ملامح العاشق الأرضيّ الظّاهرةُ والباطنةُ في ديوان ” ما وراء حنجرة المغنّي ” ( 1) للشّاعر السّعودي جاسم الصّحيح : محمّد صالح بن عمر 18 ديسمبر,2015 الشّاعر السّعودي جاسم الصّحيح إنّ دراسة أيّ تجربة عِشْقِيّة في أثر أو مجموع آثار لشاعر أو كاتب تقتضي أوّلا تحديد نوع الحبّ الذي تنبع منه وعليه مدارها . والحبّ منذ القديم قد قسّم إلى نوعين رئيسين : حبّ جسديّ ( أو حيوانيّ ) وحبّ روحيّ .أماّ الأوّل فهو الذي يمارسه عامّة النّاس . وأمّا الآخر فهو تصوّر فلسفيّ ارتبط بمنشئه أفلاطون و إليه نُسب فسمّي ” الحبّ الأفلاطونيّ “* . و في العصر الحديث انكبّ عليه علماء تحليل النّفس والجنسانيّون* فقسّموه إلى أنواع شتّى لعل أبرزها (2) : – الحبّ الشّهوانيّ* : هوالذي يكون العنصر المولِّد له والضّامن لاستمراره نزوة* يثيرها الجمال الجسديّ للمعشوق دون أن يكترث العاشق لموقف المحبوب منه . – الحبّ اللّعبي* : خاصّيته الأولى أن العاشق يحافظ منذ البدء وطيلة استمرار علاقته بالمعشوق على مسافة كافية بينهما . وقد يمارس هذا الحبّ مع عدّة أشخاص في وقت واحد . – الحبّ الجنونيّ *: هو حب مقصور على بعض المُصابين بأمراض عقليّة . ومن أهمّ سماته الغيرة الشّديدة والعذاب النّفسيّ . – الحبّ العمليّ *: سمته المميزة أنّه حبّ عقليّ يوازن العاشق فيه منذ البدء بين محاسن المعشوق ومساوئه . فتكون الحرارة العاطفيّة فيه محدودة . – الحبّ الخِلافيّ *: قوامه التّعبير عن التعّلق بالمعشوق ، على عكس ما هو سائد ، بوساطة خلافات حادّة مستمرّة معه . – الحبّ-الصّداقة *: هو الذي يقوم على التفاهم وتقارب الأمزجة ووجهات النظر دون ميل قوي متبادل . ويمكن أن نضيف أليها نوعين سبق أن حدّدهما سيقمون فرويد (Sigmund Freud ) منذ نهاية القرن التّاسع عشر هما : – الحبّ الاستحواذيّ* (3): وهو ضرب مخصوص من الرّغبة في المعشوق يتّسم بالجموح والشدّة البالغة مع عدم الرّضا والارتياح من لدن أنا العاشق نفسه الذي يصاب في هذه الحالة بمركّب ذنب لتجنّيه على المعشوق لكن دون النّجاح في إيقاف تلك الرّغبة. – الحبّ النّرجسيّ *(4): وعماده عشق الذّات في المقام الأول . ولكنّ هذه المحاولات في تقسيم الحبّ تبقى موغلة في العموم ومن النادر أن تنضوي تحت قسم منها تجربة من التجارب العِشقيّة . وذلك لوجود حالات وسطى كثيرة جدّا تنشأ عن تقاطع نوعين أو أكثر من تلك الأنواع على نحو متعادل أو متفاوت ، لتعقد بنية للكائن البشريّ النّفسيّة التي تسهم في تكوينها عوامل شديدة التّنوّع تختلف باختلاف الماضي الشّخصيّ لكل فرد من لحظة استقراره نطفةً في رحم والدته إلى اللّحظة الحاضرة التي يوجد فيها . و هذا التصوّر لطبيعة الحبّ الإشكاليّة هو الذي نقبل به على قراءة تجربة الشّاعر السّعودي جاسم الصّحيح العِشْقيّة – وعليها مدار جلّ مجاميعه – في حدود مجموعته الموسومة بما وراء حَنْجرة المغنّي التي ضمّنها تسعا وعشرين قصيدة . تكشف مجموع هذه القصائد عن عالم شعريّ متكامل ، متجانس ، متماسك . وهو من الشّروط الدّنيا للإبداع الفنّيّ . ولا يتأتّى ذلك إلاّ بوجود تجربة صُلبة متميّزة . و مثل هذه التّجربة مرتهن بتوفّر رؤية مخصوصة للذّات والآخر والكون تكون مفتاحا به يُولج عالم الفناّن من أيّ زاوية يُنظر منها إليه . وهذا هو الذي يفرّق ، في الحقيقة ، بين الفنّان المبدع وهاوي الفنّ العاديّ . وأكثر الذين يمارسون الفنون بأنواعها ومنها الشّعر هم بديهيّا من الصنف الثاّني لا الأوّل . لكنّهم في الأغلب الأعمّ لا يعلمون أو يعلمون لكن يتجاهلون ..وقد فات الذين منهم لا يعلمون أنّ الفنّ هو ، في المقام الأوّل ، موهبة تتجسّم في ملكات ولاديةّ خارقة .فمتى وجدت أمكن صقلها وتهذيبها وإذا غابت فمن المحال اكتسابها بالمعرفة النّظريّة والتمرّن حتى إن قضّى المرء كلّ حياته في مِراس الفنّ الذي يهواه. والمجموعة التي نتوقّف عندها اليوم يشفّ خطاب الذّات العاشقة فيها – وهي ” الأنا ” المتحدِّثُ داخل النصّ لا جاسم الصّحيح الشّخص إذ موضوع مراس النّقد هو النّصوص لا أشخاص المؤلّفين – عن ثلاثة مستويات متباينة لكن متفاعلة : اثنان منهما أمامياّن متراكبان والثالث خلفيّ . فأعلى المتراكبيْن هو مستوى البنى السّطحيّة والأسفل منهما مستوى البنى العميقة . أمّا الثالث فهو مُستقرّ الخلفيّات التي تنبع منها التّجربة برمّتها . فكيف يلوح الحبّ الذي عليه مدار تجربة الشّاعر العشقيّة في كلّ من المستويين الأوّل والثاني ؟ وما هي الخلفيّات الكامنة وراءه ؟ I – طبيعة الحبّ في تجربة جاسم الصّحيح العشقيّة : 1- صورة الحبّ في بنى خطاب الشّاعر السطحيّة : إنّ المقصود ببنى الخطاب السّطحية هو ظاهر الخطاب أو إن شئنا ما سماّه النّحاة العرب القدامى المعاني الأُوَل . وهي التي تفيدها التّراكيب والألفاظ بدلالاتها الأصليّة وتتشكّل في ذهن السّامع أو القارئ دون تأويل والتي أطلق عليها جان أوستين ( John Austin 1911- 1960 ) مصطلح ” الفعل القولي ” (5)* . وهي أيضا المعاني التي عناها عبد الله بن المقفّع ( ت 142 ه ) حين قال في مقدّمة كليلة ودمنة :”وسماّه كتاب كليلة ودمنة. ثمّ جعل كلامه على ألسن البهائم والسّباع والطّير: ليكون ظاهره لهواً للخواصّ والعوام، وباطنه رياضةً لعقول الخاصّة ” (6) . وعلى الرّغم من أنّ صورة الحبّ في هذا المستوى هي صورته الخارجيّة فإنّ التوقّف عندها لبالغ الأهمّية . وذلك بالنّظر إلى نوعيّة خطاب الشّاعر – وهو خطاب عِشّقيّ جريء جدُّ جريء – و المحيط الاجتماعيّ الثّقافي التي أنشأه فيه . وهو محيط محافظ تتعارض قيمه وعاداته وتقاليده مع طبيعة ذلك الخطاب ولا يمكن أن تصدر عنه عند تلقّيه سوى ردود فعل مضادّة. وهذا التعارض بَدْهيٌّ لأنّ للحبّ الذي يفصح عنه خطاب الشّاعر في هذا المستوى ثلاث خصائص بارزة صادمة : الأولى كونه حباّ جسدياّ والثّانية أنّه حبّ متعدّد والثّالثة أنّه ذو طبيعة تعويضيّة . 1-1 : الخصيصة الأولى : الطابع الجسديّ للحبّ في خطاب الشاّعر : يتجلّى هذا الطّابع في التردّد العالي للألفاظ والعبارة الدّhلة على مفاتن المرأة الجسديّة ، الظّاهرة منها والخفيّة ، المباح النّظر إليها والحديث عنها في المقامات الاجتماعية العادية والمحظور لموانع دينيّة وأخلاقية . فممّا هو مباح عند الشرائح الاجتماعيّة الأشدّ اعتدالا الوجه وما يحويه من عينين وخدّين وأنف وشفتين لكن دون نيّة الاستمتاع الجنسيّ . أماّ الممنوع فكلّ ما جاوز ذلك من جسد المرأة . ومنه ما يصفه في قوله : ذوقي دليلي حين أصعَدُ نحو رابِيَةٍ وأهبِطُ نحو خاصِرَةٍ وأصعدُ ثم أهبطُ هكذا… حتّى أَحُطَّ على ضِفافِ السُّرَّة الفَيْحاءِ: عاصمةِ الجسدْ (ما وراء حنجرة المغنّي ص ص 213 – 214 ) وقوله : لا حبَّ من أعماقها ناداني لا وَعْدَ كي آتي بمِلْء حَنَاني هي فجأةً طلعتْ …فهل من فجأة أخرى تُشَيِّعُها إلى النِّسيانِ وكأنّيَ المفطومُ قبل أوانِهِ من فرط ما أغْرى بي النّهدانِ ( المصدر نفسه ص 235 ) وقوله : ونَضَوْتِ عنك جزيرةَ الفُستانِ في وَهَج التّجلّي … آه ما أحلاك يا لَهَباً تجسّدَ في قَوَامِ !!! ( المصدر نفسه ص 269 ) ولقائل أن يقول إنّ الشّعر العربيّ في القرن الأوّل الهجريّ في فترة قريبة من عهد النبوءة وفي أرض الوحي نفسها لم يَعْدَم مثل هذا اللّون من وصف مفاتن المرأة . ألم يقل عمر بن أبي ربيعة : زَعَموها سَأَلَت جاراتِها وَتَعَرَّت ذاتَ يَومٍ تَبتَرِد وألم يقل في السياق نفسه : طَفلَةٌ بارِدَةُ القَيظِ إِذا مَعمَعانُ الصَيفِ أَضحى يَتَّقِد سُخنَةُ المَشتى لِحافٌ لِلفَتى تَحتَ لَيلٍ حينَ يَغشاهُ الصَرَد بل حتى جميل بثينة العاشق الروحي العفّ اللّسان لم ينج من اقتراف مثل هذا الغزل الإباحي كما في قوله : مخطوطة المتنين مُضْمَرَة الحشى رَياّ الرّوادف خَلْفُها مَمْكور لكنّ هذه الأمثلة في شعرهما– والحقّ يقال – من النّوادر ولم يبلغا فيها ولا في غيرها من أبيات ما بلغه جاسم الصّحيح في شعره من إباحية تبدو جريئة صادمة . 1 – 2 : الخصيصة الثّانية : تعدّد المعشوقات : إن هذه السّمة ليست جديدة لأنّها أيضا من السمات الأولى للحبّ الذي عليه مدار الغزل عند عمر بن أبي ربيعة.فمثلما تنوعّت أسماء المعشوقات عنده نحو هند و ثريّا ونُعْم فقد تعدّدت عند شاعرنا أيضا حيث تنقّل بين مفاتن زينب والحلبيّة والخليجيّة. و مماّ قاله فيهنّ : لزينبَ تَهْوِيمَةٌ تتمازجُ فيها صغارُ الطّيورِ… فأنفاسُها ليس إلاَّ حفيفَ جناحين في لحظاتِ المُزاحْ ( المصدر نفسه ص 320 ) وقوله : حَلَبِيَّةّ …ما جفَّ من قِيامةِ لَحْمِها حَشَرٌ تَكَوَّم فوق حَشَرٍ ثانِ ( المصدر نفسه ص 136 ) وقوله : همستُ برفقٍ : خليجيّةَ القَسَماتِ … ألا تسمحين أَحُلُّ بعينيكِ ضيفاً تُسامِرُني القهوةُ ساخنةً وينادِمُني الزَّنْجَبيلُ ؟ ( المصدر نفسه ص 287 ) ومماّ لا شكّ فيه أنّ أبرز دلالة للحبّ المتعدّد هي أنّه حبّ جنسيّ لا روحي لأنّ هدفه الأوحد هو إشباع الغريزة دون اعتبار لذات المرأة التي يتّخذ العاشق جسدها أداة لتحقيق ذلك الهدف .وهذا الحبّ وإن كان يبيحه الدّين الإسلاميّ فإنّه يقيّده بالارتباط الشّرعيّ ويمنعه في غياب ذلك .وهو ما يجعله في شعر شاعرنا حباّ صادما أيضا في المقام الاجتماعيّ الثّقافيّ الذي أفصح عنه فيه . 1 -3 : الخصيصة الثاّلثة : التّعويض* : إنّ اتّخاذ الجنس ملاذا للهروب مؤقّتا من وضع اجتماعيّ أو سياسيّ أو نفسيّ أو فكريّ مأزوم ليس من وجهة النّظر النّفسية سوى سلوك مرضيّ ، فضلا عمّا ينطوي عليه من إلغاءّ لذات الطّرف الذي يمارس معه الجنس بتحويله إلى أداة يسخّرها لإشباع رغبته العابرة . وهذا ما يجعله سلوكا صادما أيضا لاسّيما في مجتمع محافظ . ومع ذلك فهو يؤلّف الوجه الثّالث للحبّ الذي يتغنّى به الشّاعر ويمعن في وصفه وترديده كما في قوله : أعالجُ داءَ الوقتِ بالأنثى فأَلْهَتْني ببُرْجِ الثّوْر عن برج الأسدِ ( المصدر نفسه ص 187 ) هذه الخواصّ الثلاث مجتمعة – وهي الجسديّة والتعدّد والتّعويض – للحبّ الذي عليه مدار تجربة جاسم الصّحيح العشقيّة يقترن من وجهة النّظر الدّينية بالإثم والمعصية .وهو ما لا ينكره الشّاعر نفسه في عدة مواضع كما في قوله : إثْمِي على العِطْرِ الغَوِيِّ إذا تمرّدَ بالشّذى … إثمي على الكلماتِ تَخْلَعُ في الدّجى ألفاظها… إثمي على نهرِ الغريزةِ وهو يَصْهَلُ في الغُدَدِ ( المصدر نفسه ص 214 ) ها نحن ملتبسان بالممنوع والمشروعِ نَمْلأُ خانةَ ( التّضمينِ ) كي تتداخلَ (الأقواسُ ) ما بين المُحَرِّمِ والمُبَاحِ (المصدر نفسه ص 247 ) لكن هل هذه الصورة التي تواجهنا من الوهلة الأولى في البنى السّطحيّة من خطاب الشّاعر هي فعلا صورة الحبّ الحقيقيّة التي يتعلّق بها ؟ وهل الذّات الشّاعرة التي تلحّ في تصوير إقبالها عليه وانتشائها به ذاتٌ مستهترة حقّا ، عبْدة لشهواتها ، خاضعة لغرائزها الجنسيّة ، متمرّدة على نواهي الأنا الأعلى الاجتماعيّ * في سياق اجتماعيّ ثقافيّ تعلم أنّه محافظ ؟ تلك هي الأسئلة التي نتقلّدها لننزل بها إلى بنى خطاب الشّاعر العميقة حيث لا مانع من أن تكون صورة هذا الحبّ مختلفة بالنّظر إلى طبيعة الخطاب الإبداعيّ الذي يمكن أن يكون خطابا مراوغا لتعدّد الإستراتيجيات المتاح اتّباعها والتي تصل أحيانا إلى حدّ أن يقول المبدع شيئا وهو ينوي نقيضه .وهو ما يقتضى من القارئ تقليب أقواله بغية الكشف عما يكمن وراءها من معان ثوانٍ . 2- صورة الحبّ في بنى خطاب الشّاعر العميقة : تتواتر في قصائد المجموعة الإشارات إلى أنّ الحبّ الذي يصف أعراضه الشّاعر ليس حباّ جسديّا حقيقياّ وأنّ النّساء اللاّئي يروي مغامراته معهنّ لسن نساء من لحم ودم لهن حضور محسوس في الواقع .وإنّما تلوح المرأة المتغزّل بها في هذه النصوص على هيئتين مختلفتين لكن متنافذتين : الأولى امرأة هُلاميّة مجردّة غير مستقرّة الصّورة . وصفاتها وإن كانت في حديث الشّاعر جسديّة فهي صفات عامّة إمّا متخيلّة وإماّ مقتبسة من صور نساء كثيرات قد يكون الشّاعر عرفهن من قريب أو من بعيد فيؤلّف منها في كلّ مرّة صورة لامرأة مكتملة . فمن عيني هذه وشفتي تلك وخدّي تيك وشَعَر رابعة وقدَ خامسة وهلمّ جرّا يبعث إلى الوجود بوساطة التّخيّل امرأة مطابقة بدنياّ للمثال الذي يحمله في ذهنه ، مستجيبة لأدقّ التّفاصيل الجسميّة الأنثويّة التي يحبّها . وهذا ما قد تومئ إليه النسبتان العامّتان دون تخصيص : “الحلبيّة ” و”الخليجيّة” اللّتان أفرد لكل واحدة منهما قصيدة .وكذلك شأن أسماء زينب وهند وليلى التي هي من الأكثر الأسماء تواترا قديما وحتّى عهد قريب في تسمية الإناث العربيّات . وهو ما يجعل دلالاتها في خطاب الشّاعر رمزيّة ليس غير ، بخلاف أسماء النّساء اللاّتي تغزّل بهنّ عمر بن أبي ربيعة واللاّئي كنّ شخصياّت واقعيّة معيّنة معروفة في مجتمعه منهنّ زينب بنت موسى الجمحي والثريّا بنت عليّ بن عبد الله وزينب بنت موسى الجمحيّة ورملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعيّة . ومن السّياقات الكثيرة التي جرّد فيها جاسم الصّحيح المعشوقة من صفاتها المخصوصة وعاملها على أنّها أنثى بوجه عامّ و على أقصى تقدير أنثى عربيّة الملامح قوله : ما زلتُ أركبُ موجةَ الأنثى إلى شطّ القصيدةِ كي أدافعَ عن خيالي ( المصدر نفسه ص 113 ) وقوله : فإذا اغْتَلمْتُ فثمَّ تلُّ أنوثةٍ وإذا اتّكأتُ فثمّ تلّ نساءِ وإذا تلبّسَني غرامُ حبيبةٍ فَصَّلْتُ حَسَبَ مقاسه أعضائي ( المصدر نفسه ص 155 ) وقوله : ولي أنجُمٌ : حُبُّ هذا التّرابِ … جمالُ الغِواياتِ … سِحْرُ النّساءْ ( المصدر نفسه ص 166 ) وقوله : لهفي على الأنثى إذا استرختْ على هَضَباتِ أنفاسي ورُحْتُ أصوغُ من كفّي مفتاحا لكوكبها الشّهيِّ … ( المصدر نفسه ص 213 ) لم اتّخذْ بعناصر التّكوين ما يكفي لكي أفتضَّ سرَّ صناعةِ الأنثى وحَسْبي في الهوى أنثى تكونُ من اختراعي (المصدر نفسه ص 210 ) وعلى الرّغم من أنّ هذا التصوّر للمرأة وذِكْرها يقترنان في خطاب الشّاعر بالاستلذاذ فإنّه لا يطابق على وجه التحديد ما يعرف بالاستمناء *لأنّ الاستمناء عمليّة تعويضيّة يكون تركيز العاشق الذّهني في أثنائها على صورة امرأة واحدة ليس غير . كلّ هذا ينفي عن الحبّ الذي يتعلّق به الشاّعر صفة الإثم أو المعصية لأنّهما إنّما يقتضيان وجود طرَف حقيقيّ واقعيّ أُسيء إليه باتّخاذه معشوقا تصريحا لا إيماء . وذلك بالإعلان عن هويّته مثلما كان شأن النّساء اللاّئي تغزّل بهن شعراء بني عُذرة ببوادي الحجاز في القرن الأوّل الهجريّ . أمّا الصّورة الأخرى التي تتبدّى فيها المعشوقة على صعيد بُنى خطاب الشّاعر العميقة فتتماهى مع القصيدة باعتبارها نصّا لغويّا بديعا ، مثيرا ، مُربكا ، يتيح لمنشئه فرص الانتشاء بمتع عارمة كالمتع التي يهيّئها له جسد المرأة . لذلك يمكن له الانتقال من الاستلذاذ بإحداهما إلى الاستمتاع بالأخرى طردا وعكسا . والحاصل من كلّ هذا أنّ الكتابة الشّعريّة تتحوّل بمقتضى هذا التّماهي على نحو لا واع إلى ما يشبه العمليّة الجنسيّة الذهنيّة . وليس ذلك أيضا من قبيل الاستمناء لأنّ الاستاذاذ ثمّة فنّيّ بحت . يقول الشاّعر في هذا المعنى : أحتاجُ القصيدةَ كي أطيِّبَ بعضَ أوجاعِ الحقيقةِ تحت تخديرِ المجازِ لعلّني يوما أطيق من الأسى ما لا أطيقْ ( المصدر نفسه ص 74 ) ويقول : ليس الغيابُ غيابا بل محاولةٌ من القصيدة أن تُغني عن امرأةٍ ( المصدر نفسه ص 105 ) نستخلص مماّ تقدّم أنّ صورتي المرأة اللتين تلوحان في مستويي البنى السّطحيّة والبنى العميقة من خطاب الشّاعر على طرفي نقيض . ففي المستوى الأول يظهر منشئ الخطاب أيّ المتكلّم ( أي الأنا داخل النّصّ لا شخص المؤلف ) شهوانيّا ، منجذبا بكلّ جوارحه نحو المتع الحسّيّة ، غير مكترث لما يأتيه من خرق للقيم الأخلاقية السّائدة في مجتمعه على الرّغم من وعيه بأنّ سلوكه يتعارض مع تلك القيم واعترافه بأنّه يصبّ في خانة الآثام والمعاصي . لكن في مستوى البنى العميقة تطالع القارئ صورة للمرأة موغلة في العموم أشبه ما يكون بالشّيح الجميل المغري ثمّ تتحوّل في مثل لمح البصر إلى امرأة لغويّة وَرَقية مجسّدة في قصيدة غزلية رائقة لتعود بالّسرعة الفائقة نفسها إلى شكلها الأوّل ثمّ منه إلى الشّكل الثّاني كما في الألعاب السّحريّة أو الضّوئيّة . ومن ثمّة فلا وجود لاثم أو عصيان وإنّما يتعلّق الأمر بنشاط ذهنيّ نفسيّ تؤدّيه المخيّلة وتوظّفه في إنشاء صور مشرقة أخّاذة ليس طابعها الجنسيّ سوى وسيلة يستلذّ بها المتكلم ويمتّع بها المتلقّي . ومن هنا ندرك أن تعمّد منشئ الخطاب الإمعان في الإباحيّة مع الاعتراف بالعصيان إنّما هو ضرب من المشاكسة والخداع الفنّيّ يرمي به إلى مراوغة القارئ المتعجّل الذي يقف عند الظّاهر والتّلاعب بعواطفه . II – الخلفيّات الكامنة وراء خطاب الشّاعر العشقيّ : إنّ هذين الضربين من الملامح للمعشوقة المتغزَّل بها في شعر جاسم الصّحيح على اختلافهما الشديد يلتقيان في كون المتغزِّل الذي رسم تلك الملامح عاشق أرضيّ لا روحيّ . وهو ما تثير سؤالا مشروعا عن الخلفيّات الكامنة وراء أخذه بهذا اللّون من العشق . وهي ، في تقديرنا ، ثلاث كبرى أولاها وجوديّة والثانية حضاريّة والثاّلثة نفسيّة . وما هذا التقسيم ، في الحقيقة ، إلا لغرض منهجيّ لأنّها في خطاب الشّاعر ، متداخلة أيُّما تداخل . 1- الخلفيّة الوجوديّة : لا شكّ في أنّ أشهر المذاهب الوجوديّة في العصر الحديث هي الإلحاديّة منها وفي مقدّمتها مذهبا جان بول سارتر Jean Paul Sartre ) 1905- 1980 (وألبار كامو Albert Camus ) 1913- 1942 ( لعدم أخذهما بفكرة وجود إله يسيّر الكون ويتحكّم في مصير الإنسان .فسارتر يعدّ الإنسان صانعا لذاته إن سلبا وان إيجابا ، جاعلا كلّ فرد حصيلةً لما أراد أن يكون . أماّ كامو فإنّه يلغي مبدأ وجود حكمة عليا ينبع منها نظام الكون ، مقرّرا أن الوجود يحكمه العبث . (7) لكنّ هناك مذاهب وجودية أخرى نحت منحى إيمانيا بالانطلاق من مُسلّمة مفادها أنّ للكون خالقا ثمّ في ضوء هذه القناعة خاض أصحابها في كلّ القضايا الوجوديّة المُشكِلة التي خاض فيها الآخرون كالحرّيّة والخوف والقلق والاستلاب والعبث والالتزام وغيرها .ومن أبرز هذه المذاهب فلسفات بول تليثش (TiIlich Paul 1886- 1965 ) وقبريال مرسال ( Gabriel Marcel 188 – 1973) وكارل جسبار (Karl Jasper 1883 – 1969) ذوي النزعة المسيحية ( 8)ومحمود المسعدي ( 1911 – 2005) الإسلامي التوجّه (9). وهذا المنزع الإيمانيّ هو الذي نردّ إليه ، دون شكّ ، الشّواغل الوجوديّة القويّة الحضور في شعر جاسم الصّحيح . والدلاّئل المشيرة إلى ذلك وافرة العدد . وأوّلها في المقام الأول الإيمان بالله كما في قوله : أرى الكونَ للمُكَوِّنِ مُدْلِجًا ولستُ سوى حادٍ بأفلاكِهِ يحدُو ( ما وراء حنجرة المغنّي ص 53 ) وقوله : شيّدتُ يدي يا ربُّ من (جَمَراتِ ) أسئلتي و( أرمي ) لم أُصِبْ (صنما ) وها أنا في مَدَاك الرَّحْبِ أُضْحِيّةُ المكانِِ … (المصدر نفسه ص 70 ) ولماّ كان ذلك واضحا كلّ الوضوح فإنّ كلّ الأسئلة الوجوديّة التي تثيرها الذّات الشّاعرة في قصائد المجموعة لا تتعارض مع العقيدة الإسلاميّة . وأهمّها سؤالان : – سؤال الهوّية الفرديّة الوجوديّة : ففي مواضع كثيرة من المجموعة تتساءل الذّات الشّاعرة بإلحاح شديد عن نفسها : من هي وكيف خلقت و هل وجودها ضروري فإذا لم تُخلق فماذا كان يحدث ؟ .وذلك كما في قوله : كأنّي فتًى من آلِ فرعونَ هالِكٌ تناوبَ في إغراقه الجَزْرُ والمدُّ فساءلتً حتّى حيرتي هل أنا هنا نَزِيلُ كياني أم هنا الآخرُ الضدُّ ؟ أدورُ مع الأيّامِ حول حقيقتي … أدورُ ولا قبلُ ولا بَعْدُ ( المصدر نفسه ص 55 ) وقوله : شيّدتُ يدي يا ربُّ من (جَمَراتِ ) أسئلتي و( أرمي ) لم أُصِبْ (صنما ) وها أنا في مَدَاك الرَّحْبِ أُضْحِيّةُ المكانِِ … فيا تُرى ما كان يحدثُ ها هنا لو لم أجئْ… لو أنّ قُطْعانَ الضّحايا لم تَزِدْ كبشا ؟ ( المصدر نفسه ص 70 ) – سؤال المصير : ومداره على الغاية من خلق الذّات الشّاعرة وهل رُسم لها طريق ينبغي أن تسير فيها .وهي لم تفتأ تصرّح بأنّها لا تعرف إلى أين هي ذاهبة ، مشبّهة نفسها بالعمياء وواصفة وضعها بالفوضى . ومما جاء في هذه المعاني قول الشّاعر : إذا نِمْتُ نام معي شِمالي ولكنْ لا ينامُ معي سؤالي لماذا جئتُ من نبْعٍ خفيٍّ ؟ لماذا سِلْتُ في عَصَبِ اللّيالي ؟ وأيُّ مشيئةٍ خَبَزَتْ مصيري بكفّ الغيبِ في فُرْنِ الأعالي ؟ وهل أنا من خلال الدّهرِ أجري أم أنّ الدّهرَ يجري من خلالي ؟ ظَمئتُ إلى الآبار وحيث لاحتْ ليَ الآبارُ تقصر بي حبالي ( المصدر نفسه ص 131 ) وقوله : أعمى وأعثُرُ في سؤالي أتُرى أسافرُ كالحقيقةِ مُفردا أم أتبعُ التيّارَ في هذي التِّلالِ ؟ ( المصدر نفسه ص ص 113 – 114 ) وقوله : فوضاي خارطتي ( المصدر نفسه ص 61 ) وقوله : في العُمْرِ في هذا الطّريقِ الدّائريّ على امتدادِ الوقتِ تلتبّسُ البدايةُ بالنهايهْ لستُ أعرفُ ما الحكايهْ … ما أنا إلاّ وعاءٌ فارغٌ تتجوّلُ الأشباحُ فيه ولستُ أعرفُ من خلال المسرحيّةِ والشّخوصِ متى سيُسْدَلُ السِّتارُ عليّ كي أُلقى إلى المجهولِ خارجَ مسرحٍ شيّدْتُه بيدي ثم أعودُ أسكنُ في ظلالي ( المصدر نفسه ص ص 109- 110 ) 2- الخلفيّة الحضاريّة : هذه الخلفيّة وان كانت مكتسبة لا ولاديّة فإنّها لا تقلّ حدّة وتأثيرا عن السابقة . وهي تتجسّد في زحف الحضارة المادّيّة الحديثة المتزايد على الطبيعة وما تحمله من تهديد لنقاوتها بل لوجودها على سطح الكرة الأرضيّة . وهذا التغيير العاصف المنذر بإفساد البيئة والقضاء على الشّروط الضّروريّة للحياة تتلقّاه الذّات الشّاعرة على أنّه كارثة ، لتعلّقها بأرومتها العربيّة البدويةّ الأصيلة وما يرتبط بها من قيم سامية . يقول الشّاعر : ها نحن نُكْمِلُ رحلةَ الأرواحِ في التَّيْهِ المُلَوَّنِ … ها هنا حيث الفضائيّاتُ ذاتُ الفِتنةِ الشّقراءِ قد حَلّتْ جدائلها على كتفِ الحداثةِ … والنّهائيّون جنّازا فجنّازا أعدّوا موكبَ التّشييع للتّاريخِ ( المصدر نفسه ص 35 ) ويقول : في عصرنا هذا … المُقفّى بالحديد والصُّلب والموزون بالإسمنت … لا لغةَ تترجم حالة الدّنيا سوى لغةِ المباني ( المصدر نفسه ص 36 ) ويقول : هذي المدينةُ ما زالتْ تُباعدني عنّي وتزرعُ فيما بينها مُدُنا مدينةٌ ترتدي الإسمنتَ قُبَّعَةً سوداءَ تحجبُ عن أحلامنا المُزُنا في عَتْمَةِ الأفُقِ النَّفْطيّ لا قمرٌ يُغري الموانئَ كيما تحضُنُ السُّفُنا تَيْهٌ يفرِّخُ تَيْها والمدى شبحٌ يسير منتعلا أَسْفَلْتَهُ الخَشِنا ( المصدر نفسه ص 44 ) ويقول : أنا بدويّ الرّوح ما زلت أنتمي إلى الرّيح حتّى قام ما بيننا عهدُ إذا لوّحتْ لي غيمةٌ قلتُ : ناقةٌ تطيرُ … جناحاها هما البرقُ والرّعدُ ولو كانت الصحراءٌ ثوبا خلعتُها وألقيتُها عنّي … ولكنّها جِلْدُ ( المصدر نفسه ص ص 52-53 ) وهنا يلتقي الشّاعر مع الرومنطيقيّن في هروبهم من المحيط الحضريّ إلى أحضان الطّبيعة . 3- الخلفيّة النّفسيّة : لقد تضافر العاملان الوجوديّ والحضاريّ على تأزيم حالة الذّات الشّاعرة النّفسيّة لكن على نحو دائم مستمرّ لا عارض زائل . وهو ما يجعل المشاعر السّلبيّة التي ولّداها فيها بمنزلة القسمات القارّة التي تسهم إلى حد بعيد في تكوين شخصيّتها . وهذه المشاعر مصدرها ذهنيّ لا نفسانيّ . ودليل ذلك الغياب التامّ في خطاب الشّاعر لأيّ إشارات تشي بأنّ حالة المتكلّم عُصابيّة على الرغم من أن مدار تجربته على الحبّ . فنحن إذن إزاء حالة ذُهانيّة خفيفة تتداخل فيها أحاسيس شتى أبرزها : القلق واليأس والحيرة والغربة والخوف من الآتي واستفحال الشكّ والألم النّفسيّ . ومماّ جاء في هذه المعاني قوله : ودخلتُ في المرآة … نظفّتُ الغِشاوةَ حول ذاكرةِ الزّجاج فلم أجدْني في ملامح صورتي وكأنّي ضيّعتُ في الغُرْبات أصلي وانزلقتُ إلى حدود اللاّوجود … ( المصدر نفسه ص ص 68-69 ) وقوله : ما غادر اليأسُ من جنْبي قاعدةً إلاّ ليهبط من جنْبٍ بقاعدةِ لا حبلَ أعقِدُ آمالَ النّجاة به إذا الهويّةُ أضحت بئر هاويتي فقدتُ نفسي كما أسطورةٌ هربتْ من لوحها لأعانِي نقصَ ملحمتي أمتدُّ مثل جهاتِ الأرض باحثةً عن ذاتها دون أنْ آوي إلى جهةِ ( المصدر نفسه ص ص 89- 90 ) وقوله : ما زلتُ خلف الرّوح أتبعُها فضيّعني مدى روحي وضيّعْتُ الطّريقَ إلى الجسدْ وحدي بهذا البَرْزَخِ الممتدّ بينهما أرتِّبُ باقةَ الفوضى وأُهديها …وأُهديها …وأُهديها هناك لِلاَأحدْ متشرّدا بين الإشارةِ والإشارةِ لم أجدْ في أَيْكَةِ المجهولِ ظلاّ للغريبِ لم أجدْ في ذروةِ الإيقاعِ ما يُغري على الرّقصِ الطروبِ ولم أجدْ … غيرَ الجُنونِ يشدّني من خارجِ الأقواسِ … وانفرطَ الوَلَدْ ( المصدر نفسه ص ص 195- 196 ) وهذه الحالة المتأزّمة هي التي تفسّر لواذ الذّات الشّاعرة بالقصيدة وبصور للمرأة متخيّلة للتّخفيف من حدّتها . كلّ هذا يقودنا إلى نتيجة عامّة هي أنّ شخصيّة الذّات الشّاعرة كما تبدو من خطابها في هذه المجموعة ذات مأسويّة تقوم بينها وبين الكون والواقع قطيعة تامة تجعلها عاجزة عن المواجهة والتصدّي وتدفع بها إلى الهروب والتّعويض . III – دور الشّاعر ووظيفة الشّعر : إذا كانت هذه هي الدّوافع التي جاءت بهذا العاشق الأرضيّ إلى قرض الشّعر – وهي كما بيّنا دوافع قويّة عميقة لا يملك القدرة على الثّبات أمامها – فهل كلّ غايته – والحالة هذه – أن يجد في الشّعر ملجأ يأوي إليه ، هربا من جحيم الأزمة الذّهنيّة النّفسيّة التي يعانيها ؟ كلاّ !إنّ شخصيّة الذّات الشّاعرة ، كما تلوح من قصائد المجموعة ، تنطوي على بعد آخر بالغ الأهمّيّة أيضا . وهو الغَيْرِيّة التي تقترن لديه بالكونية . وفي هذا يقول : في قلبيَ الكرةُ الأرضيّةَ اِمَّسَحَتْ من الخطوط فقلبي وحدةُ الكُرةِ من أجل كلِّ الحُفاةِ العابرين على دربِ الحياةِ سأمشي دون أحذيةِ أُهْدي حياتي إلى من لا حياةََ لهم لو يُنْقَلُ العمرُ في صندوقِ شاحنةِ الحبُّ يشهد أنّي في وثائقه أسجِّلُ الأرضَ من أفراد عائلتي واوُ المعيّةِ لا تكفي لِتُوصلني بالخلْقِ أروعَ ما في الحبّ من صلةِ ( المصدر نفسه ص 95 ) ومن نتائج توفرّ هذا الشّعور الإنسانيّ السّامي الحرص على اتّخاذ الشّعر أداة لإشاعة البهجة . ومن الأبيات الكثيرة التي جاء فيها الإفصاح عن هذه الغاية هذه الأمثلة : يقول الشاعر : لا بدّ من عملٍ جماليٍّ لوجهِ الأرضِ … قد كثرتْ تجاعيدُ المكانِ وهذه الجغرافيا الشّمطاءُ لا تحنو على الغرباءِ (المصدر نفسه ص 31 ) ويقول : ضاع الحسابُ … وها هُمُ الشّعراءُ ما زالوا على ثقةٍ بأنّ الأرضَ أجملُ في الأغاني ( المصدر نفسه ص 41 ) ويقول : هل من لجوءٍ جماليٍّ يلوذُ به من باتَ في قبضةِ الفولاذِ مُرْتَهِنا ؟ لم نأتِ للنّخلِ نستشفي عِيادتَهُ إلا لنبرأ من نِفْطٍ أَلمَّ بنا ( المصدر نقسه ص 45 ) ويقول : أؤثّثُ الأرضَ مأخوذا برِقّّتها من فرط ما اعتصرتْ عُنقودَ عافيتي ماذا عليّ من الذّنْبِ النّبيلِ إذا ترنّحتْ وردةً سكرى بوشوشتي ؟ ( المصدر نفسه 97 ) ويقول : أُلْقي على سِرْبِ الجهاتِ تحيّتي وأسيرُ مسبوقا بزحْفِ غنائي لا شيءَ غيرَ الصدق أحمله معي فإذا نطقتُ فمُعْجمي أحشائي سِيّانِ ألمحُ نورسا أو ضِفدعا في النّهرِ يعزفُ لي طقوس الغناءِ روحي كما حَبْلُ الغسيل أمدُّا بالحبِّ فوق نوافذِ الفقراءِ ( المصدر نفسه ص 153 ) IV – الخصائص الإنشائيّة لشعر جاسم الصّحيح في هذه المجموعة : تكشف عدة إشارات متفرّقة في قصائد المجموعة عن وعي الشّاعر بضرورة الإبداع وبإدراكه لمفهومه الصّحيح الذي لا يُختزل ، خلافا لما يزعمه النظّامون والمتصنّعون من كتبة شعر التّفعيلة وقصيدة النّثر ، في مجرّد الجودة .وإنّما هو استحداث أسلوب جديد في الكتابة يتحقّق به العدول عن الطّرق السّالكة .ومن تعذّر عليه ذلك فهو كاتب شعر لا شاعر . يقول في هذا المعنى : خلعتُكَ يا شيخي … هنا ينتهي الوِرْدُ فَسِرُّ خلاصي أنهّ مسلكٌ فَرْدُ وحَسْبي بأنّ العشبَ أهدى صِحَاحَهُ إليّ وأعطاني تعاليمَهُ الوَرْدُ أنا المتنُ من نصّي … وإنْ كان لي أبٌ … أبي من حَوَاشي النّصّ … والأمُّ والجدُّ ( المصدر نفسه ص 49 – 50 ) على أنّ الأمر لا يقف عند التّنظير بل يتعدّاه إلى الإنجاز .فالمجموعة تزخر من بدايتها إلى نهايتها بالومضات السّاحرة والإشراقات الباهرة التي تنمّ عن حساسيّة جماليّة مرهفة وخيال خصب خلاّق . ولضيق المجال في هذه القراءة المتعجّلة نكتفي بسوق الأمثلة التالية : وكلّما طُفنا هناك على جدارٍ خلتُه قلبي فقلبي والجدارُ كلاهما متصدِّعٌ من خِشيةِ الأيامِ ( المصدر نفسه ص 75 ) ها هنا بيتي بمنطقةِ الكهولةِ حيث عنواني سُعالي والغِوايةُ جارتي وإقامتي في العمقِ من حيِّ النّعيقِ ( المصدر نفسه ص 72 ) ما زلتُ أطحَنُ أيّامي وأنخُلُها وسط القصائد في غربال فلسفتي ( المصدر نفسه ص 100 ) كالأبجديةِ بعد حرف الياء مُتشرِّدٌ أنا خارج الأحساءِ ( المصدر نفسه ص 151 ) ضِلعان منشقّان بين أضلعي يتقمّصان على الدرب حذائي فإذا خطوتُ سمعتُ أنّةَ خُطوتي في كلّ ضِلعٍ مُثْقَلٍ بشقائي ( المصدر نفسه ص 152 ) وتسلّمني جسمَها كوكبا يتداعى على ساعدي إلى أن تَفيضَ المجازاتُ على سعةِ الانزياحِ ( المصدر نفسه ص 223 ) يقتادني عَلَمٌ يرفرفُ من جدائلكِ الطويلةِ فوق أكتافِ الرياحْ فأجرُّ تاريخَ الكهولةِ مُنْهَكا خلفي وأصقُلُ ما تبقّى للغوايةِ من سلاحْ ( المصدر نفسه ص 244 ) يا امرأةً ألقيتُ القبضَ عليها مُتلبِّسَةً بالشّهْدِ والوَرْدِ والوجْدِ صنيعةَ المافِيا حين أضعتٌ الدّربَ إلى قلبكِ أعلنتُ الحربَ على الجغرافيا ( المصدر نفسه ص 252 ) سنمرُّ من باب الحياءِ …وقُبْلَةٌ تكفي هناك لرِشْوةِ البوَّابِ ما انفكَ زيتُ دمي بقنديلِ الهوى سهرانَ يبحثُ عن فتيلِ شبابي لا تُسْرِجي لَهَبَ الأنوثة كاملا … حَسْبي من الكبريتِ عودُ ثِقابِ ( المصدر نفسه ص 265 ) الخاتمة : لعلّ أهمّ نتيجة نخرج بها من هذه القراءة السّريعة في مجموعة ما وراء حنجرة المغنّي لجاسم الصّحيح هو أنّها تنطوي على تجربة طريفة في الغزل قوامها النّسج ظاهرا على منوال الشّعر الغزليّ الحضريّ العربيّ القديم لاسيّما لدى رمزه الأوّل عمر بن أبي ربيعة من حيث تعدّد النّساء المتغزّل بهنّ والاحتفاء بجمالهنّ الجسديّ وحده لكنّها تختزن في جوهرها أبعادا وجوديّة وحضاريّة ونفسيّة في منتهى العمق تجعلها تضرب بسهم في تطوير هذا الغرض وتحتلّ مكانها بفضل ذلك بين أبرز المحاولات الراّمية إلى تحديث الشّعر العربيّ . وإذا علمنا أنّ هذه المجموعة هي التاّسعة في رصيد الشّاعر وأنّها الوحيدة التي أمكننا الاطّلاع عليها دون باقي أخواتها فإنّنا نفترض في حالة ضمّ الكمّ إلى الكيف أنّ وزن تجربة هذا الشّاعر المنتمي جغرافيّا إلى أطراف الوطن العربيّ لا إلى مركزه قد يؤهلّه ليكون أشهر وأكثر انتشارا وليحظى بالمزيد من اهتمام النقّاد والباحثين . الهوامش : 1- الصّحيح ( جاسم ) ، ما وراء حنجرة المغنّي ، الدّار الوطنيّة الجديدة ، الرّياض 2010 2- Auger ( Lucien ) L’AMOUR de l’exigence à la préférence, Les Éditions de l’Homme, Paris 1979 3- Freud ( Sigmund ) , Les psychonévroses de défense », in Névrose, psychose et perversion. Puf , Paris.1973.p9 4- Freud ( Sigmund ) , introduction à la psychanalyse , Petite bibliothèque Payot , Paris 1971 pp 389- 417 5- Austin ( John ) , Quand dire, c’est faire, Seuil Paris 1970 acte locutoire p p 29-33 6- ابن المقفّع ( عبد الله ) ، كليلة ودمنة ، دار الأندلس ، بيروت 1963 ص 11 7- Colette Jacques , l’existentialisme ,Coll.Que-sais-je ? , Presses universitaires de France , 1994 pp 48-74 8- Gabriel Marcel , Existentialisme chrétien (en collaboration), Plon, 1947 9- أفصح الأديب التونسي محمود المسعدي(1911 – 2004 ) عن هذا التوجّه في كلّ كتبه منها السدّ وحدث أبو هريرة قال ومولد النسيان و تأصيلا لكيان . المصطلحات : *الحبّ الأفلاطونيّ(Amour platonique ) *الجنسانيّ( Le sexologue ) *الحبّ الشّهوانيّ ( L’amour érotique ) *الحبّ اللّعبي ( L’amour ludique ) *الحبّ الجنونيّ ( L’amour maniaque ) *الحبّ العمليّ ( L’amour pragmatique ) *الحبّ الخِلافيّ ( L’amour fissionnel ) *الحبّ الصّداقة ( L’amour amitié ) *الحبّ الاستحواذيّ ( L’amour obsessionnel ) *الحبّ النّرجسيّ ( L’amour narcissique ) فعل قولي ( Acte locutoire ) *تعويض ( Compensation ) *الأنا الأعلى الاجتماعيّ ( Le sur-moi social ) *الاستمناء (L’onanisme ) *عُصابيّ( Névrotique ) *ذُهانيّ ( Psychotique ) *الغيريّة ( L’altruisme ) جاسم الصّحيح: شاعر سعوديّ من الأحساء، ولد بمدينة الجفر عام 1384هـ، يشتغل مهندسا ميكانيكيّا في شركة أرامكو السّعوديّة للنفط. مجاميعه الشّعريّة : – أولومبياد الجسد – ظلّي خليفتي عليكم – رقصة عِرْفانيّة – أعشاش الملائكة (أو خميرة الغضب ) – حمائم تكنس العتمة – عناق الشّموع والدّموع – ما وراء حنجرة المغنّي – نحيب الأبجدية – سهام أليفة – وأَلَنَّا له القصيد 2015-12-18 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet