أنا وأنت: قصّة قصيرة لغادة هيكل – القليوبيّة- مصر 7 نوفمبر,2015 غادة هيكل – القليوبيّة- مصر ينفث دخان سيجارته فى الهواء، تتكوّن سحابات كثيفة يراوغها فيحرّك فيها شريط الذكريات ، هنا كنت أغازل الشمس فى الصباح، فأكوّن عقدا من الحروف تنسج لي أحلى الكلمات ،وفي الليل أعقد من خيوط القمر ألوان قوس قزح فأرسم أعظم اللوحات ، وهنا أحببت ألف امرأة ركعن لي بلا حياء،والآن هن هناك وأنا هنا ، أرسمهن في خيوط عرائسي ، أحادثهن في أركان لمسنها فتركن آثار أظافرهن فيها ، على هذا الجدار ترقد الشقراء ابنة العشرين عاما وأنا كما أنا ابن الثلاثين ،هههههههه! ألم أزل شابا ؟ بلى: ينظر إلى المرآة بجوار الطاولة التي أصبحت سكنه الدائم، وكرسيه الهزاز، وقطته الأليفة التي تحتضن أنامله كلما غدا أو راح، يلفظها فتعود : أنت فقط من تعودين..! لماذا تعودين ؟ فلترحلي مثلهن، فقد رأيت كيف تركنني بلا مسحة أسف على وجوهن الملونة ! أوّاه عليهن من غادرات خائنات نهلن من حرفي، ورسمنني على صدورهنّ وشم ملاك حتى اكتفين .وصنعت لهن أسماء، الآن هن الملكات ، وكن جواريَ منذ زمن ليس ببعيد. هل تذكرين تلك السمراء ،كم أحببت نظرة عينيها، كقطة بريّة متمنّعة مراوغة ممشوقة القوام ،ألا يعجبك ما أقول ؟ بلى أحببتها كمثلهن جميعا، فكل واحدة سكنت قلمي ورقصت فوق سِنّه، وتربّعت على لوحاتي ونقشتها بألواني، ورسمتها جنّية شقراء أو سمراء ذات مجون أو ذات حياء ، كلهن وقفن أمامي عاريات ، وكلهن أحببتهن سواء . إلاّ هي : لم تكن مثلهن بل كانت كلّهن . ينفث دخان سيجارته بعنف ، يعلو صدره ويهبط ، وفجأة يقوم من مجلسه، يترك محاورته الأليفة في غضب ، يدلف إلى حجرة مكتبه ، يعبث بالأشياء المبعثرة ، يصادف كفُّه عُشّ عنكبوت تسلّل بين الأتربة ونسج خيوطه ، يرميه بقوة ، تعانده الأتربة المتراكمة ، لم يعد صدره يحتمل ، ينتابه سعال مفاجئ ، يحاول كتمانه، ولكن لماذا لم تعد هنا لكي أخاف من علوّ صوتي وهذياني بكلمات ألعن فيها سعالي ! كانت تقترب منى في هدوء، تحتضني بقوة ويداها تدلكان صدري المنفطر، فتسكن كل جوارحي، حتى ذكراها تريحني يا لها من فوضى عبثت بهي بعد رحيلها! ها هي صورتها الوحيدة التي تركتها لي بعد عناء ورجاء ، كانت تخشاني ، لا تثق فيّ حتى ركعتُ بين قدميها، وأقسمتُ لها ألاّ يراها أحد . يعود إلى طاولته، يرمى بجسده فوق كرسيّه الهزّاز وهى ترقبه وتتمسح برجليه تشبّ لتراهما. يبتسم لها، ها هي، نعم.. هي سمراء رهيفة القلب، مليحة العينين، عذبة الصوت، رقيقة الملمس ، طلبت أن أرسمها فرفضت قالت:أنا طيف لن تراه إلاّ في منامك . صدقتْ.. فهى الآن طيف أراه في سحابة دخان لا تنتهي ،رسم الحزن على ملامحه سحابة كآبة لم تحتملها رفيقته فهربت بعيدا، وغاص هو في دخانها مغمض العينين ليلتقى بمحبوته في القطار ،في مقصورة القطار تلاقت عيونهما ، ابتسامة ضيافة ثقيلة ، يتأفف لأن رفيقته سيدة تخفي وجهها فلن تكون سفرته مريحة. اتخذ كل منهما جهة مقابلة بجوار الشباك ، خلعت معطفها وكشفت عن وجهها ، فلم يتمالك نفسه، أصدر صوتا لم يخفه إلاّ وضع يده على فيه ، صعق لرؤية هذا الجمال المصري الأصيل، فكم من امرأة عرف.. وكم من جمال سطّر حسنه ورسم حلاوته ، ولكنها ليست مثلهن ، جمالها طبيعي لم تلوثه صبغات الألوان ، شفاه بضّة بلون الفراولة الناضجة ، وعينان عسليتان تشعّان بهجة ،يبرز منها لؤلؤتان بحجم مجرّة صغيرة، تتنهّدان صعودا وهبوطا مع حركات القطار السريع، يزيدانه لهفة للمسهما فى صومعته الخاصة ، يا لها من لوحة ربانية !ويا لك من ماجن تحب العبث بالجمال ؟! لم يكن اللقاء صدفة تحادث نفسها ، أنت يا من تركع لك النساء، ويحطن بقلمك فيراقصهن كعرائس المولد ،أيها المغتر بنفسك ،وبفرشاتك وألوانك ، هل تفكّر الآن كيف تمتلكني ، كيف ترسمني ، أم كيف تمارس العشق معي؟ تنظر إليه وينظر إليها، كل منهما يتيه ويعود ..في لحظة ما فقد كل منهما صبره وتعالت الكلمات فوق الشفاه الصامتة كالبركان ، هو: من أنت؟ هي :أنت الكاتب المشهور ….. ـ نعم أنا هو ـ وأنا واحدة من المتيمات بقلمك .، يضحك ساخرا :الآن سهلت المهمة علي ، ستقترب أكثر ذئب يصطاد ضحيته، وضحية تحيك شباكها بقوة . تجاذبا أطراف الحديث فسكن كل منهما للآخر، ووجد فيه ضالّته ،انطلقا إلى صومعته . وهنا عاد إلى دخان سيجارته من جديد ، ونظراته تتجول بالمكان ، هنا جلست وهنا وقفت وهناك وضعت يدها حول خصري تداعب أذني بلمستها البرّية المتوحّشة وتهمس لي كم تحبني؟ وتعلو ضحكاتها ، وبسرعة تجيب :أعرف أني واحدة أخرى فئ دفتر مواعيدك . لماذا صمتُّ وانعقد لساني ؟ لماذا لم أتمسّك بها ؟ وما تلك الضحكة المنفّرة التي أطلقتها عجبا وتيها بقولها. لا لم تكن واحدة منهن.. لم تكن أبدا مثلهن ، لم تعبث بدفاتري لتنتقي أحلى العبارات وتتزيّن بها في محافل الكُتّاب ! لم تسكرني بخمر شفتيها لأكتب لها قصائد حب تذيّلها باسمها وتتغنى بها ! لم تحفر اسمي موشوما على صدرها كما فعلن ، لم أرسمها بفرشاتي لوحة عارية من أخمص قدميها إلى أطراف شعرها ! لم ترهقني بأسئلة العشق الفاجر، لتخفي عنى حقيقة عطشها للشهرة ! لم تكن يوما مثلهن . واليوم أنا هنا ..فأين هي؟ إنها في أحضان حبّ زائف، لا يملك منها سوى جسد لا تملكه هي الأخرى بل امتلكته أنا! في ثوب عارٍ كم تمنّت أن تمزقه أمامي إن أنا أردت ، في حضرة قلب لا يعرف كم تهواني ، وكم كتمت هواها لعبثي ومجوني وفظاظتي الآن هى هناك، وأنا هنا معك أيتها الأليفة الصمّاء، وسحابات دخان، وكرسيّ هزّاز، وسكون الليل الموحش ، أنا وأنت . 2015-11-07 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet