك فيه أكثر الشّخوص. وقد اختار الكاتب جلّها من جيل التّسعينات. وهذا الشّعور النّاشئ- بلا ريب- عن تدهور القيم وتفكّك العلاقات الإنسانيّة في ظلّ النّظام العالميّ الجديد يتّخذ، في أغلب القصص، صيغة الحيرة الوجوديّة ويضفي على رؤية الشّخوص للحاضر وللمستقبل طابعا تشاؤميّا قاتما. أمّا في قصص منيرة الرّزقي فإنّ الذّات السّاردة – وهي تتماهى في معظم النّصوص أيضا مع بطلة حضريّة لا ريفيّة – ، هادئة لا متمرّدة، متأمّلة لا اندفاعيّة، تميل إلى النّظر العقليّ أكثر من الانفعال والتخيّل. ولقد تولّد عن هذه الصفات اختيار آليات معيّنة في الكتابة. فخضوع الذّات السّاردة لسلطان المفكّرة لا العاطفة أو المخيّلة قد ترتّب عليه انشغالها بأشدّ القضايا التي تواجهها المرأة حساسيّة في محيطها. ومن أبرزها التحرّش الجنسيّ وفقدان العذرية قبل الزّواج وإقامة العلاقات الجنسيّة خارج مؤسّسة الزّواج والشّذوذ الجنسيّ بين النّساء والوضعية النفسيّة للأبناء غير الشّرعيين وزواج التّونسي بغير العربيّة المسلمة وما إلى ذلك. ومثلما نرى فإنّ هذه القضايا ليست متولّدة عن تدهور أصاب المحيط المحليّ بل هي قضايا إنسانيّة عامّة مثارة، على نحو حادّ، في المجتمعات الضّاربة أشواطا في الحضارة. ومن ثمار غلبة النّظر العقليّ على الذّات السّاردة موقفها الموضوعيّ من المرأة. فلئن كانت تقدّمها، في كثير من القصص، في صورة الضحيّة فإنّها لا تتردّد أيضا في الكشف عن أحابيلها وانصياعها لشيطانها. نستخلص من كلّ هذه الأمثلة أنّ القصّاص التّونسيّ في هذه المرحلة الثّالثة يميل إلى تعميق تجربته الفرديّة، بدلا من الأخذ بمقولات فكريّة أو فنّيّة مشتركة يتبنّاها تكتّل معيّن ويرفعها على هيئة شعارات. وهذه التّجربة الفرديّة في مستوى الكتابة يستمدّها من تجربته في مضمار الحياة داخل بيئته المحلّيّة. وقد لاح لنا هذا التوجّه في تماهي السّارد مع البطل وتطابق الإطار المكانيّ الذي تدور فيه الأحداث مع طبيعة المحيط الحقيقيّ الذي ينتمي إليه الكاتب. فهذا الإطار المكانيّ هو مدينةٌ سليلةُ قريةٍ بحريّةٍ عند ساسي حمام وهي مسقط رأسه منزل تميم، ومدينة ريفيّة في منطقة السّباسب عند فوزيّة العلوي وهي مدينتها القصرين، وواحةٌ عند جنّات إسماعيل وهي قريتها وذرف، وقريةٌ مذكورة باسمها عند محمّد السّبوعي وهي قريته الأصليّة العَلا بريف القيروان ومدينةٌ مشار إليها بأسماء أحيائها وشوارعها ومعالمها عند الأسعد بن حسين ومنيرة الرزقي وهي مدينة تونس العاصمة. وعلى الرّغم من ندرة الإشارات إلى الموقع العام لمسرح الأحداث في قصص صالح الدّمس ومحمّد فيصل الزّوائدي لانشغالهما بقضايا وجوديّة عامّة فرضت عليهما الارتقاء في معالجتها إلى مستوى إنسانيّ كونيّ فإنّ القارئ يدرك بسهولة أنّ المحيط الذي تدور فيه الأحداث هو قرية من قرى الشمال التّونسيّ عند الأوّل وقرية من قرى جنوب البلاد عند الآخر. وهذا ما يدلّ على قوّة حضور البعد التَّرْجَذاتيّ في تجارب هؤلاء القصّاصين. ومثلما هو بديهيّ فإنّ اتّخاذ الكاتب السّرديّ من سيرته منبعا لنصوصه من شأنه أن ينأى به عن النّمطيّة التي تلحقه وجوبا بمدرسة من المدارس. وإلى جانب هذه الخصيصة العامّة المشتركة بين هؤلاء القصّاصين- وهي عدم انضوائهم تحت لواء مدرسة معيّنة بحكم التنوّع الشّديد لتجاربهم وعدم التقائهم كلّهم أو بعضهم في الدّعوة إلى مقولة فكريّة أو فنّيّة ما- تجمع بينهم خصيصة أخرى وهي تراوح جنس القصّة القصيرة عندهم بين الثّبات والانحلال لدى الكاتب الواحد. فالقصّة التي تقوم على التأزّم التّدريجيّ للأحداث وتنتهي بخاتمة مفاجئة لا تخلو منها مدوّنة أي من هؤلاء القصّاصين الثّمانية. ففي قصة بعنوان “الجسر والقطار” لساسي حمام من مجموعته قِطع غيار (ص ص 79-84) ينقل الراوي على امتداد معظم النصّ حركات البطل وسكناته وهو يستعد لإلقاء نفسه من أعلى جسر تحت عجلات قطار ليتخلّص من حياته المملّة القاحلة. لكنْ ، خلافا لما هو منتظر، تنتهي القصّة بعدوله عن الانتحار لأنّ فتاة جميلة قبلت الزواج منه . وفي قصّة عنوانها “التوأم ” لفوزيّة العلوي من مجموعتها طائر الخزف (ص ص 9-24) تكلّفُ امرأةٌ حاملٌ بنقل شهادة مِلكيّة ليلا إلى عائلتها المقيمة بأرض مُتنازع عليها. فتنجح في أداء مهمّتها الصّعبة. وحين تصل تلد توأمين. وفي قصّة بعنوان ” لماذا تأخّرت وتأخّرت؟ لجنّات إسماعيل من مجموعتها شيء ما تكسّر تلتقي السّاردة البطلة- وهي فتاة ريفيّة من الجنوب التّونسيّ- بصحافيّ في محطّة قطار تونس- المرسى. فيقع كلّ منهما في حبّ الآخر. فيقضيان أمسية ممتعة بشاطئ سيدي أبي سعيد. لكنّهما عند الافتراق ينسى كلّ منهما أن يطلب من الأخر عنوانه ورقم هاتفه. فيتعذّر اللقاء بينهما ثانية. لكن إلى جانب حضور النّمط القصصيّ الكلاسيكيّ ينفجر هذا النّمط عند كلّ كاتب من الكتّاب الثّمانية. فعلى سبيلي المثال يستثمر ساسي حمام التّحقيق البوليسيّ في قصّة “زمن الجراح ” والبحث الظّاهراتي عن سرّ الوجود في قصّة “الثلج… النّار” والواقعيّة النقديّة في قصّة “على الأعتاب ” والخارق في قصّة “الرحيل إلى مدائن الشّمس ” والغريب في قصّة ” السّباق ” والحكاية التّراثيّة في قصّة ” الزّيارة” وهلّم جرّا … وتوظّف فوزيّة العلوي العجيب في قصّتي “امرأة الشّموع ” و”الميراث ” وتيّار اللاّوعي في قصّة ” احتمالات ” والبديع في قصّة “تعاويذ البحر” والومضة الورائيّة في قصّة “الطّاحونة” والرّمز في “طائر الخزف ” و”الدّيك ” و”سوء تفاهم “. وفي هذا دليل على أنّ الشّكل القصصيّ قد تحوّل في هذه المرحلة إلى مجرّد تقنية تتحدّد قيمتها في مناسبتها للموضوع المطروق ليس إلاّ ، بعد أن كانت نوعيّته تعدّ اختيارا يُلحق الكاتب بهذه المدرسة أو تلك. والخصيصة العامّة الثّالثة للقصّة القصيرة التّونسيّة المعاصرة هي تداخل السّرديّ والشّعريّ. وذلك بحكم الارتباط الوثيق بينها وبين سيرة الكاتب. وهو ما يجعل خطابه ضربا من البوح الصادر مباشرة عن الذّات. ولضيق المجال نسوق في ما يلي أمثلة قليلة من هذا التّداخل: تقول جنّات إسماعيل في قصّة “إنّهم يحصدون الواحة” (ص ص 30- 31): “يطالعنا الصّباح من تحت تراكمات اللّيلة العاصفة. فنكنس الغبار عن وجهه ونؤبّ عجالى نسرح تحت النّخيل الممتلئ القامات، المثقل الرؤوس، الواقف في تواز يحاكي تراصّ صفوف المصلّين أو العسكر، نأكل من بَلَحِكِ أخضرَ وأصفر ورطبا شهيّا حتى نشبع ونملأ سلالنا حتّى تفيض “. ويقول محمد السّبوعي في قصّة “سنوات التّيه “: “لأجل قمر صغير يحتضر في إحدى المجرّات تصدر ضفادع وادي الجبّاس هذا النّقيق الموغل في الأسى واللّوعة وتنوح حمائم شعاب القنطرة وبُوعذبة في هديل متقطّع يروي تفاصيل الفاجعة. القمر الصّغير الذي عبدته قبائل البرانس المنحدرة من النّوميدين والموريين بعد أن ضمر أو كاد انحنى للضفادع والحمائم شاكرا اهتمامها الخاصّ “. ويقول فيصل محمّد الزوائدي في قصّة “رحلة بحث “: “أنِيخت القافلةُ بالصحراء، صحراء العمر المجدب وضربت الخيام وظننت أنّك تقيمين فلا ترحلين، هبّ نسيم فردوسيّ وأينعت أنامل الأيّام بالرّياحين عندما تدفّق جدول من عينيك اللّؤلؤتين نهرا من الوجود وتألّقت أقمار عدّة في راحتيك “. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه النّزعة الشّعريّة لدى القصّاص تدفعه إلى شحن السّياق الحكائيّ بالعدول والإيقاع والإيحاء. فتقترب القصّة من القصيدة أو تتحوّل على الأقلّ في مواضع منها إلى قصيدة نثريّة. وبذلك يتداخل فيها جنسان. تلك هي الخصائص العامّة الثلاث الغالبة على القصّة القصيرة التونسية في هذه المرحلة الثّالثة من مسيرتها. ومنطلقها، كما ذكرنا، بداية التّسعينات. ولعلّ لانهيار المدارس وانحلال الأجناس الأدبيّة في هذه المرحلة دخلا في ونصراف القصّاصين والشّعراء إلى تعميق تجاربهم الفرديّة بالإبحار في ذواتهم والارتباط الوثيق بمحيطهم المحلّيّ. المصادر: 1- ساسي حمام، قِطَعُ غِيار، الدار العربية للكتاب، تونس 1994 2- فوزية ا لعلوي: – عليٌّ ومُهرة الرّيح، دار رؤى، تونس 1995 – الخِضاب، دار الإتحاف للنّشر، تونس 1999 – طائر الخزف، على النّفقة الخاصّة، تونس 2003 – حريق في المدينة الفاضلة، دار سحر للنّشر، تونس 2004 3- الأسعد بن حسين، معجزة أخرى للحبّ، على النّفقة الخاصّة، تونس 1997 4- محمد السّبوعي، نبيذ نوميديّ، الوكالة المتوسّطيّة للصّحافة، تونس 2000 5- منيرة الرّزقي : – رائحة العنبر، دار سيراس للنشر، تونس،2001 – سوق ا لمتعة، مجد، ا لقاهرة 2003 6- جنّات إسماعيل: ثمّة شيء ما تكسّر، دار الإتحاف للنّشر، تونس 2004 7- فيصل محمّد الزّوايدي: – قصّة بسيطة جدّا، على النّفقة الخاصّة، تونس 2007 – قلعة الأرض، منا د، تونس 2008. 2016-03-15 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet