الفنّ الأوغاريتيّ : محمّد أسعد سموقان -فنّان تشكيليّ – اللاّذقيّة – سورية 18 أكتوبر,2015 محمّد أسعد سموقان لا ننكر أن البحث الرّامي إلى وضع أسس للفنّ الأوغاريتي اعتمادا على الأشكال المكتشفة في أوغاريت “رأس الشمرا” بحث طويل ،شاق، محفوف بالمزالق .لذلك يتطلب الحذر والتريّث. ولابدَّ من أن تكون الرقي الحضاري في أوغاريت مجسداً باللوحات والمنحوتات التي أبدعتها أيدي الأوغاريتيّ الفنّان . فروح الأوغاريتيّ كانت تبحث عن الحريّة والتخلص من كل ما هو زائد و تدفع إلى الإبحار نحو اكتشافات جديدة. والصراع بين الكلّي الماثل في قدرة “بعل” والإله “يم” هو صراع من أجل تغليب الخير لأن النتيجة هي أن “بعلا هو المنتصر” ..وما يقدمه من تضحيات ليس إلا كل ما يثقل جسده من زخارف زائدة . لهذا نرى الأوغاريتي يميل إلى التجميع والاختصار. وهو ما يشي بأن القدرة الحسابية كانت عنده متميزة مقارنة بما كان سائدا في الحضارات المجاورة . كان الإنسان القديم الذي يكتب يستخدم عدة مقاطع ليستطيع أن يعبر عمّا يجول في خاطره . لذلك كانت اللغة عنده “مقطعيّة”. أما الأوغاريتي فقد اختصر الكتابة إلى الأبجدية المعروفة لدينا..وإذا كان العالم اليوم يعترف بقدرة هذا المخترع الأول في هذا المجال – وكانت هذه الأبجدية هي الأساس – فحريِّ بنا نحن الأحفاد أن نُفهم العالمَ أن عظمة أوغاريت لم تتأتّ فقط من أن الإنسان الذي عاش في هذه المنطقة هو المخترع الأول للأبجدية . . وإنما هو الذي استطاع أن يتخلص من الأحرف الزائدة. ومن أقوى الأدلة على ذلك أن الفنان الأوغاريتي اختصر الإنسان في خط واحد يتعلق بعين كبيرة واضحة . • الاستناد إلى الأرض : مما وصفت به الأرض ولا تزال عند العرب أنها أرضٌ بَعْلٌ..أي الأرض التي يرويها الإله بعل بالأمطار ولا يسقيها الإنسان بمياه العيون أو الأنهار .. وبعل هو إله العواصف والخير والمطر .. لذلك من الطبيعيٌ أن يظلّ الأوغاريتيون ينتظرون على الدوام قدوم راكب السحب إلههم الخيِّر السخيّ “بعل ” الذي كان بيته على جبل الأقرع رمزا للانتصار ومن البديهي ألا يفارقهم الحلم بالحب والماء والخير.ولما كان هذا التصور للكون متماسكا فمن الطبيعي أن يبتعد الفنان الأوغاريتي ابن تلك البيئة عن رسم اللوحات المهزوزة ..المعلقة في السماء وأن تكون اللوحة عنده مدروسة متوازنة وأن تكون قوائم الحصان ثابتة في الأرض . فالشكل المرسوم لا يزحف على الفراغ المتروك وليس له قيمة أكبر منه. وإنما الحرص واضح على الموازنة بين الشكل والفراغ. . وفي لوحة الأوغاريتي هدوء يدعو إلى الراحة والطمأنينة وا يمت إلى الاعتداء بصلة .وكلا المتصارعين قويٌ حتى إن اللوحة تبدو مجموعة أشكال مغروسة في الأرض.والإله “يم ” المكسور أمام جبروت “بعل” الكلي يبقى قوياً. وذلك جليّ في الشرر الذي يتطايرُ من أنفه. والشكلُ والخطُ والمساحةُ في التكوين المغلوب ليست أقل عظمة وقوة منها في التكوين الغالب. • الفن الأوغاريتي يعتمد الحركةَ وشدةَ الثبات: على الرغم من أنَّ الخط عند الفنان الأوغاريتي ليّن في العين التي يرسمُها ومن أن فيه حنوا يحاكي ذيل الحصان ورقبته .. وطريٌ في السمكة الدائرة وراء أختها إلا أنَّ مجمل الخطوط في الشكل المرسوم من حيث هو كل متكامل يوحي بعنف شديد يولِّد قدرات كامنة ويحمل دلالات العظمة والغضب وقت القتال وكذلك معنيي الالتصاق والعشق وقت الحب . أما الخط الذي يلف شكل الثور والسّبُع والنمرٍ ، فهو خط لينٌ مطواع لا من حيث إنه ينطوي على إبداع خارق في المستوى الدلالي ..بل لأن الأوغاريتي استطاع التخلص من كل عنصر زائد في الأشكال التي ينحتها ويرسمها و من كل الزخارف غير الوظيفية في الثياب التي يرتديها والأواني التي يستعملها. فتميل الزخرفة لديه عندئذ إلى البساطة وتتجنب التعقيد.وهو ما يفسر مثلا أن زهر الرمان والشمر يزيِّن الألبسة وأن غصن الزيتون قد اتخذ رمحاً للإله بعل. فالزخرفة في تاج الملك ليست مفصولة عنه. بل إن التاج من حيث هو كل زهرة رمان والريح غصن زيتون. إذاً الشكل في أوغاريت مختصر بوجه عام. . • العين الواضحة: كان الفنان الأوغاريتي يصر على تكون للشكل الذي يرسمه عين كبيرة واضحة،تأخذ نصف الرأس في السمكة التي تلاحق الحصان بغنج وتأخذ مقدمة الرأس في الإنسان الذي يوقِّع العقد التجاري مع إنسان الحضارات المجاورة. إن العين عنده دليل اهتمام.والخط المغناج فيها يوحي بالحنوّ والدلال .وحتى لو كانت هذه العين لصياد نمور فالخط فيها لا يكون قاسيا…و المساحة فيها تؤكد أن هذا الصياد يرى كل النمور والسباع القادمة. أما العين في الشكل الإنساني فتأخذ الجسد بأكمله. ومعنى هذا أن الذي كان يهم الأوغاريتي هو الرؤية والبصيرة عند الإنسان في المقام الأول وعظمة الفنان الأوغاريتي تأتي من قدرة التفحص لديه.. فقد أخذ يقارن لغته باللغات المجاورة ويجعلها ضمن ترتيب خاص يكون لديه بمنزلة القاموس الذي يقدمها به للأحفاد . نراه يحصر مساحة صغيرة قاسية شبيهة برأس الدبوس تجر خلفها مساحة كبيرة.وأحياناً ينفلت الخط عند الصدر ليسمح للثور بأن يتنفس ويزمجر. وهكذا فطراوة الخط وليونته توجهان هيجان الثور حين يتسع صدره ويتعضل. وهذا الهيجان مسجون لا يقدر الخروج إلا من هذا الرأس الصغير وقت الصراع. الخط ليّن، طيّع أمام الهيجان وكابح عند الارتخاء… وهو يلف قوائم الثور ويعانق الكتلة . • الجذع يتميز بالطول: المعروف تشكيلياً أن الأجسام المتطاولة تميل إلى الحب وإلى الضعف أحياناً … وقصر الجسم يُنظَر إليه كأنه كتلة قوية متماسكة. والسؤال المدهش هو كيف استطاع الفنان الأوغاريتي أن يجمع بين تطاول الجذع وقوته … وهذا في الحقيقة ما يميِّز فنه عن فنون الحضارات الأخرى ، إذ الأشكال فيه تتقدم مغناجة بطولها إلاّ أن احترام الخط زحفَ المساحة يعطي لهذا الجسد المتطاول كل القوة المستعدة للتخلي عن الجزء الخلفي عند الصراع. أما صغر الرأس واختصاره في عين الإنسان المتطاول فيمنحانه قيمة وشموخا ويعطيان أهمية للرؤية والوضوح. إن تطاول الجسد وامتداده في الثيران يخففان من حدة العنف ويجعلان القتال يرمز الى المحبة والخير. • التكوين في أوغاريت : إن دراسة واعية للوحات وللقطع الفنية المكتشفة في أوغاريت تؤكد أن الفنان الأوغاريتي كان يصمم أشكاله دون خوف ويصب رؤاه دون تكلف أو افتعال ..الرؤية لديه قويه فلا خوف من البعد الثالث كما هو عند المصريين القدماء الذين كانوا يصفّون الأشكال المتباعدة بعضها فوق بعض فنرى في لوحة “الظباء والأسماك” الظبي يدور خلف الآخر والسمكة تداعب أختها بحركة دائرية تزداد عنفواناً كلما طال النظر إليها . والجميل في الأمر إن توزيع هذه الأشكال ليس على حساب الفراغ .فللفراغ أيضاً قيمته التوزيعية.. الفراغ يقاوم الأشكال التي تدور.. إذ اللوحة تولِّد قدرة وطاقة ، طاقة محبة السمك للأحصنة ، طاقة الصراع من أجل الخصب والخير. 2015-10-18 محمد صالح بن عمر شاركها ! tweet