الواقعيّ المأسويّ في قصص القصّاصة التّونسيّة بسمة البوعبيدي : مجموعة الانحناء(1) أنموذجا – قراءة : محمّد صالح بن عمر 14 مارس,2016 القصّاصة التّونسيّة بسمة البوعبيدي تشتمل مجموعة الانحناء لبسمة البوعبيدي على ثماني عشرة أقصوصة منها اثنتا عشرة يغلب عليها اللّون الواقعيّ المأسويّ و تتوزّع الستّ الباقية أي الثّلث على ألوان أخرى شتّى من الكتابة (المأسويّ- الهزليّ * ، الرمزيّ ، الخارق* ، النفسيّ … ) . فلنبدأ بالنّظر في اللّون الغالب ثمّ سنتوقّف وإن إجمالا عند الألوان الثّانويّة الحضور . فالواقعيّ المأسويّ يتألّف ، كما تنصّ عليه تسميته ، من لونين مختلفين يرتبط أولّهما باتّجاه أدبيّ كبير ظهرت في صلبه اتّجاهات فرعيّة متباينة هو الاتّجاه الواقعيّ ويمتّ الثّاني بصلة وثيقة إلى المأساة* وهي جنس مسرحيّ يونانيّ الأصل ذو بنية مخصوصة . أمّا الواقعيّ فهو إجمالا على أربعة أضرب رئيسة هي : الواقعيّ التّسجيليّ الذي تقوم على النّقل العدسيّ لما يدور في الواقع العيانيّ المباشر و محتمل الوقوع الذي لا تُستمدّ الأحداث المرويّة فيه مباشرة من الواقع لكنّها تكون شبيهة بما يمكن أن يحدث فيه ( 2 ) والواقعيّ الاشتراكيّ الذي يخضع لأربعة بنود حدّدها مُنظّره أندري جدانوف (Andreï Jdanov 1896- 1948 ) هي : الإيديولوجيّ *وهو أن يكون الكاتب معتنقا صراحة للمذهب الجدليّ الماديّ والحزبيّ* وهو أن يكون منخرطا في حزب الطّبقة العاملة والشّعبيّ* وهو أن يصوّر معاناة الفئات الشّعبيّة ونضالها اليوميّ ضدّ الطبقات المستغلّة والنّمطيّ* وهو أن يكون الشّخوص المصوّرة ممثّلة لفئات وطبقات اجتماعيّة ( 3 ) . والواقعيّ الجديد* وهو تيّار فنّيّ أدبيّ ازدهر في أربعينات القرن الماضي بالبرتغال و إيطاليا ثم انتشر في أكثر أقطار أروبّا قادته مجموعة من الكتّاب اتّخذوا من أصواتهم أصواتا لشعوبهم يتبنّون مطالبها ويصوّرون تطلّعها إلى غد أفضل بلغة قريبة من لغة الشّارع (4 ) . وأمّا المأسويّ* فهو لا ينحصر في جنس أدبيّ معيّن . لكنه يأخذ من المأساة* مقوّمات معيّنة من حيث المحتوى الدّلالي و الوظيفة . فمن جهة المحتوى الدّلاليّ يصوّر، مثلَ المأساةِ، صراعا داخليّا تخوضه شخوص تكون في مواجهة حادّة مع قدر استثنائيّ (5). أماّ وظيفته فهي وظيفة ذلك الجنس المسرحيّ نفسه التي حدّدها أرسطو في التّنْقِية * . والمقصود بها هو ظاهرة إفراج المشاهد للمأساة عن شحن عاطفيّة محدّدة حصرها في إحساسين اثنين هما الرّعب والشّفقة . فالرّعب مردّه إلى شعور المتلقّي بأنّ الكارثة التي تحلّ بالآخر يمكن أن تحلّ به . والشّفقة متأتّية من إحساسه بأنّ الشّخص التي وقعت له المصيبة لا يستحقّها . وتكون نتيجة هذا الإفراج تنقية النّفس من المشاعر السلبيّة التي تنخر كيانها (6). أمّا من وجهة نظر فرويد وغيره من علماء تحليل النّفس فعمليّة الإفراج تلك تتجسّد في إظهار المتفرّج عواطف غير مرغوب فيها مكبوتة في أعماق لاوعيه .وفي كلتا الحالتين يتعلّق الأمر بتماهي* المتفرّج مع بطل المأساة (7). ذلك هو القاسم المشترك بين المأساة التي هي جنس مسرحيّ معيّن والمأسويّ الذي يمكن أن يسم أيّ نصّ أدبيّ سرديّ أو شعريّ . لكنّ هذه المفاهيم المتّصلة بالواقعيّة وبالمأساة و إن كانت عند واضعيها الأصليّين قواعد صارمة تخضع لها وجوبا الكتابة الأدبيّة ولا يجوز لمستخدميها أن يحيدوا عنها قِيدَ أنملة فإنّ ما حدث في بحر العشريّتين الأخيرتين على الصّعيد العالميّ من انهيار كلّيّ للمدارس الأدبيّة وتحوّل أساليبها جميعا إلى إرث إنسانيّ مشترك يمكن للكاتب أن يتصرّف فيه بمنتهى الحرّية حتّى داخل الأثر الواحد فلا سبيل البتّة اليوم إلى اتّخاذها معايير تُقوَّمُ بمقتضاها الأعمال السّرديّة الحديثة الظّهور . ومعنى ذلك أن لا مانع من أن نجد عند المؤلّف الواحد أصداء لكلّ تلك الألوان من الواقعيّ ، كما أنّه إذا كتب في اللّون المأسويّ فيمكن أن يتفاوت حضوره في نصوصه بين المسحة العامّة الخفيفة والصّبغة العميقة البعيدة الغور. وحتّى المواجهة مع القدر فمن الجائز جدّا ألاّ تكون مع قوة ماورائيّة خفيّة بل مع قوّة موضوعيّة في حلبة الواقع ، تمشّيا مع اللّون الواقعيّ الذي يختاره . وهذا الموقف التّنسيبيّ الحذر هو الذي نقبل به على قراءة مجموعة ” الانحناء “القصصيّة لبسمة البوعبيدي ، حرصا منّا على اجتناب الوقوع في الإسقاط .وهو العُمْلة الرّائجة في البحث الأكاديميّ العربيّ اليوم . وشتّان بين التّطبيق الحَرْفيّ للنّظريّات الوافدة الذي يقرأ الباحث العربيّ بمقتضاها ما يدرسه من آثار بعقول غيره والاستئناس و الإفادة اللّذين يضمنان له التّعويل على طاقاته الذّهنيّة الشّخصيّة في التّحليل والتّأويل دون أن يقطع صلته بأحدث الشّواغل المعرفيّة العالميّة . I – اللّون الغالب على المجموعة : الواقعيّ المأسويّ : يغلب ، كما قلنا ، على معظم أقاصيص هذه المجموعة اللّون الواقعيّ المأسويّ الذي يغطّي تقريبا الثّلثين منها . ولئن كان هذا اللّون المزدوج واحدا في مستوى الإنجاز فإنّنا لسبب منهجيّ نفكّكه إلى عنصريْه لكي نتبيّن طبيعة كلّ عنصر منهما عند صاحبة هذه المجموعة . 1- الواقعيّ في مجموعة الانحناء : لا يتعدّى الواقعيّ في القصص التي وظّف فيها من مجموعة الانحناء أن يكون إطارا موغلا في العموم . وذلك لحرص المؤلّفة على تجريد الشّخوص من ملامحها الجسميّة وأزيائها والأماكن من سماتها المرجعيّة المخصوصة والأحداث من طابعها الوثائقيّ . بل تحاشت ، إلى حدّ بعيد ، حتّى إطلاق أسماء على الشّخوص . فلا نظفر في المجموعة كلّها إلا بثلاثة أسماء هي ” العمّ صالح ” ( قصّة ” القرار ” ) و” الطيّب ” ( قصّة ” الأرض الرّخاء ” ص 81 ) و ” صالح ” ( قصّة ” زمن العجز ” ) ، مكتفية بصفات عامّة مثل ” الأب ” ( قصص ” طعم الرحيل ” و ” لهو ” و” الأرض الرّخاء ” و ” الانتظار ” ) و” الأمّ ” ( قصّتا الانحناء ” و ” عودة ” ) و” الأخ ” ( قصّتا ” الأرض الرّخاء ” ) و الابن ( قصص ” طعم الرّحيل ” و ” عودة ” و ” الانتظار ” ) و” العجوز ” ‘ قصّة ” ذات اشتياق ” ) . وكذلك شأن الأماكن التي تقتصر على تعيينها بأسماء جنس لا أعلام نحو ” الصّحراء ” ( قصة ” المتاهة ” ) و” البلدة ” ( قصّة ” طعم الرّحيل ” ص 42 )” و” الواحة ” و ” القرية ” ( قصّة ” القرار ” ص 33 و ص 34 ) و ” السّوق ” ( قصّة ” القرار ” ص 32 ) . ولم تشذّ عن ذلك إلاّ قصّة واحدة هي قصّة ” الرّاتب الشّهريّ ” التي ذُكِرت فيها أسماء أماكن بعينها منها ” شارعا محمّد الخامس و الحبيب بورقيبة ” بتونس العاصمة وضاحيتا ” حلق الوادي ” و “سيدي أبي سعيد “. وهو ما ينأى بقصص المجموعة عن الواقعيّة التّسجيليّة ويقرّبها من الواقعيّة الاشتراكيّة التي تعتمد التّنميط بندا أساسا لازما .لكنّها تفارق هذا الضّرب من الواقعيّة من جهة المصير الذي تسير إليه معظم الشّخوص – وهو الفشل الذّريع – لأنّ مساعي الشّخوص الرئيسة في القصّة والرّواية الواقعيّتين الاشتراكيّتين تكلل وجوبا بالانتصار، إعلاءً من شأن الفئات الكادحة والمسحوقة وتمجيدا لنضالها ضدّ الطّبقات المستغلّة . وهكذا فهي تباين هذين اللّونين من الواقعيّة معا . لكنّ الكاتبة و إن ألغت إلغاء شبه تامّ صفات الشّخوص والأماكن الخصوصيّة وأسماءها ولم تسق أيّ حدث تاريخيّ محليّ حتّى على سبيل الإشارة فقد أبرزت مقابل ذلك وعلى نحو مكثّف مدى عمق الرّوابط الإنسانيّة بين الشّخوص . ولا أدلّ على ذلك من حضور الأب والأم اللاّفت في عدّة أقاصيص منها ” طعم الرّحيل ” و ” لهو ” و ” الأرض الرّخاء ” و” ذات اشتياق ” و” الانحناء ” ، كما أبرزت معاناة الشّخوص الرئيسة باعتبارها رموزا لبشر في مواجهة الفقر المدقع الذي إمّا أن يحكم عليها بعزلة خانقة غالبا ما تنتهي بالموت ( ” القرار ” ، ” ذات اشتياق ” ) وإمّا أن يضعها إزاء اختيار صعب:الانحراف أو الهجرة إلى خارج البلاد . وحين تختار الحلّ الثاّني تجد نفسها في مآزق حادّة غير متوقّعة أو عرضة لنكبات مدمّرة تزيد في تعميق مأساتها ومآسي الأفراد الذين ترتبط بهم دمويّا في محيطها الأصليّ . كلّ هذا يجعل قصص مجموعة الانحناء لا تنضوي تحت أيّ لون بعينه من ألوان الواقعيّة ، منتحية اتّجاها يجمع بين المسحة الواقعيّة العامّة وعمق البعد الإنسانيّ . وفي ذلك – ولا شكّ – احتفاء بالقيم العليا الأصيلة التي لا يزال يتعلّق بها أهل القرى التّونسيّة لاسيما في الجهات المحرومة وبثباتها إزاء زحف القيم المادّيّة الزّائفة التي لم تفتأ تروّجها حضارة هذا العصر التكنولوجيّ الصّاخب وتنشرها على نطاق لا ينفكّ عن الاتّساع . 2- المأسويّ في مجموعة الانحناء : لعلّ أهمّ مقوّمات المأسويّ في قصص مجموعة الانحناء ثلاثة هي : وقوع الشّخوص الرّئيسة في مآزق حادّة ، وقوف قوى قاهرة في طريقها ، عجزها عن المقاومة وانتهاء مساعيها بالفشل . 2- 1 : المآزق : لا تخلو أيّ قصّة في هذه المجموعة من مأزق تقحم فيه الكاتبة شخصيّتها الرّئيسة منذ البداية .وهذه المآزق شديدة التنّوع .لكنّ الغالب عليها هو أنّها مآزق اجتماعيّة ممّا يحدث أو يمكن أن يحدث في الواقع التونسيّ إن قليلا وإن كثيرا . فهذه امرأة من الجنوب التونسيّ تنذر على نفسها إخراج جفنة كسكسي إلى الصحراء ، طبقا لعادة من عادات الجهة . ولكنّها عند العودة تتيه وتكاد تقضي نحبها لولا أن أنقذتها طائرة مروحيّة كانت تحلّق مصادفة فوق الموضع الذي تسير فيه ( المتاهة ص ص 21 – 27 ) . وهذا مُعلّم يُعيَّن للتّدريس في ريف قرية نائية فتعترض سبيله عصابةٌ ليلا – وهو عائد من القرية – بعد أن قضى بعض شؤونه فيها ( الغريب ص ص 15 – 20 ) . وهذا رجل وحيد فقير الحال تقدّمت به السنّ وأنهكه المرض فيضطرّ إلى بيع حِماره الذي رافقه سنين طويلة تمتّنت في أثنائها أواصر الألفة بينهما ( قصّة ” القرار ” ص ص 29 – 35 ) . وهذا شيخ فلاّح تونسيّ يقرّر التّفريط في أرضه التي يتعلّق بها شديد التعلّق ليلتحق بابنه المهاجر المقيم ببلد أروبيّ والمتزوّج بأجنبيّة .ولكنّه ما إن يحلّ بمطار ذلك البلد حتّى يمنع من دخوله فيعود على متن الطّائرة نفسها من حيث أتى ( قصّة ” طعم الرّحيل ” ص ص 37 – 44 ) . وهذه زوجة شابّة حامل يمعن زوجها في إساءة معاملتها ولا يقوم بواجباته نحوها فتُضطرّ إلى العمل بأرض أحد الفلاّحين حيث يباغتها ذات يوم المخاض فتنجب بنتا على عين المكان . ومن الغد يُعيّنها صاحب الأرض مراقبة لبقيّة العاملات .وفي ذلك إيحاء بأنّ المولودة ابنته لا ابنة زوج العاملة . ( قصّة ” الانحناء ” ص ص 52 – 58 ) . وهذا كهل ينخر كيانه مركّب ذنب مكين منذ صغر سنّه لأنّه تسبّب عن غير قصد في وفاة والده بأن طلب منه – وهو طفل – بإلحاح شديد أن يصعد إلى شجرة ليقطف له رمانّة نالت إعجابه فاستجاب الأب لطلبه لكنّه سقط من أعلى الشّجرة وأصيب بكسر في رأسه أودى بحياته ( قصّة ” لهو ” ص ص 65 – 70). وهذا تونسيّ مقيم بالمهجر ومتزوّج أجنبيّةً يعود على جناح السّرعة إلى بلده لرؤية والدته قبل أن تُسْلم الرّوح وهي في حالة احتضار . فيفصله عرفه الأجنبيّ عن عمله لأنّه ترك العمل دون ترخيص ( قصّة “عودة ” ص ص 71- 77 ) . وهذا شابّ يهاجر أخوه إلى بلد أجنبيّ فيعود في صندوق وقد نهش الحوت أكثر جثّته . وحين أبصره والده العجوز على تلك الحال فقد الحياة من هول الصّدمة . فخسر البطل السّارد بذلك أخاه ووالده دفعة واحدة ( قصّة ” الأرض الرّخاء ” ص ص 79 – 85) . وهذا شخص تعترض سبيله عصابة من اللّصوص فيسطون على ما يحمله من مال ويُهوي أحدهم على رأسه برفش فينقل إلى المستشفى ( قصّة ” تذكّر ” ص ص 85 – 89 ) وهذه امرأة عجوز تقيم بمفردها في بيتها . وفي ليلة عيد تبقى مستيقظة من شدّة الشّوق لرؤية أحفادها وحفيداتها الذين تعوّدوا زيارتها كلّ سنة بهذه المناسبة . لكنّهم حين جاءوها في صباح الغد إلى بيتها لتهنئتها بالعيد وجدوها جثة هامدة ( قصّة ” ذات اشتياق ” ص ص 101- 104 ) . وهذا شابّ عاطل يهاجر إلى بلد أجنبيّ حيث ينتدبه للعمل زوجان مسنّان ليعتني بهما مقابل وراثته لممتلكاتهما بعد وفاتهما . لكنّهما يتّهمانه بمحاولة قتلهما للتّعجيل بالحصول على تلك الممتلكات فيفرّ إلى تونس حيث يجد والده ووالدته قد فارقا الحياة دون أن يحضر جنازتيهما . وفيما هو يترحّم على قبريهما إذ يحلّ أعوان الأمن للقبض عليه ( قصّة ” انتظار ” ص ص 111 – 117 ) . وهذا مَعُوق يتيم مصاب بعرَج خِلّقيّ يشتغل حفاّر قبور يُجنّد ظلما فيحاول الفرار لكن يُقبض عليه ويُسجن ( قصّة ” أحقاد عشواء ” ص ص 127 – 132 ) . 2-2 : القوى القاهرة : هذه المآزق هي ، في الأغلب الأعمّ ، متأتّية من وجود قوى قاهرة تعترض سبيل الشّخوص الرّئيسة وتعرقل مساعيها وتعكّر صفوها ، متسبّبة في فشلها بعد أن تسدّد لها سلسلة من الضّربات دون أن تقدر على ردّ الفعل أو حتّى الثّبات لفترة طويلة . فتكون نهايتها إمّا الخيبة وتبخّر الأحلام وإمّا الموت . وحين نتأمّل هذه القوى القاهرة نجد أكثرها من صنف لافت هو الحيف الاجتماعيّ الذي يتجسّد أساسا في الفقر المدقع . فصاحب الحمار إنّما قرّر بيعه رغم الألفة القويّة التي تجمعه به لأنّه وجد نفسه عاجزا عن الإنفاق على نفسه .والزوجة التي ارتضت أن يربط بها صاحب الضّيعة علاقة غير شرعيّة مقابل تعيينها مراقبة لبقيّة العاملات إنّما دفعتها على ذلك الفاقة وعدم إنفاق زوجها عليها . والمآزق الكثيرة التي وقع فيها الشّخوص المهاجرون أو أفراد عائلاتهم مردّها إلى استفحال البطالة في وطنهم وحالة الإهمال التي تعاني منها جهاتهم الأصليّة .و سلوك الموظّف الذي لم يقدر على كبح هواه ما إن قبض مرتّبه الشّهريّ الهزيل متأتّ من حالة الإحباط المستمرّ التي يعيشها من جرّاء عجزه عن الوفاء بحاجاته الدّنيا على امتداد أيّام الشّهر .فما إن تسلّم ذلك الرّاتب المتواضع حتّى انساق وراء نزواته لا شعوريّا .و العجوز التي تعيش بمفردها فتموت وحيدة دون أن يتفطّن إليها أحد ، ما كانت لتلقى ذلك المصير لو لم يطرأ على بنية العائلة في المجتمع العربيّ الإسلاميّ التّغيير الذي تحوّلت بمقتضاه من عائلة ممتدّة إلى عائلة نواة .وهو ما جعل كبار السنّ يُحرمون من حرارة الجوّ العائليّ وعناية الأبناء والأحفاد المباشرة بهم .وظاهرة قطع الطّريق التي تعرّض لها بعض الشّخوص الرّئيسة إنّما هي من نتاج استفحال الفقر وضيق ذات اليد . وهو ما يجعل السّطو على أموال الآخرين عند المُعْدِمين السّبيل الوحيدة إلى ضمان البقاء على قيد الحياة . هذه القوى لا تخلو لا محالة في بعض جوانبها من تدخّل القدر بمفهومه الميتافيزيقيّ . وذلك بحكم أنّ الإنسان لا يختار الجهة التي يولد فيها ولا الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها . لكنّ طبيعة تلك القوى باعتبارها اجتماعيّة بحتة تجعل المتسّبب الأصليّ المباشر في وجودها هو الإنسان . ومن ثمّة فإنّ الأسباب العميقة للمأسويّ الغالب على هذه القصص أسباب أرضيّة لا سماويّة . وفي هذا تقاطع أيضا مع الواقعيّة الاشتراكيّة . وهكذا ففي مجتمع يفتقر إلى الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعيّة لا يبقى أمام المنكوبين والمحرومين سوى حلّين : الهجرة أو ممارسة الإجرام .وكلاهما حلّ سلبيّ .وهو ما ألحّت الكاتبة في إبراز نتائجهما الوخيمة ، تأكيدا منها لعمق المأساة التي يعيشها أولئك المعذّبون في الأرض . 2 -3: الفشل الحتميّ : لقد تُوّجت جميع القصص التي وُظّف فيها الواقعيّ المأسويّ بخواتم كارثيّة أبرزها : الموت ( ” القرار ” ، ” الأرض الرّخاء ” ، “ذات اشتياق ” ) والنّجاة منه بأعجوبة ( ” المتاهة ” ، ” تذكّر ” ) والموت المعنويّ الماثل في سفح ماء الوجه والتخلّي عن قيمة الشّرف ( “الانحناء ” )والتّعرّض إلى السّطو والاعتداء بالعنف ( ” الرّاتب الشّهريّ ” ، ” تذكّر ” ) والسّجن ( ” أحقاد عشواء ” ) وعذاب الضّمير ( ” لهو ” ) . واللاّفت أنّ هذا الإخفاق و إن كان المتسبّب فيه قوى قاهرة فإنّ للشّخوص الرّئيسة التي مُنيت به دورا أيضا في حصوله ، لاستسلامها للمصير المحتوم وتقصيرها في التّصدّي والواجهة أو لاختيارها الحلّ السّهل وهو الفرار .وهذا ما يجعل منها شخوصا قمريّة* . ومن هذه النّاحية هي على طرفي نقيض ومواصفات البطل كما حدّدتها الواقعيّة الاشتراكيّة الماثلة في الصّلابة والثّبات وقوّة العزيمة والإصرار. وهو ما يمكّنه من الانتصار في النّهاية على كلّ العراقيل التي اعترضته . II – الألوان الثاّنويّة الحضور في مجموعة الانحناء : 1- اللّون الأوّل : المأسويّ الهزليّ : تنتمي إلى هذا اللّون قصّة ” الرّاتب الشّهريّ ” التي يعرض إطارها العامّ صورة قاتمة هي الوضع الماديّ الصّعب الذي يتخبّط فيه موظّف صغير من جرّاء ضعف راتبه الشّهريّ .لكنّ هذا الوضع الذي يجلب له تعاطف القارئ سرعان ما ينقلب إلى وضع مضحك حين يتسلّم ذات نهاية شهر مرتّبه الهزيل ويرى مصادفة فتاة جميلة تأخذ بلبّه . فيمضي في ملاحقتها من العاصمة حتّى ضاحية سيدي أبي سعيد على متن القطار . وهناك عند الوصول – وهو يتعقّب خطاها – يقع في قبضة عصابة تعنّفه وتفتكّ منه راتبه . و هذه النهاية لا تثير ارتياح القارئ إلى الجزاء الذي ناله ذلك الموظف عقابا له على فعلته ، بقدر ما تدعوه إلى التّفكير في أسبابها العميقة ، لاسيّما حالة الحرمان والإحباط التي يعانيها الموظّفون الصّغار من جرّاء تواضع أجورهم . 2- اللّون الثّاني : الرّمزي : استخدمت الكاتبة هذا اللّون في قصّتين هما ” نيران عرس ” و ” زمن العجز ” . ففي الأولى قلّصت إلى أقصى حدّ ممكن من الإشارات المرجعيّة على نحو لا يتيح للقارئ تخيّل ملامح الشّخوص والأماكن والأحداث .وكلّ ما ينطبع في ذهنه أنّ شخصا ربّما كان جنديّا أو فدائيّا يتقدّم سرّا في مكان خال بتكليف من قيادة مّا ثمّ يحدث انفجار يعود على إثره من حيث أتى . وفي الأخرى تضع امرأة مولودا تسمّيه وزوجها صالحا . ثمّ يدور بينهما في شأنه حوار يُفهم منه أنّه مصاب بعدّة عاهات خِلْقِيّة : ” أكتع ، أمرد ، أحدب ، كسيح ” (ص 107 ).ويتّخذ والده منه موقفا حاسما قائلا : ” هذا الزّمن ليس للعُجّز لاعقي أقفية الأحذية خَرِبي البُنيان ” ‘ ( نفسه ) ثمّ يحمله إلى قوم . فيبنون له مزارا فوق شاهق للتبرّك به ثمّ يسقط الشّاهق .وهكذا تبقى القصّة مفتوحة على تآويل شتّى لا حصر لها . 3- اللّون الثاّلث : الخارق : هذا النّمط من الكتابة أُفْرِدَتْ له قصّةُ ” الرّأس ” . ومُحصّلها أنّ البطل السّارد يطلب من مصوّر أن يلتقط له صورة كاملة فيفعل. وحين يتأمّلها يجدها بلا رأس . فيصاب بذعر شديد . ويقصد مصوّرا آخر. فيجده منشغلا بمشاهدة مقابلة في كرة القدم . وحين يتأمّل الكرة التي يتقاذفها اللاّعبون يجد مكانها رأسه . وهذه حالة من حالات الانفصام عن الواقع واختلاط الوهم بالحقيقة . 4- اللّون الرّابع : النّفسيّ : تُصنّف في هذه الخانة قصّة ” السرّ ” . وهي تدور حول هجر زوجٍ زوجتَه في الفراش لتقدّمها في السنّ أو لوقوعه في حبّ أخرى . وذات ليلة اتّجهت الزوجة خفية إلى غرفة زوجها . فوجدته يعاشر صورة امرأة .وما على القارئ إلا أن يملأ الفراغ الذي تركته الكاتبة بتخيّل الأسباب التي دفعته إلى الأخذ بهذا الحلّ التّعويضيّ المَرَضيّ . إنّ في وجود هذه الألوان المتنوّعة من الكتابة السّرديّة الخارجة عن اللّون الأساس – وهو الواقعيّ المأسويّ – لدليلا على أنّ الكاتبة لا تنضوي تحت لواء اتّجاه بعينه تلتزم بضوابطه التّقنية ومبادئه الجماليّة مثلما كان سائدا قبل التّسعينات . وهذا ، دون أدنى شكّ ، من نتائج انهيار المدارس الذي عقب انهيار الإيديوجياّت على نطاق عالميّ . فأضحت تقنياتها النّوعيّة إرثا مشاعا بين الكتاّب يتصرّفون فيها على النّحو الذي يستجيب لأغراضهم التّعبيريّة و يوظّفونها كلّما اقتضى المقام ذلك . III –الخصائص الإنشائيّة في مجموعة الانحناء : تنتمي المؤلّفة تاريخيّا وفّنّيّا إلى موجة من الكتابة الإبداعيّة تزعّمها جمع من الشّعراء والكتّاب السّرديّين التّونسيّين بدءا من نهاية الثمانينات وتعزّزت صفوفهم تدريجيّا بعدة أسماء من الجيلين اللاّحقين . وقد لفت أولئك الانتباه بمخالفتهم السّائد . وذلك بالتوجّه في خطابهم إلى متقبّل افتراضيّ غير مستهلك . فانزاحوا عن الخطابة التوعويّة التعبويّة الجافّة ، مُؤْثِرين مخاطبة متلقّ حصيف ، فطِن ، قادر على حسن التّخريج ودقّة التّأويل والمشاركة النّشيطة في العمليّة الإبداعيّة بملء الفراغات والقراءة بين السّطور . ومماّ يربط قصص بسمة البوعبيدي على نحو قويّ بهذا التوجّه استخدامها المكثّف لتقنيتي الإضاءة والتّعتيم . ففي قصّة ” الغريب ” مثلا و إن ألحّت الكاتبة في إبراز بنية البطل الذّهنيّة والنّفسيّة فقد أبقت في الخفاء أو كادت ملامحه الجسميّة وهويّة الأطراف التي اعترضت سبيله ليلا خارج القرية وشهرت في وجهه السّلاح . وفي قصّة ” المتاهة ” تظلّ هويّة البطلة مجهولة من البداية إلى النّهاية مقابل تفخيم عمليّة النّذر للصحراء التي قامت بها . فمثل هذين الفراغين يمكن للقارئ أن يملأهما طبقا لمبدأي “النّصّ الجمع ” وتعدّد القراءات . وهناك خصيصة أخرى بارزة هي تشعير السّرد *. وذلك جليّ في شحن الكاتبة السّياق الحكائيّ بضروب شتّى من العدول الحيّ على هيئة استعارات مبتكرة وتعاليق طريفة ووقائع مباغتة . من ذلك قولها : ” مِزَق روحه تهرب منه متلاشية يفترشها سواد اللّحظات … نبحت داخل عظامه كلاب موبوءة فتقاطر جبينه ألما وحمّى وندت عنه أناّت دفينة غذّتها أحاسيس متلاطمة الاشتعال … ” ( قصّة : ” أحقاد عشوائيّة ” ) وقولها : ” يطلّ عليه بشوشا فيغسل الحزن وجه الصّورة لتنطبع في الحشا أكثر …يطلّ عليه فتتداعى جدران السّلوى التي أجهده ترميمها نفسا نفسا … يطلّ ليفزع ويرتمي وهما في حضنه نائحا حدّ الانهيار …” ( قصّة ” لهو ” ) . خاتمة : هذه المجموعة القصصيّة الموسومة بالانحناء لبسمة البوعبيدي تعكس تجربة في طور التشكّل لكاتبة سرديّة صاعدة ، مثابرة ، لم تنفكّ تجوّد نصوصها من عمل قصصيّ أو روائيّ إلى آخر ، مستلهمة موضوعاتها من الواقع الاجتماعيّ المتردّي السّائد منذ قرون في جهتها الأصليّة الجنوب الغربيّ التونسيّ من جرّاء إهمال السلط المركزيّة المتعاقبة و تقصيرها ، متعقّبة في هدا المنحى خطى علَميْن بارزين أصيلي هذه الجهة ، لأعمالهما قيمة عربيّة و عالميّة أجمع عليها النّقاد والباحثون هما : البشير خريّف ( 1917 – 1983 ) وإبراهيم الدّرغوثي . لكنّ قيمة قصص هذه المجموعة لا تكمن في موضوعاتها فحسب – فالمعاني كما قال الجاحظ ملقاة على قارعة الطّريق – وإنّما في حسّ الكاتبة الجماليّ المرهف الذي يتيح لها – وهي العصاميّة التي لم تجيء إلى الكتابة السّرديّة بعد استيعاب النّظريّات المُعَلّبة الفظيعة لجيرار جينات ( Gérard Génette ) – ( وقد نسي أتباعه المخلصون عندنا وما أكثرهم ! أنّ أستاذه البلغاري تزيتفن تودوروف ( Tzvetan Todorov ) وجد سنة 2007 من الشّجاعة ما دفعه إلى الاعتراف علنا بأخطائه في تحنيط الأدب فأطلق صرخته المدوّية الشّهيرة : ” يجب إرجاع الأدب إلى قلب الإنسانية ” ) أن تتنكّب تلقائيا عن التّسجيليّة الفجّة والخطابة الإيديولوجية الجافّة و الفبركة التّقنيّة المفتعلة ، دافعا إياّها إلى إيثار الإضمار على الإظهار والإيحاء على التصريح ، مع عدم الانحباس داخل أسوار اتّجاه بعينه . وهو ما مكّنها من إنشاء لوحات موغلة في تصوير المآسي التي يعانيها الإنسان في محيطها بأسلوب فنّي أخّاذ ، فضلا عما تصدر عنه من رؤية شموليّة عميقة للواقع وللوجود معا ، لا فصل فيها بين ما هو آنيّ عابر وما هو كونيّ ثابت ، رؤية تنزّل نصوصها في منزلة الإنسانيّة الجديدة ، إنسانيّة القرن الحادي والعشرين التي تهفو إليها كلّ نخب العالم النيّرة . لهذا يمكن القول دون غلوّ إن هذه المجموعة القصصيّة الجديدة لبسمة البوعبيدي لبنة أخرى في صرح تجربة صلبة متميّزة ننتظر منها في قادم الأيّام الكثير والكثير . الهوامش : 1- البوعبيدي ( بسمة ) ، الانحناء ، على النفقة الخاصة ، توزر – تونس 2012 2- Revue « Communications « , Recherches sémiologiques ,11 numéro spécial sur le vraisemblable, Paris 1968 3- وليمز ( ريموند ) ، الواقعية والرواية المعاصرة ” ، تعريب : عبد الواحد محمد ، مجلة ” الأقلام ” عدد 11 ، بغداد أوت 1980 ص ص 206 – 207 4- Tallenay ( Jean-Louis) , « Note sur le néo-réalisme » , Revue ” Séquences : la revue de cinéma “, Numéro 12, février 1958, pp 41-42 5- Le Nouveau Petit Robert de la langue française , Dictionnaires Le Robert , Paris 2009 Mots : Tragédie , Tragique 6- Aristote, La poétique, texte, traduction, notes, par Roselyne Dupont-Roc et Jean Lallot, Seuil, Paris 1980 Chapitre 6, 49b28, p p 31- 77 7-Freud S.(1905) Personnages psychopathiques à la scène, trad. fr. Œuvres Complètes, Tome VI, PUF Paris 2006 p 321 المصطلحات : *المأسويّ الهزليّ ( Le tragi-comique ) *الخارق (Le surnaturel ) *المأساة ( La tragédie ) *الإيديولوجيّ ( Ideinost) *الحزبيّ( Partinost ) *الشّعبيّ(Naradnost ) *النّمطيّ (Tipichnost ) *المأسويّ (Le tragique ) *لتّنْقِية (La catharsis ) *التماهي (L’identification ) *شخصيّة قمريّة (Personnage lunaire ) *تَشْعِير السّرد ( Poétisation de la narration ) بسمة البوعبيدي: ولدت بدقاش (ولاية توزر) في19 نوفمبر 1960. عصامية التكوين. زاولت دراستها الابتدائيّة بالمتلويّ ثمّ تابعت دروسا مسائيّة في اللّغة الفرنسيّة بمعهد بورقيبة للّغات الحيّة كتبت القصّة والرّواية. عرّبت بعض الكتب. صدر لها في القصّة: – تغريد خارج السّرب، دار الإتحاف للنّشر، تونس 2001 – أحترف الصّمت، على نفقة المؤلّفة، تونس 2004 – الانحناء ، على النفقة الخاصة ،تقديم محمد صالح بن عمر ، توزر – تونس 2012 و لها في الرّواية : – موسم التّأنيث، على النفقة الخاصة، 2006 – رائحة الخوف، فرع اتّحاد الكتّاب التونسيّين بتوزر، تونس 2009 2016-03-14 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet